قصة حرب الغاز في إسرائيل
تعيش إسرائيل في الأسابيع الأخيرة "على أعصابها" في ظل معركة اقتصادية تتصدر عناوين نشرات الأخبار والصحف حول مستقبل قطاع الطاقة في إسرائيل. الجميع يعلم أن حقول الغاز الطبيعي المُكتشفة في السنوات الأخيرة في ما تقول إسرائيل إنها مياهها الاقتصادية ستحول هذه الدولة من دولة مستوردة للطاقة إلى دولة مُصدّرة. الحرب الطاحنة حاليا تدور بين ثلاثة أطراف، لكل منهم قوته ونقاط ضعفه، وهي تقترب من خط النهاية لتُحدد كيف سيكون شكل قطاع الطاقة الإسرائيلي في المستقبل القريب، الأمر الذي سيؤثر مباشر على كل مواطن، بما في ذلك المواطن العربي في البلاد. فيما يلي قصة حرب الغاز في إسرائيل. قصة مئات مليارات الشواقل، قصة تصطدم فيها السياسة بالاقتصاد، ورأس المال بالحقوق المدنية، وأباطرة المال مع النشاطين الاجتماعيين البسطاء...
أصل الحكاية
تبدأ قصة الغاز الإسرائيلي مع اكتشافات حقول الغاز الأولية في ما تقول إسرائيل إنه مياهها الإقليمية سنة 2000. الجهة الطلائعية التي بدأت بالتنقيب عن الغاز في إسرائيل كانت عبارة عن شراكة بين شركتين؛ شركة "ديلك" للطاقة التي يملكها إمبراطور الأعمال الإسرائيلي يتسحاك تشوفا، وبين شركة نوبل إنيرجي الأميركية. لم تكن مسألة التنقيب عن مصادر طاقة في إسرائيل أمرا مغرياً بالنسبة لشركات التنقيب المختلفة، فلم تتقدم لمناقصات التنقيب التي أعلنت عنها وزارة الطاقة الإسرائيلية سوى الشراكة بين ديلك ونوبل (في ما يلي "الشراكة")، وعليه حصلت الشراكة على 22 امتيازا للتنقيب على الغاز والنفط. هذه الامتيازات غطّت ما لا يقل عن 60% مما أطلق عليها المياه الإقليمية الإسرائيلية، وأصبحت صاحبة حق التنقيب في غالبية المناطق التي من الممكن أن تحتوي على النفط والغاز الطبيعي. بين السنوات 2009-2014 نجحت أعمال التنقيب التي قامت بها الشراكة الإسرائيلية – الأميركية في اكتشاف عدد من حقول الغاز الطبيعي في مناطق التنقيب. حصلت شركة التنقيب على 67% من الحقوق في حقلي الغاز "تمار" و"داليت"، على 85% من الحقوق في حقل الغاز "ليفياتان"، والذي يعتبر حقل الغاز الأكبر والأغنى، وعلى كامل الحقوق في حقلي الغاز "كاريش" و"تنين"، اللذين يعتبران أصغر بكثير من الحقول الأخرى المذكورة. لأسباب قانونية مُختلفة، توجب على الشراكة بين ديلك ونوبل الحصول على موافقة مفوض منع الاحتكار على أعمال التنقيب والاستخراج. لأسباب غير مفهومة تقدمت الشراكة بطلب الحصول على موافقة مفوض منع الاحتكار بعد أن بدأت بأعمال التنقيب والاكتشاف في حقل "ليفيتان"، الأكبر من بين الاكتشافات، وعليه طُلب من المفوض منح الموافقة بأثر رجعي، بعد أن تم التنقيب وإعلان الاكتشافات. بالمقابل بدأت الشراكة بتطوير حقل "تمار" (حصلت على موافقة المفوض مسبقا) وبضخ الغاز للسوق الإسرائيلية.
علم أحمر
بالنسبة لمفوض منع الاحتكار أصبحت تركيبة سوق الغاز الطبيعي في إسرائيل إشكالية إلى حد بعيد. عمليا، قبضت الشراكة بين ديلك ونوبل إنيرجي على الغالبية العظمى من مخزون الغاز الطبيعي للدولة، وبفضل سيطرة الشراكة على حقل "تمار" الذي بدأ بضخ الغاز في نيسان/ إبريل 2013، أصبح من الممكن أن تتحول هذه الشراكة إلى جهة احتكارية تقبض وتسيطر على قطاع الغاز الطبيعي في إسرائيل. بناء على ذلك بدأت قبل سنتين تقريبا محاولات من طرف مفوض منع الاحتكار لإعادة ترتيب هيكلية سوق الغاز الطبيعي في إسرائيل لضمان عدم احتكار أي جهة تجارية لهذا المورد الحيوي. بدأت مساعي التعامل مع الأزمة القادمة بين مفوض منع الاحتكار وبين شراكة التنقيب قبل أربع سنوات عندما تم تشكيل لجنتين لدراسة الموضوع وتقديم مقترحات لحلول مناسبة. اللجنة الأولى، والتي ترأسها البروفيسور إيتان شيشنسكي وسميت باسمه، عالجت موضوع تقسيم أرباح ثروة الغاز الطبيعي بين الدولة وشركات التنقيب. أما اللجنة الثانية، والتي ترأسها شاؤول تسيمح، مدير عام وزارة الطاقة، فقد عالجت مسألة تصدير الغاز. قدمّت اللجنتان توصيتهما قبل سنتين تقريبا، ومنذ ذلك الحين وحتى الآن تحاول الشراكة بين ديلك ونوبل تحسين شروط الصفقة مع الدولة. احتمال تحول شراكة ديلك ونوبل إلى قوة احتكارية تُسيطر على قطاع الغاز الطبيعي في إسرائيل أثار قلق جهات مختلفة في المجتمع الإسرائيلي، بدءًا من سياسيين من المُعارضة واليسار الاقتصادي، مرورا ببعض وسائل الإعلام الاقتصادية المحسوبة على اليسار وعلى رأسها صحيفة ذا-ماركر، وانتهاءً بناشطين ميدانيين يعتبرون ما يجري الآن محاولة قرصنة يقوم بها أصحاب رأس المال للسيطرة على الموارد الطبيعية للدولة. بالنسبة لهؤلاء، قيام جهة احتكارية تُسيطر على مورد طبيعي حيوي مثل الغاز الطبيعي هو أمر يُهدد الدولة والمجتمع ويُضر قطعا بالصالح العام، إذ أنها تُركز قوة اقتصادية كبيرة جدا بين يدي مؤسسة تجارية يحكمها منطق الربح والخسارة فقط. الادعاء المركزي للجهات المُعارضة هي أنه حتى نهاية العقد الحالي، سيعتمد 70% من إنتاج الكهرباء في الدولة على الغاز الطبيعي. بالإضافة إلى ذلك، تُعتبر الطاقة الكهربائية المورد الأساسي لتطهير ونقل المياه في البلاد. وفي المستقبل القريب ستتحول الصناعة المحلية من الاعتماد المُطلق على النفط ومشتقاته إلى الاعتماد شبه المُطلق على الغاز الطبيعي. كما وتنوي الدولة أيضا تحويل وسائل النقل العمومية إلى وسائل تعمل بالغاز بدل السولار والبنزين. بناءً على ذلك، إذا وافقت الدولة على شروط شركات التنقيب والاستخراج، فإنها تودع بيد هذه الجهة الاحتكارية مقومات أمنها الصناعي والاقتصادي، بالإضافة إلى جزء لا بأس به من السيولة النقدية التي ستعود إلى الدولة على شكل ضرائب والتي تُقدر ما بين 150-200 مليار دولار في العقود المقبلة. ولإثبات صحة هذه الادعاءات تُثبت الجهات المُعارضة أن شراكة ديلك-نوبل قد استغلت قوتها الاحتكارية مؤخرا من خلال رفع سعر الغاز الذي تستخرجه وتسوقه. مُستقبلا، يقول المعارضون، ستُهدد هذه الشراكة الاحتكارية أسس "الديمقراطية والمجتمع الإسرائيليين".
"لم أعد استطيع التحمل"
مقابل الموقف الصلب والمتماسك لشراكة ديلك- نوبل، والتي تستعين بكبار المُستشارين والخبراء والمحامين للحصول على أفضل الشروط والامتيازات، تُظهر الحكومة والوزراء والسياسيين بشكل عام حالة من البلبلة والتشرذم في موقفهم من الموضوع. الصراعات حول الأمر داخل الحكومة وبين أروقة الكنيست لم تهدأ منذ أشهر ووصلت إلى ذروتها عندما أعلن مفوض منع الاحتكار، دافيد غيلو، في أواخر شهر أيار استقالته من منصبه احتجاجا على الخطة التي تنوي الحكومة تقديمها لإعادة هيكلة سوق الغاز، وقال أنه لم يعد يستطيع تحمل السياسة التي تنتهجها الحكومة لصالح شراكة ديلك-نوبل الاحتكارية.
استقالة المفوض سهّلت على الحكومة عرض مسار جديد للإعادة هيكلة سوق الغاز. بحسب المسار تقوم شراكة ديلك-نوبل ببيع حصصهما في حقليّ "كاريش"- "تنين" الصغيرين؛ ثم تبيع ديلك حقوقها في حقل "تمار" وتبقى في "ليفياتان" فقط؛ أما نوبل فستخسر القليل من حقوقها لكنها تظل صاحبة الحصة الأكبر في "تمار" و"ليفياتان". المؤيدون لهذا المسار (نتنياهو وغالبية أعضاء حكومته) يرون في المسار المُقترح فرصة لكسر احتكار شركة نوبل الأمريكية على أعمال تنقيب الغاز في إسرائيل، ويضعف احتكار ديلك بعد أن يمنحها حقوق استخراج الغاز من حقل واحد فقط.
أما المعارضون (صحافة، رأي عام، أعضاء كنيست وخبراء) فيرون في المسار المطروح تكريسا وترسيخا لاحتكار شركة نوبل التي ستظل صاحبة الحقوق الحصرية على أكبر حقلين للغاز الطبيعي. كما أن خروج شركة ديلك من حقل "تمار" سيكون سنة 2021 فقط، وهذا وقت طويل جدا ويمنع ظهور أي منُافس حقيقي.
في المقابل أعلنت شراكة ديلك- نوبل أن أي خرق أحادي الجانب للاتفاقيات المُبرمة معها ستدفعها للجوء للمحاكم الدولية. الحكومة تستغل هذه التهديدات لتدعيم ادعاءها بأن أي تأخير في المصادقة على المسار الذي تقترحه سوف يؤدي إلى الإضرار بسوق الغاز لسنوات طويلة وسيضيع على الاقتصاد المحلي مئات مليارات الدولارات.
800% ربح مقابل المُعارضة الشعبية الشديدة للمسار الذي عرضته الحكومة أعلنت شراكة ديلك-نوبل عن ميلها المبدئي لقبول المسار لكن مع إجراء تعديلات غير قليلة، بدءً من تأجيل موعد تطوير حقل "ليفياتان"، الذي كان من المفترض أن يبدأ بضخ الغاز سنة 2018؛ مرورا بمنح الشركتين تسهيلات ضريبية وتصديرية، وانتهاءً بمنح الشركتين حق الفيتو على أي قرار يؤدي إلى تخفيض سعر الغاز في السوق. وفي سياق سعر الغاز يُذكر أن سعر هذه السلعة ارتفع في إسرائيل بـ 56% منذ عالم 2009، ومن المتوقع أن يرتفع بـ 40% في المستقبل القريب. وبحسب رأي الخبراء، فأن ارتفاع سعر الغاز بنسبة 20% يُعادل اليوم رفع سعر الكهرباء البيتية بـ 3.5%. وفيما تدفع شركة استخراج الغاز 0.5$ لاستخراج وحدة طاقة، فإن سعر بيع هذه الوحدة من حقل "تمار" سيكون أكثر من 6 دولارات. شركات الغاز تُعارض بشدة أي تغيير في أسعار الغاز المُتفق عليها، وخاصة السعر المنصوص في الاتفاق بينها وبين شركة الكهرباء.
الشركات تحظى بدعم رئيس الحكومة ووزارة الطاقة، إذ تخشى الحكومة من قيام الشركات بمقاضاتها على خرق الاتفاقيات الأمر الذي سيكون له عواقب سلبية فيما يتعلق بقدوم مستثمرين أجانب للاستثمار في سوق الطاقة الإسرائيلي على المديين، القريب والمتوسط. سبب إصرار الشركات على تعديل المسار الذي قدمته الحكومة هو بالأساس رغبتها في تصدير ربع انتاجها من الغاز لشركة اسبانية تُشغّل مرفق تصدير في مصر. الحكومة من جهتها تُصر على منع تصدير أي كمية ملحوظة من الغاز ما دام حقل "ليفياتان" غير جاهز لضخ الغاز للساحل. إنها حرب المصالح إذا. من جهة تقف الشركات ورجال الأعمال والمصالح ومئات مليارات الدولارات، تدعمها فيالق من السياسيين والصحفيين اللوبيهات التي ترى في ثروة الغاز المُكتشفة فرصة العمر لتحقيق الثروات الشخصية. لقد وصل الأمر بشركة نوبل أن دفعت بأعضاء الكونغرس الأمريكي للضغط على السياسيين في إسرائيل، بل وانتشرت الأخبار بشأن اتصالات بين السفير الأمريكي وبين أعضاء الكنيست العرب لحثهم على التصويت مع المسار الذي اقترحته الحكومة. في المقابل تقف مجموعة من الخبراء والصحفيين والناشطين الاجتماعيين الذين يرون في المسار الذي تقدمه الحكومة حاليا كارثة ستبكي عليها الأجيال وخطرا يُهدد أمن واستقرار البلاد ونظامها السياسي لسنوات طويلة. لن يبقى الأمر مُعقلا وفي الأيام القادمة سيتم تحديد مصير مستقبل مورد الطاقة في إسرائيل.
خاص بمجلة "مالكم" الاقتصادية