كسر مشهدية انتصار الفلسطيني- عمار جمهور
التساؤلات المعرفية بشأن الهبة الجماهيرية الأخيرة ما زالت تراوغ ذاتها، وأبرزها تلك التساؤلات النقدية والوجودية التي تتبلور حول محاولة تفكيك المشهد السياسي والوطني الذي يفتقد الى التنظير والتأطير الفكري والفلسفي الحقيقي للفعل الفلسطيني، فالهبة الجماهيرية كسرت عديد القواعد والمسلمات. وخاب ظن المراهنين على ان جيل اوسلو فقد البوصلة، وان ثورة التصاريح في الاعوام الأخيرة، عبارة عن محاولات تأدبية وتأطيرية لتقنين الفعل السياسي والسلوك الفلسطيني الفردي والجمعي بشأن طبيعة الصراع الفلسطيني الاسرائيلي، ومحاولة لدفع الشباب الفلسطينين للمقارنة بين حلم العودة "حيفا، يافا، وعكا" وواقع الوجود في الضفة الغربية، لإحداث صدمة ثقافية قد تدفعه بالضرورة للانصياع للشرط التأديبي للاحتلال.
لكن الواقع بات مغايرا تماما، ليؤكد مجددا بأنه لا لسلطة لمحتل، وان الحتمية التاريخية تفضي الى زوال الاحتلال، وضرورة مقاومته او مقارعته في اقل تقدير، لذلك، استخدم الاحتلال وما زال سياسيات تأديبية لكسر مشهدية الانتصار، وضرب الأمل الفلسطيني في الانعتاق من بوتقة الاحتلال الاحلالي الاستبدالي. وما تظهره الصور التي قد تبدو مسربة خبايا وخفايا مضمون السياسة الاسرائيلية، التي ترمي بالضرورة الى تحقيق جملة من الأهداف لكسر عزيمة الفلسطيني، وثني ارادته، فصور المقاومين الفلسطينيين الشباب غارقين بدمائهم، تهدف لكسر مشهدية الانتصار في الذهنية الفلسطينية، لتظهر أن محصلة الفعل الفردي "المنتصر" للفلسطيني لا تساوي شيئا، وتوحي بأن تضحيتك بذاتك قد لا تفي بالغرض النضالي، فتصوير ونشر صور الفلسطينيين بهذه الطريقة يهدفان لافقاد "المشاهد" قيمته الانسانية، فهو عاجز عن المساعدة. ناهيك عن تأثير تكرار مضمون المشهد بصور وزوايا مختلفة وما يعكسه من بلادة في ذات المتلقي.
تظهر الصور مشهدية التفوق السلطوي للجندي الاسرائيلي على المقاوم الفلسطيني، حيث تتعمد نشرها لضرب الارادة الفلسطينية في المواجهة والتحدي لتحقيق النصر، فالاحتلال يدرك تمام اليقين انه لا يملك القدرة على وقف اعمال المقاومة، فالفلسطيني سلب من الاسرائيلي امكانية التحكم بزمان العملية ومكانها، وما تبقى له "الاسرائيلي" سوى محاولة بائسة لدرء وقوع هذه الأعمال، ووقفها قبل اتخاذ قرار تنفيذها، ومحاولة خلق انطباعات سلبية من جدوى الاعمال الفردية المقاومة، حيث تستهدف رسائل الاحتلال المعتقدات والقيم المرتبطة بجدوى المقاومة اساسا.
ورغم اختلاف المشاهد الا ان المضمون واحد، فالسياسة الاسرائيلية التي تقضي بهدم بيت كل مقاوم فلسطيني نفذ عملية طعن أو تفجير أو قتل، تأتي منسجمة مع فحوى الخطاب الاسرائيلي لكسر العزيمة الفلسطينية، فقرار الهدم بحد ذاته، جاء بالأساس من خلاصة التحقيقات الأمنية والعسكرية التي اجرتها المخابرات الاسرائيلية، والتي اثبتت ان اكثر ما يؤلم الفلسطيني بعد استشهاده الحاق الضرر بعائلته بسبب مقاومته، فاعتمدت سياسة هدم منازل منفذي العمليات الفدائية كسياسة ردع، وانتهجتها منذ بدايات الانتفاضة الثانية كفعل تأديبي للمقاوم الفلسطيني.
وما زال الاحتلال ماضيا في تطوير منظومته التأديبية، لكسر فكرة الانتصار، في محاولة منه لتغيير مسار التاريخ، لمعرفته المسبقة بانه لن يتمكن من وقف العمل الفلسطني، وانما تجميده الى حين او اتخاذ اجراءات تأديبية للتخفيف من وطأته، كونه بات متلقيا للفعل وليس فاعلا حقيقيا، فهبة الشباب الفلسطيني جردت المحتل من ميزاته الحداثية للسيطرة. وبات يضرب قيم وفكر الفلسطيني المتمثلة بحتمية النصر، في محاولة تأديبية وانصياعية بائسة لتغير الجوهر المعرفي والفلسفي بشأن تضحية الفلسطيني بنفسه في سبيل انعتاق الكل الوطني من سيطرة الاحتلال.
قد لا يعني استشهاد الفلسطيني نصرا، لكنه يعني عجزا معرفيا لدى المستعمِر في السيطرة على المستعمَر، رغم كون الاحتلال السلطة المسيطرة والأقوى في المعادلة "ظرفيا"، وليبقى الاحتلال في الورطة المعرفية ذاتها، يترتب على الفلسطيني "كفعل مقاوم" ان يبلور اساليب جديدة في المقاومة الشعبية، ليبقى صانعا للفعل، وان يبقي الاسرائيلي دائرا في فلكه، كنظام دائري مركزه الفعل الفلسطيني بغض النظر عن طبيعته وادواته، وان ينفي الشرط التأديبي للاحتلال، كفعل بالعنوة.