صديقي الغامض - باسم برهوم
رَحل عنا لكنني أشرب معه قهوة الصباح كُل يوم. كنت أراه في مناسبات كثيرة، أُراقبه عن بُعد، كلما جمعتني به ثلاثة أو أربعة لقاءات وجهاً لوجه في سبعينيات وثمانينيات القرن المُنصرم.
رغم مرور كل هذا الزمن، إلا أنني ما زلت أذكر كل كلمة قالها صديقي الغامض نعيم الذي كان يكبُرني بخمسة عقود.
هذا الغامض المُقل بالكلام، كان يُفاجئني وهو يُسهب في أحاديثه معي، كأنه كان يُدرك أن من يجالسه يمتلك ذاكرة فوتوغرافية تُسجل أدق التفاصيل من حولها. وكان يفاجئني أكثر بما يقول، وكأنه يُلخص ما أنتجه الفكر الانساني والحضارة الانسانية دون عناء.
وبعد مرور كل هذا الزمن، منذ آخر لقاء جمعنا عام 1983، إلا أنني أكرر الرجوع لهذه اللقاءات كلما أختليت إلى نفسي لأحاول جاهداً أن أحلل كل كلمة قالها، وأن أفكك اللغز، لغز نجاح هذا الرجل بينما فشل الآخرون، أن أعرف سر نجاحه رغم الظروف الصعبة، خصوصاً إذا عرفنا أنه من بيئة فلاحية بسيطة.
لم تكُن صدمة نكبة عام 1948 أقل تأثيراً عليه، فهو فقد كل شيء، الأرض، البيت، العمل، مشروعه الشخصي البسيط الذي يعيل عائلته. أكثر من ذلك فقد أبنه الوحيد الذي استشهد في معركة من منزلٍ إلى منزل في قريته مع العصابات الصهيونية، انه الغارق قد قرر بعد أن أصبح في المنفى مشرداً بعيداً عن وطنه، قرر أن لا وقت للبكاء، ولا وقت لأخذ استراحة أو فترة للتأمل لاستخلاص العِبَر.
لا وقت لكل هذا الترف.. قال لنفسه.
العمل هو الرد، هو التحدي كان يردد ذلك دون أن يبوح به، قرر أن يعمل دون تأخير، حال وصوله إلى عمان، قام بعملية حسابية بسيطة فقرر أن يبدأ من حيث انتهت حياته هناك في قريته المحاذية للقدس.
أن يكون حُراً، يعمل منفرداً بمشروعه الخاص، فجمع أوراق قوته وبدأ يعمل دون توقف.
ولكي ينجح قرر بشكل حاسم أن يضع خطاً بين زمنين قرر أن يعيش الحاضر، الماضي هناك وأنا اليوم هنا كان يحدث نفسه، هنا لا مكان الفشل، البقاء في الماضي والبكاء عليه هو وصفه للفشل، إما أن أكون أو لا أكون. كان يردد ذلك باستمرار ليمنح نفسه مزيداً من الثقة بالنفس.
كان هادئاً صبوراً لكنه كان حاسماً، مُقلاً بالكلام وعندما يتحدث يرتب افكاره بصبر وعناية ويعمق جمله بتجربته، الشخصية الغنية وبقدرته الملفتة على استشراف المستقبل.
هو مختلف لأنه قرر أن يعمل على طريقته حُراً طليقاً، كان يُدرك أن معركته صعبة مع الواقع، تماماً كصياد همنغواي في رواية الشيخ والبحر، ويدرك أن الحسم في مثل هذا الواقع يتم بالنقاط، فسجل نقاطه بصمت وهدوء الواحدة بعد الأخرى، وتسلل عبر السنين دون أن يشعر به أحد مكوناً لنفسه مكاناً ومكانة وأقام مملكته الخاصة به.
أهمية ممتلكاته لا تقاس بعشرات أو مئات الدونمات، او بعدد المنازل والبنايات التي بناها، بل بمزرعته الصغيرة التي أقامها لنفسه جعلها على شاكلة قريته التي هُجر منها، ارضه التي تركها في فلسطين، فجاءت زيتوناً وعنباً وتيناً وبئر ماء وسلاسل حجرية، بنى مزرعته على شاكلة الوطن، وفي تلك اللحظة قرر نعيم أن يستريح وأن يتأمل بهدوء وعينه على فلسطين.
نعيم صديقي الغامض الذي يكبرني خمسة عقود رحل لكنني اشرب معه قهوة الصباح كل يوم.