في ذكرى النكبة شعث يروي قصة خروجه من يافا
في يافا يوم النكبة
كتب : نبيل شعث – عضو اللجنة المركزية لحركة فتح
في يوم النكبة ذهبت الى يافا، احياء لذكرى النكبة، وتأكيداً لحق العودة..
يوم 13 مايو 1948 سقطت يافا المدينة الحبيبة الى قلبي. كنا قد غادرناها قبل سقوطها الى الاسكندرية، ولم أستطع العودة اليها الا في يونيو 1994 وهي تحت الهيمنة الاسرائيلية ، و جزءاً من أهلها هجر منها الى الاسكندرية بقوارب صغيرة، غرق منهم الكثير في الطريق، وكان والدي في مينائها يومياً يترقب وصول المهجرين، لاغاثتهم واسعافهم واسكانهم. أصبحنا لاجئين يومها،. بقيت يافا في فكري وأحلامي وفي قلبي، لم تغب عن بالي، لم أنسها في طفولتي أو شبابي. كانت هي صورة فلسطين عندما أغمض عيوني وأتذكر فلسطين.
ذهبت أولاً الى مدرستي الأولى (تابيطا) التي يديرها راهبات كاثوليك اسكتلنديات. تصورت في المدرسة التي قضيت فيها سنتين جميلتين. مشينا في ميدان الساعة ثم ذهبنا الى شارع النزهة حيث سينما الحمراء ما زالت قائمة " ولكنها لم تعد داراً للسينما. هنا غنت أم كلثوم، وحضر يوسف وهبي وعزيزة أمير، وأشهر فناني مصر. وفي سينما الحمراء وقعت في غرام فيلم "رابحة" وبطلاها "كوكا"، و"بدر لاما" ، "شجيع" السينما وقتها، وهو فلسطيني من بيت لحم هاجر أهله الى تشيلي وتعلم وأخوه صناعة السينما هناك وعادوا الى مصر ليطلقوا صناعة السينما فيها. كانت الحمراء أجمل سينما رأيتها في حياتي. كان هناك في يافا جريدتين يوميتين "فلسطين، والدفاع"، وكان هناك دور للنشر أهمها "العصرية" للنشر والتوزيع، وكان هناك مجتمع مدني متميز، ووحدة وطنية اسلامية مسيحية، وبلد يتسع لكل "غريب". كانوا يسمونها بلد الغريب.
تحركت مشياً الى المدرسة العامرية التي تركتها في الصف الثالث الابتدائي، وكان أبي مديرها، والاستاذ محمد هيكل معلمي فيها، وهناك تعرفت على أصدقاء الصبا نائل هاشم، وأحمد العمري وجمال جبر. الى جانب المدرسة كان هناك مستشفى الدكتور الدجاني الذي عولج به أخي نديم بالبنسلين لأول مرة في فلسطين، وكان البنسلين من مخترعات الحرب العالمية. المدرسة والمستشفى ما زالا موجودين ، تديرهما مؤسسات اسرائيلية.
ثم ذهبت الى بيتنا (أنظر الصورة). بيتنا للأسف مهدد بالسقوط وقد تم افراغه من "مركز معالجة المدمنين " الذي كان يشغله. كان بيتاً جميلاً له حديقة واسعة، مع الوالد والوالدة، كانت ميسون ونهى أختي العزيزتين، وهناك ولد أخي نديم، وكانت جدتي أم رشدي "البركة" لبيتنا. لم يسمحوا لي أبداً أن أدخل بيتي وأرى غرفتي فيه.
أوقفتنا امرأة يهودية في شارع النزهة، وصاحت بشكل سمعه جميع المارة: لقد سرق اليهود بلدتكم للأسف في النكبة وما بعدها، ونهبوا بيوتكم. هذا بلدكم، وهذه بيوتكم. كم أخجل أني يهودية وأننا ظلمناكم. استمر مشينا في شوارع يافا. لم يعد هناك بيتنا في المنشية، فلقد سرقوا حي المنشية بكامله وضموه الى تل أبيب. والميناء حولوه الى بائعي اللوحات الفنية. أما باقي المدينة فقد بقيت كما أذكرها طفلاً في الثامنة من عمري. اختفى عبق الياسمين الذي كان يميز يافا، وكان عطره يذكرني بها. أذكر أول زيارة لي لنيقوسيا في قبرص، كم ذكرني عطر ياسمينها بيافا.
انتهت زيارتنا بالتوجه الى شاطئ يافا الجميل الرائع في العجمي، والى مطاعم السمك العربية الفلسطينية هناك.
سألني أحدهم هل تشعر بالغربة في بلدك؟ قلت: أبداً أحس أنني في بلدي، لم أغادرها. لم يضع حقي بالعودة اليها. صفد مسقط رأسي بلدي ، وغزة بلد والدي وعائلتي بلدي، ويافا بلدي، ، والقدس العظيمة بلدي، ونابلس بلدة زوجتي بلدي، والخليل وعكا وبيت لحم، وبئر السبع، والناصرة..كلها بلدي.
قضيتنا عادلة، وقد عرضنا باخلاص حلين انسانيين للوصول الى الوطن والى السلام: الدولة الديمقراطية الواحدة، لنا ولهم، أو الدولتين المتجاوتين في سيادة وحرية واستقلال وأمن وسلام لنا ولهم، مع حقنا في العودة الى مدننا وقرانا التي أخرجنا منها، وهم يرفضون.
سيستمر هذا الشعب في اصراره ونضاله وأمله وابداعه وصموده الى أن يحقق الحرية والاستقلال لأرضه والعودة لشعبه.... وستبقى يافا في القلب والفكر.