ذاكرة الأماكن... حنان باكير
تملك الاماكن قدرة على حفظ ذاكرتها وروائحها. يحدث احيانا، ان تخبو الذكريات حتى نخالها منسية، لكنها سرعان ما تظهر طازجة، عند اقل استفزاز لها.
دعوة من صديقتي الروائية سلوى البنا، الى بلدة عنجر ايقظت ذاكرة موغلة في القدم. كنت ربما في التاسعة من العمر، حين اعتدت مرافقة ابي الى عنجر. المطعم ذاته نتردد عليه. ويفشل ابي في اقناعي اكل قطعة لحم مشوية. أكتفي بأكل صحن الحمص والسلطة. نذهب بعدها لزيارة صديق له، في بيته وبستانه الكبير، أطارد الأرانب. وقد حصلت على أرنبين هدية. في طريق العودة، مرج البطيخ الاحمر، ورؤوس البطيخ تغري بالتوقف. ألح على ابي للحصول على واحدة صغيرة. ينتظر وقتا طويلا في الشمس اللاهبة، حتى يرى صاحب الحقل لشراء واحدة. يرفض قطفها دون ان يدفع ثمنها!
لم نجد في المنطقة ما يغري في السياحة. فتوجهنا الى دير القمر. المنطقة السياحية التي نصطحب اليها اصدقاءنا النرويجيين. لكن سيرنا هذه المرة لمشاهدة البيوت، سحبني الى زيارة واحدة، انطبعت في ذهني، ولم أتكهن يومها، بأني سأواجه ذلك الموقف الصعب!
صديقتي اللبنانية مهى، ذات انتماء ديني كان يمنعها من الذهاب الى بلدتها دير القمر، التي هجرت منها، قبل ان تتزوج وتستقر في بيروت.. سألتني مهى، ذات مرة.. هل تجروئين على الذهاب الى دير القمر؟ أجبتها بنعم.. هل يمكنك اصطحابي اليها؟ بكل تأكيد! اتفقنا على يوم محدد.. كانت متوترة من ثقل الزيارة، وخائفة من الحواجز على الطريق. لم تسعفها قدرتها على الكلام طوال الطريق، وانا فشلت في تسكين روعها! فقط صلوات بصوت خافت وباهت، كانت ترددها.
وصلنا البلدة. كانت تسير مذهولة، تتأمل كل شيء، وكل تفصيل في البلدة، وان كان غيابها لم يتعد الخمسة عشر يوما! هي تسرد كل التغييرات الطارئة على المكان، وانا أتخيل التغيير الذي طرأ على مدينتي عكا.. لكني لن استطيع اكتشاف التغيير، فأنا لم اعرفها لا من قبل ولا من بعد!
سرنا بين البيوت الحجرية الغارقة بين الأشجار. كانت تسمي اصحاب كل بيت.. الجيران والعمات والاخوال.. الى ان توقفت امام احد البيوت. قالت، هذا بيتنا! قلت لها.. لنطرق الباب ونرى من فيه، لا يبدو انه مهجور، فأحواض الورود ريانة ومتفتحة! هي خافت، وانا اقتحمت الممر المؤدي الى باب البيت، طرقته بنعومة.. فتحت امرأة الباب. لباسها يدل على انتمائها لدين مغاير لدين صديقتي. حييتها.. وسألتها ان كان بإمكاننا الجلوس على البلكونة والدردشة قليلا! كان طلبي مغامرة قد تنتهي بورطة كبيرة، لا ندري عاقبتها في ذلك الوقت وتلك الظروف.. أعتقد اني كنت متهورة ورعناء، لكن "ربنا ستر"، وكانت المرأة سمحة ولطيفة. استقبلتنا في غرفة الضيوف. شعرت ان مهمتي انتهت هنا.. وصديقتي خانها لسانها.
قلت لها.. لو سمحت تنازلي الآن عن صمتك! فقالت باندفاع للمرأة المضيفة، هذا بيتي انا.. ممكن اتفرج عليه! أجابتها.. تفضلي.. لكن لا تفكري اني سعيدة هنا، أنا افهمك جيدا.. لأن بيتي في منطقتي المحتلة، هو ايضا محتل.. ولا أحقد على محتليه، فهم ايضا أجبروا على ذلك، مثلي تماما!! الحرب القذرة هي المذنبة ولسنا نحن.. بكت المرأتان وبكيت معهما.. ولم أدر أنني سأواجه لاحقا، هذا الموقف في عكا وداخل بيتي.. مع فارق اخلاقيات المحتلتين للبيتين!.