أعلن براءتي- حنان باكير
وجدت نفسي أتسلق مرتفعا شاهقا.. متعة العلو أنه يمنحك وضوح الرؤية، والنأي عن كل ما حولك، وربما عن نفسك، فتكون أكثر تحررا من ذاتك. وقفت وكأنني مخلوق أثيري، أنظر من مكاني في الأعالي، الى كوكب يسمونه الأرض.
سرحت نظري في الأنحاء.. رأيت غابة كبيرة، موطن كل انواع الحيوانات، من أكبرها وأشرسها، حتى أضعفها وأقلها حيلة. كانت تلك الحيوانات التي نسميها وحوشا، تسرح تمرح في عالمها. تقتل.. فقط عندما تجوع. انها غريزة حب البقاء. الضباع التي تثير بنا القرف والاشمئزاز، رأيتها، تنشئ دار ايتام، لصغار الضباع الذين فقدوا معيلهم، حيث يُجمعون في مكان، ويقدم لهم الطعام. قطعان الثيران، تسير مجموعات وتتحد لإنقاذ ثور، اوشك على الوقوع في براثن نمر.
تذكرت ابنتي التي قالت لي ذات مرة: لماذا نستعير جميع صفاتنا الجسدية والنفسية الجميلة، من الحيوان، رشاقة الغزال، عيون المها، عنق الزرافة، شجاعة الأسد، صبر الجمل، وعنفوان الحصان.. ولكنّا حين نقول لأحد انت حيوان يغضب!!
في ناحية أخرى، وأنا ما زلت في مكاني الشاهق، هالني مشاهدة بعض الأقوام.. أحياء متقاربة، يتجاور أصحابها منذ زمن طويل. يتشاركون في اللغة والثقافة والتاريخ والجغرافية. غول ضخم يهاجم أحد الأحياء، ويمعن قتلا وتخريبا.. فتتحد بقية الأحياء المجاورة، ضد الضحية، لا معها، وتسهم في تدميرها. يأتي دور الحي الثاني، ثم الثالث.. ولا تتعظ بقية الأحياء.
في سبعينيات القرن الماضي، قرأت مقابلة اجراها صحفي غربي، مع زعيم قبيلة من آكلي لحوم البشر. قال الزعيم للصحفي: نحن نقتل لنأكل.. أما أنتم فلم تقتلون بعضكم، ما دمتم لا تأكلون لحوم البشر!! تذكرت هذا وأنا ألملم ذهولي المبعثر في الأرجاء! من أين نبز هؤلاء الأقوام الذين يقررون متى يضعون حدا لحياتك.. والى أين يرسلونك الى الجحيم أم الى النعيم.. وهم يرسمون لك شكل حياتك!
أشحت ببصري عن مشاهد القتل والذبح والتدمير و..و.. فوقعت على ما هو أشد وأقسى.. أقبية وزنازين معتمة.. وسائل تعذيب جهنمية.. ارتبكت، هل هذا الجحيم الذي وصفوه لنا!! ساديون.. مرضى نفسيون.. وحوش أخذت أشكال البشر.. تستمتع، وتستلذ وتتفنن بأساليب التعذيب.. ولا فرق في ذلك بين أجهزة تنتمي لدول متحضرة، او دول متخلفة! خرج صوت من داخلي يصرخ: أعلن براءتي من الانتماء لعالم البشر.. صحوت من حلم يقظتي، لأجد نفسي أمام حاسوبي، أنظر الى الصور وأقرأ.. انفجار مسجد، في لحظات خشوع وسجود المؤمنين. وفي مكان آخر، عنف يضرب سواحا، جاؤوا في اجازة، فرحلوا في اجازة أبدية. في فرنسا رأس انسان فرّ من جسده!! لوثة جنون تضرب العالم.
رنّ هاتفي.. ليخرجني من لوثة حزن طويل.. كانت ابنتي، دعتني الى نزهة في الجزيرة. وان ابنها/ حفيدي، يصرّ على اصطحاب تيتا معه! ولأن الطفل هو الدكتاتور الوحيد الذي ننصاع له بحب ورضى، وافقت وما دريت بأني سأجد خاتمة لتغريدتي، تتناسب مع موضوعي. في منبسط من الأرض أخضر، وقف فرخ نورس صغير، ربما كان حديث العهد بالطيران.. جاءت أمه مسرعة لحمايته، ما ان شاهدتنا، حتى حلقت على مستوى منخفض، وبشكل دائري حول فرخها، لمنعنا من الاقتراب منه، مطلقة زعيقا غاضبا مرعبا، ابتعدنا مسرعين بالأطفال، ليس فقط انصياعا لرغبته، انما خوفا من غضبها! حملت فرخها واعادته الى صخرتها وسط البحر!!