عبد الله داود.. عودة الجثمان- عيسى عبد الحفيظ
عام 1962 انطلقت صرخة الطفل الاولى في مخيم بلاطة عبد الله داود الطفل الفلسطيني ابن الهجرة القسرية نشأ وترعرع في المخيم اسوة بعشرات الآلاف من الأطفال الفلسطينيين الذين ولدوا بعد النكبة.
هؤلاء الاطفال الذين كتب عليهم أن يكبروا قبل الأوان، كوخ قصديري في المخيم او طيني لا يقي من برد الشتاء ولا من قيظ الصيف. حياة بائسة، ملابس رثة، لا فرحة في العيد ولا في المناسبات القليلة هذا ان مرت في ليل المخيم الدامس.
التحق كغيره في مدارس وكالة الغوث الدولية والتي لولاها لما استطاع غالبية الفلسطينيين ارسال اولادهم الى المدارس، كان على عبد الله وغيره الكثيرين الالتحاق بمدرسة رسمية لينهي شهادته الثانوية، كانت هبة سخنين للدفاع عن الارض يوم 30 مارس 1976 اول امتحان للفتى عبد الله البالغ من العمر حينذاك اربعة عشر عاما، فاجتاز الامتحان بجدارة حيث القي القبض عليه والقي في السجن وهو فتى لم تظهر في وجهه الا بعض شعيرات الزغب، كانت تلك المرة الاولى لكنها لم تكن الاخيرة فأدمن الاعتقال وسلخ معظم سنوات شبابه قيد التوقيف اذ لم يكد يخرج حتى يعود ثانية.
انهى دراسته الثانوية بعد جهد وتأخير بسبب الاعتقالات المتكررة، والتحق بجامعة النجاح في كلية العلوم السياسية ليبدأ مرحلة جديدة من النضال في الاوساط الجامعية، وبعد أن كبر وعيه وازدادت ثقافته، استمر بالمطالعة ليتعرف اكثر على فكر حركة فتح التي استهوته منذ سنوات المراهقة.
لذا، لم يكن غريبا ان يكون عبد الله من اوائل الذين وجدوا في عودة الفصائل بعد اتفاق اوسلو ضالته التي طالما حلم بتكملة مسيرته النضالية تحت رايتها، انتمى مباشرة الى جهاز المخابرات العامة وكانت سلفيت اولى محطاته للعمل، ثم الى طولكرم، واخيرا كان في بيت لحم ليشهد الاجتياح وحصار كنيسة بيت لحم الشهير عام 2001.
تم ترحيلهم جميعا الى بلاد الله الواسعة وكانت افريقيا اولى المحطات وفي النيجر تحديدا، اين قضى عبد الله اصعب سنوات عمره والتي قال فيما بعد انها كانت اقسى من ايام السجن بكثير. فالسجن هو احدى محطات المجابهة مع الاحتلال انت تشعر انك ما زلت تؤرقهم وتتحداهم في كل لحظة، اما في افريقيا فماذا تستطيع ان تفعل سوى الجلوس وقتل الوقت في اجترار الذكريات؟
ثابر وناضل وكثف من اتصالاته، واخيرا استطاع وبمساعدة بعض الخيرين الانتقال الى الجزائر حيث قتل الوقت باستلامه امن الساحة هناك، كان هذا العمل بالنسبة لعبد الله لا يعدو اكثر من مهمة مؤقتة الى حين عودته الى الوطن.
لكن الايام مرت وتحولت الى شهور ثم الى سنوات، كان عبد الله خلالها لا يكل ولا يمل عن المحاولات للعودة التي قيل انها ستكون بعد خمسة اعوام من الابعاد، ثم تحولت الى تاريخ لا ينتهي جاء الى عمان بناء على خبر ثبت انه لم يكن صحيحا بأن سلطات الاحتلال قد سمحت له بالعودة، وعاد عبد الله حزينا محبطا مكسورا بل ومريضا هذه المرة، اعتقد انها كانت الضربة الاشد ايلاما بعد الابعاد عام 2001 كانت المسافة الزمنية بين رحلته الاخيرة الى عمان ووفاته اسبوعا واحدا فقط!؟
خانه القلب المثقل بالذكريات والالم والاحلام، والاهم من كل ذلك بالامل في ان يعود يوما الى بساتين بيت لحم التي شهدت طفولته وصباه يتنقل بين زيتونها العتيق بلبلا ينشد للوطن الذي قضى وهو يحلم برؤيته مرة ثانية. لم يتسن له ذلك، وبعد جهود كبيرة تمت الموافقة على عودته ملفوفا بعلم فلسطين اخيرا وجد له مرقدا بمساحة متر مربع، لكنه كان كافيا ليحتضن جسده الطاهر المشحون بالذكريات والآمال وعذابات الغربة.
لا بأس يا صديقي الراحل كنا نتمنى ان نستقبلك على الجسر عائدا مع عائلتك، فاذا بك تعود ملفوفا بالعلم الذي طالما حملته سلاحا تشهره في وجه الجلادين.