القدس. . أو لا دولة لنا أو وطن - موفق مطر
من يسيطر على المقدسات في القدس المحتلة يسيطر على عاصمة فلسطين التاريخية والطبيعية وعلى المنطقة أيضا، لذا يحاول منظرو الاحتلال والاستيطان في دولة الاحتلال (إسرائيل) اغتنام فرصة انشغال دول العالم وتحديدا أوروبا والولايات المتحدة الأميركية بمحاربة إرهاب (داعش) والقاعدة، وكذلك الصراعات الداخلية في أقطار عربية، وتسعير نيران الحروب الطائفية والمذهبية في مشرق ومغرب الوطن العربي لتوسيع قاعدة الصراعات المشتقة من (الدينية) لتشمل الصراع (الفلسطيني- الإسرائيلي) أيضا.
يعتقد قادة اسرائيل ببديهية وقوف العالم مضطرا إلى جانب إسرائيل (اليهودية !!!)، باعتبار عقدة الذنب المحشوة قسرا في مفاهيم الشعوب الأوروبية، ما يعني تقاطع المصالح والمواقف مع اسرائيل، رغم كونها دولة احتلال واستيطان خارجة على القانون الدولي، وحجتهم في ذلك شعارات ذات صبغة دينية للصراع ترفعها فصائل فلسطينية، رغم علمهم المسبق انها الشعارات للاستهلاك المحلي لا أكثر، لكنهم رغم ذلك يستعينون بهذه الشعارات والمقولات، وحتى الوثائق المسربة من هنا وهناك، لدعم روايتهم المضخمة والمبهرة إلى الرأي العام.
ما كان ممكنا تراجع مكانة القدس كأولوية في الذاكرة والوعي الوطني والقومي والإنساني والروحي الديني، ونجاح مخططات التهويد في القدس، وارتفاع وتيرة محاولات اسرائيل الواضحة للعيان للاستيلاء على المسجد الأقصى كما تفعل الآن، لولا عوامل الانقسام والصراعات في الدائرة الفلسطينية والأوسع منها العربية، وانشغال أوروبا بقضايا تمس مصير اتحادها.
لقد تجرأ المستوطنون على "الأقصى" والحرم القدسي، وكنائس المدينة المقدسة، واخذوا يوقدون شرارة حرب دينية، فدولة الاحتلال (إسرائيل) التي تستخدم هؤلاء من طرفها، وتحت ادارتها وسيطرتها، معنية بمنع بروز البعد الوطني والقومي في الصراع الفلسطيني – الصهيوني، واستعادة الوهج الديني لمشروعها الاحتلالي الاستيطاني لأرض فلسطين التاريخية والطبيعية، وما تركيزها اليوم على توفير الفرص للمستوطنين لاقتحام المسجد الأقصى وتقسيم الحرم زمانيا ومكانيا في ظل انشغال العرب والمسلمين بسفك دماء بعضهم البعض، والحرب الباردة الجديدة بين الولايات المتحدة وروسيا، التي قد تتوهج فجأة بفعل الضغوط المتراكمة، وكذلك تخبط أوروبا في مواجهة أزمة اللاجئين التاريخية، الا لقطع الطريق على المشروع الفلسطيني، ولقطع الطريق على توجه القيادة الفلسطينية لاستكمال المعركة الدبلوماسية، التي فازت فيها فلسطين بعدة نقاط مهمة يمكن ان تحدث تحولا تاريخيا في الصراع إذا ما توج باعتراف اممي بدولة فلسطينية كاملة العضوية، ما يعني اندفاع العالم لتبني مشروع قرار في مجلس الأمن الدولي لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي، فحكومة نتنياهو المتطرفة الحالية تستشعر الخسارة السياسية سلفا، مع ثبات القيادة الفلسطينية على مواقفها المعلنة في وثيقة اعلان دولة فلسطين (الاستقلال) الصادرة عن المجلس الوطني الفلسطيني عام 1988.
أدرك قادة دولة الاحتلال متأخرين فشلهم في إقناع العالم بأحقيتهم التاريخية في القدس فاحتلال المدينة المقدسة وتكثيف الاستيطان فيها وحولها منذ حوالي نصف قرن، فذهبوا الى حد الاعتقاد ان تسريع مخطط تهويد معالمها، سيبدد الهوية الوطنية الفلسطينية والعربية للقدس، رغم عجز آلة الدعاية الصهيونية عن إصباغ القدس الشرقية والمقدسات فيها بصبغة دينية يهودية، ليس بفضل النضال الوطني الفلسطيني، ودفاع الشعب الفلسطيني عن المقدسات في هذه المدينة وحسب، بل بفضل الإيمان الراسخ لدى المؤمنين في فلسطين أولا وأخيرا بأنهم حماة المقدسات الإسلامية والمسيحية في الأرض المقدسة، كأمانة تاريخية ودينية، وبفضل العقلية الوطنية التي دفعت الفلسطيني المسيحي ليكون في الصفوف الأولى من المدافعين عن الأقصى، والفلسطيني المسلم في الصفوف الأولى للدفاع عن كنيسة القيامة.
نحن امام اختبار حقيقي لقدرتنا كشعب على حماية مقدساتنا، التي هي إحدى أهم رموز هويتنا فمكانة المقدسات مقدمة على مكانة السياسات، وصونها وحمايتها والنضال لتحريرها معيار للوطنية.. ونحن على يقين بأن الفلسطينيين سيحمون الأقصى اليوم بقوة وإرادة وطنية، ويشهد المعجزات من يحاول اختبارهم في هذا الميدان. فلا وطنية فلسطينية دون القدس الحرة المستقلة.
وضع الرئيس ابو مازن الأمتين العربية والاسلامية أمام مسؤولياتهما التاريخية والدينية، وبيّن لقادة ورؤساء وملوك وشعوب دولهما الخطر الحقيقي المهدد لوجود المسجد الأقصى، والمعالم العربية للمدينة المقدسة (القدس) بمقدساتها الاسلامية والمسيحية، وطالب بقرارات حقيقية، تنفذ فورا، لحماية الأقصى والدفاع عنه ومقاومة خطط الاستيلاء على الحرم القدسي بتقسيمه مكانيا وزمانيا كما حدث للحرم الابراهيمي، تمهيدا لتهويده!!. والسيطرة عليه واخضاعه لسلطة الاحتلال.
القدس بمعالمها ورموزها المقدسة الاسلامية والمسيحية، عرضة لهجمات وحملات منظمة من المستوطنين والمتطرفين اليهود، وانتهاكات بحماية جيش الاحتلال وتشجيع حكومة نتنياهو الأشد تطرفا في تاريخ الصراع العربي الفلسطيني - الاسرائيلي، فدولة الاحتلال تستولي على أهم معالمها، لأن قادة اسرائيل يعلمون أن دولة فلسطينية مستقلة لا معنى لها –بالنسبة للفلسطينيين -دون القدس، وان القدس الشرقية دون الأقصى والحرم القدسي وكنيسة القيامة وباقي الرموز المقدسة فيها لا معنى لها ايضا، فالفلسطينيون لا يبحثون عن بقعة جغرافية عاصمة لدولتهم، وانما يناضلون لتأكيد أحقيتهم التاريخية بمدينتهم المقدسة، وبهويتها العربية، وأبديتها كعاصمة سياسية لدولة فلسطين الى جانب قيمتها ومكانتها لدى كل المؤمنين في العالم.
يدرك الفلسطينيون حجم ونوعية المسؤولية والأمانة التاريخية والدينية في حماية المقدسات والدفاع عنها، لكنهم يتطلعون الى دور عربي، اسلامي ومسيحي رسمي وشعبي منظم، عبر رحلات الحج والسياحة وزيارة الفلسطينيين المقدسيين الصامدين في مركز طوق نيران الاحتلال الاسرائيلي، والتواصل معهم، ودعم وجودهم، فهؤلاء برهان على الجذور العربية للمدينة المقدسة، ولا بد من الايمان بصبر وصمود وأمانة اهل البرهان.
لا يعقل استمرار تظاهرات كل جمعة من أجل كرسي حكم زال، ولا يعقل اعلان ما يسمونه "الجهاد" من اجل قتل اشقاء في الوطن أو قتال بينهم، ولا يعقل الاصغاء لفتاوى، تدور حول مصدريها الف علامة استفهام! فيما القدس تستصرخ الضمائر الانسانية مع كل آذان وقرعة جرس! أما مئات الملايين المصروفة في أماكن الترفيه والسياحة في العالم، فان القدس أحق بعشرها على الأقل.
تهون على الشعوب والأمم أراوحها اذا ما وضعت طهارة وحرية المقدسات معيارا للانتماء والولاء للوطن، حتى وان اعتبرنا حجر البيت والوادي في الوطن مقدس أيضا فالمقدسات محور الوطن والهوية الوطنية خاصة في الحالة الفلسطينية، فأصحاب المشروع الصهيوني لا يملكون في فلسطين مقدسا واحدا يستطيعون تسويقه امام العالم، ولا يجدون غير اغتصاب هويتنا الثقافية لتسويقها وترويجها لصالحهم بعد تحوير وتزوير في ظل انكفائنا عنها تركها عرضة للاغتصاب.