احتلالات لازمت أو تبعت احتلال العقول وكيفية الشفاء منها- منير فاشة
الحكمة في جوهرها تعني حماية أنفسنا كبشر ومجتمع وطبيعة مما هو ضار وانتزاع أنفسنا من عالم الوهم، وفي الوقت نفسه استعادة العافية في شتى نواحي حياتنا والاجتهاد في تكوين وتعميق معانٍ وفَهْم. يتطلب هذا وضوحا وجهدا وجرأة في مواجهة خداع وتخدير العقول عبر ما تحدثت عنه في الحلقة السابقة، والذي يتمثل في جوهره باحتلال لغة رسمية محل لغة حيّة وهو ما يقوم به التعليم الرسمي كما صممه "نبريها". رَفْضُ الإنسان المعاصر وَضْعَ كاز بسيارته لأن ذلك يخرّب محرّكها وعدم تردده بوضع ما هو أسوأ في أمعدة أطفاله رغم معرفته أنها تخرّب أجسامهم هو مثال صارخ على تخدير العقول وتخريب الإدراك السائدين حيث نعتبر الآلة أهم من الإنسان، والمكاسب الرمزية أهم من العيش بحكمة، وحيث نعتبر علامات الطفل أهم من عافيته. انتزاع أنفسنا مما هو ضار واستعادة ما يتوافق مع العافية سيبقيان محورا رئيسيا في زاوية "بيت الحكمة".
من بين الاحتلالات التي لازمت احتلال لغة رسمية مصنعة محل لغة حيّة هو احتلال إنسان صامت ساكن محل إنسان ناطق مليء بالحيوية. فالتعليم الرسمي حوّل الإنسان من كائن يتحرك ضمن سياقات حقيقية وينطق مع آخرين بحرية واستمتاع إلى كائن صامت يجلس على مقعد مدة 12 سنة لا يتحرك ولا ينطق معظم الوقت، ولا يتفاعل مع آخرين سوى عبر تنافس على رموز ضحلة مريضة.
برز حديثا احتلالٌ لعله الأسوأ: إنسان مشاهد محل إنسان نشيط، إذ يقضي الإنسان المعاصر الجزء الأكبر من حياته في مشاهدة شاشات (لوحات تلفزيون فيديو موبايل آيباد إعلانات دعايات مسلسلات معارض مهرجانات ومعروضات في مولات تجارية). كان الجسم والأيدي والأرجل والأصابع (بوجه خاص) الوسائل الرئيسية التي تربط الفكر بالواقع والطبيعة. احتل البصر محلها جميعا. ولعل أسوأ ما فيه أن الأغلبية لا تعيه. الإنسان المشاهد احتل محل الإنسان الحيّ بنعومة وهدوء بحيث لا نلاحظه. الإنسان الحي هو من يعيش متحررا من الأقفاص التي تسجن الجسم والفكر والقلب والروح والتخيّل والتعبير واللعب؛ هو من يعيش متعة التحادث مع أصدقاء ومتعة التجوال في الطبيعة، ومتعة التفاعل وجها لوجه عبر حكايات أو فنون أو آداب أو نواحي روحية أو عبر أعمال سياسية في مواجهة الظلم والقهر أو عبر زراعة جماعية أو طبخ جماعي... فهذه جميعا نقيض المشاهدة. مفيد جدا أن يحسب الشخص عدد الساعات التي يقضيها يوميا في المشاهدة وعدد الساعات التي يعيشها متحررا من الأقفاص بشتى أنواعها. فكما احتل الإنسان الصامت محل الإنسان الناطق عبر التعليم الرسمي، يتم الآن احتلال الإنسان المشاهد محل الإنسان المليء بالحيوية عبر أجهزة الكترونية. أي، ما يحدث هو احتلال النظر محل النطق، والجلوس محل الحركة، والبصر محلّ البصيرة؛ وشتان بين البصر والبصيرة. البصر يرى السطح بينما البصيرة هي عين القلب والتي تتصف بسعة الإدراك واستشفاف العواقب والنفاذ إلى كنه الأمور وخفايا المعضلات، وبالتالي هامة في استعادة الحكمة في الحياة.
كذلك، رافق احتلالَ العقول احتلالُ "مجتمع مواطنين" محل "مجتمع أهالي". ففي حين يرتبط مجتمع الأهالي بأرض وتاريخ وثقافة وذاكرة جمعية، يرتبط مجتمع المواطنين بمؤسسات رسمية حيث يُعَرَّف الشخص برقم وطني! لقد أدخلت القبيلة الأورو- أميركية الكثير من التخريب على مفهوم المجتمع وتقسيم مكوناته تبعا لحاجات السوق لا لضرورات الحياة وعافية الإنسان. إن هذا التخريب وهذا التقسيم يعمينا عن رؤية مكونات المجتمع – مجتمع الأهالي– كما عشناه آلاف السنين (ضمن القبيلة الشامية) والتي بات من الضروري استعادتها في أفكارنا وممارساتنا وعلاقاتنا، بداية من علاقتنا بالتربة الأرضية، التي نتجول عليها ونعمل فيها، لنتغذى من خيراتها ولنغذي علاقتنا وارتباطنا بالأرض (وأهم عناصرها المزروعات والمأكولات والتجوالات)، ومن ثم علاقتنا بالتربة الثقافية-الحضارية لنغذي الفكر والخيال والجمال (وأهم عناصرها اللغة والحكايات والأدب والشعر والفنون)، وبالتربة الاجتماعية لنغذي الروح (وأهم عناصرها الحكايات مرة أخرى والتحادث الشفوي وجها لوجه واللعب المبهج للقلب)، بالإضافة إلى التربة الاقتصادية لنغذي النسيج المجتمعي (وأهم عناصرها ما يتم إنتاجه محليا باستعمال الأيدي والأصابع والأرجل وله قيمة نفعية لا تبادلية في السوق).
سأذكر باختصار (سأسهب فيها في حلقات قادمة) أربع كلمات مؤسسية (هدفها السيطرة والفوز) احتلت محل كلمات ترتبط بالحكمة وتنبع معانيها من الحياة: تقييم محل يحسن؛ صَفّ محل مجاورة؛ فكر ثنائي محل مثنى؛ إعادة بحث محل بحث. أكثر ما أقلقني في علاقتي بالتعليم هو احتلال رقم (يدعى علامة) محل ما يحسنه الشخص كمصدر قيمته. من الصعب تخيّل اختراعٍ أكثر احتقارا وتمزيقا للإنسان والمجتمع، والذي شمل فيما بعد قياس الذكاء. هدف هذه المقاييس هو خلق نخبوية وتراتبية تبرّر السيطرة والإذلال. وقبولنا بقياس قيمة المرء وذكائه وفق خط عمودي يعكس عمق تخدير العقل والإدراك. حاولت سنين أن أجد بديلا للتقييم العمودي العقيم، لم أفلح حتى عام 1997 حين قرأت في كتاب "البيان والتبيين" للجاحظ عبارة الإمام علي: "قيمة كل امرئ ما يحسنه". كانت بمثابة زلزال فكري إدراكي لا يزال يلهمني ويغذّيني ويشفيني من أمراض وأوهام وخرافات تنشرها القبيلة الأورو-أميركية. لم أقرأ عبارة في التربية أعمق وأكثر حكمة وتنوعا واحتراما منها. تكلمت عنها في أكثر من 30 دولة؛ لا أذكر أحدا لم تلمسه في العمق. كل إنسان وِفْقَها له قيمة، ولا معنى وفقها لكلمة "فاشل" (صفة لا إنسانية بامتياز). لكلمة "يحسن" بالعربية عدة معانٍ تكوّن معا قيمة المرء: الإتقان والجمال والنفع والعطاء والاحترام. أي، لدينا بديل للتقييم العمودي منذ 1400 سنة لكننا مخدّرون بادعاءاتٍ تعمينا عن الحكمة الموجودة في ثنايا لغتنا وحضارتنا. أما الكلمة الثانية فهي كلمة صفّ محل مجاورة (التي لها جذور عميقة في الحياة والحضارة عبر التاريخ) كوسيط للتعلم والعيش بعافية. والكلمة الثالثة التي أعتبرها جوهرية في استعادة عافيتنا فهي المثنى (وهو غير موجود في أي لغة أوروبية عدا اليونانية القديمة). يتضمن المثنى حكمة تعكس منطقا يتخطى منطق أرسطو (المنطق الثنائي) ومنطق هيجل (الذي يضم النقيضين ضمن كلٍّ أكبر). المثنى يترك كلا الطرفين كما هما لا يحاول أحدهما نقض أو ضم أو تغيير الآخر. أما الكلمة الرابعة فهي "بحث" حيث احتلّت "إعادة بحث" بمعنى research محل كلمة "بحث" بمعنى ما يبحث عنه الشخص في حياته search . "أنت ما تبحث عنه"، هذا ما قاله شيخنا الكبير "ابن عربي" قبل 700 سنة (نبهتني إلى هذا مليحة مسلماني)، وبالتالي هُوِيّة الشخص ترتبط بما يبحث عنه في حياته. ولعل من أهم ما يبحث عنه الإنسان هو بحثُهُ، بشكل مستقل، عن معنى لخبراته عبر تأمّلات واجتهادات وبحيث يتوافق مع الحكمة والعافية. يشكّل تكوين معنى للخبرات أعمق أنواع التعلم والحرية والكرامة. سأسهب، كما ذكرت، في هذه الكلمات الحية في حلقات قادمة، لكن ما أود ذكره هنا أنه يمكن العيش وفقها بدءا من اليوم حيث أمكن. سأذكر في الحلقة القادمة كلمات أخرى ضروري انتزاع أنفسنا منها، واستعادة كلمات تستمد معانيها من الحياة وتتوافق مع العيش بحكمة.