أسامة العيسة: الأدب صناعة ثقيلة
ضيف وفا (14)
يامن نوباني
لا ينتظرك العيسة في البيت أو على بابه، بل يمشي إليك. هذا ما حدث حين ذهبت "وفا" تقابل الكاتب الفلسطيني أسامة العيسة، وتحاوره في المكان والزمان والظروف التي يكتب منها، وجدناه ينتظرنا على مدخل المخيم.
تمر الطريق إلى بيت أسامة العيسة عبر ممرات ضيقة في وسط مخيم الدهيشة، المخيم الذي أخرج من تلك الأزقة كُتابا ومثقفين لهم حضورهم وهيبتهم في الأدب الفلسطيني.
لا تجد مركبتنا مكانا لتصطف فيه، فنبقيها بعيدًا عن البيت والمحيط المزدحم بالبيوت، ونصعد درج بيت العيسة إلى مكتبته الصغيرة فوق السطح، فنجدها ضيقة المساحة شاسعة التأمل، وتتسع لكل العقول التي ترغب في تنوير أصحابها بالفكر والتاريخ والبحث والأديان والموسوعات والأدب والشعر والنقد.
تقف في منتصف مكتبة العيسة فترى اشتباك كتب الفلسفة والأساطير والكتب الدينية والكتب القديمة ومجلات أدبية وثقافية عفا عليها الزمن. لا صوت داخل مكتبته الصغيرة فوق سطح البيت في قلب مخيم الدهيشة، المكان الذي ينتهي منه كل شيء إلا الأصوات، وكأن الكتب تمتصها سريعا، أو كأنها –الأصوات- ترتد عن الباب خجلا، لكن أصواتا أعلى تُسمع في الداخل، فوق الرفوف وفي الخزائن المثبتة بلا حرفية على الحائط، أقدام تخرج من صورها المعلقة في زوايا المكان وتمشي في المكان. وكأنها تجبد الذاكرة وتسلمها لمن يقرأ ويتأمل.
عن البدايات يقول العيسة: بدأت النشر مبكرًا في صحيفة الطليعة التي كانت تصدر أسبوعيًا في القدس، ومنعت سلطات الاحتلال توزيعها في باقي الأراضي المحتلة عام 1967. ونشرت أيضا قصصا في صحيفة الاتحاد، ومجلتي الجديد والغد، والتي كانت جميعها تصدر في حيفا، ولعبت دورا مهما في خدمة الكُتّاب في الضفة الغربية وقطاع غزة، الذين عانوا من الرقابة الاحتلالية. ونشرت أيضا في مجلة الفجر الأدبي التي ترأس تحريرها الشاعر الراحل علي الخليلي، وفي مجلة الكاتب التي أصدرها الشاعر أسعد الأسعد، لتكون مجلة شهرية للثقافة التقدمية كما أراد صاحبها، وقدمت العديد من الكتّاب والشعراء. في عام 1984 صدرت مجموعتي القصصية الأولى (ما زلنا نحن الفقراء أقدر الناس على العشق) في القدس، وفي العام التالي 1985 صدرت قصتي الطويلة (الحنون الجبلي) في رام الله.
يقول العيسة في إحدى مقابلاته التلفزيونية: أنا من الجيل الذي حمل الحجر بيد والكتاب باليد الأخرى، وحول ظروف القراءة والكتابة في ذلك الوقت قال: بدأت جمع الكتب في وقت مبكر من حياتي، كان هناك حصار ثقافي كبير يفرضه الاحتلال، فكنا نخبئ الكتب تحت التراب، صودرت مكتبتي أكثر من مرة، ومن الكتب التي صودرت لي كتاب عرس بغل للطاهر وطار، وسلموني طلبا لمراجعة محقق عسكري اسرائيلي، ودار التحقيق حول هذا الكتاب، من هنا تأخذ المكتبة معنى عميقا، وليس رومنسيا فقط، ارتبطت بهم نشوءا، ودفاعا عن النفس ودفاعا عن الوجود، ودفاعا عن الهوية.
بدأت مكتباتنا في الحفر، وفي منتصف الثمانينات كان هناك حصار وسياج شائك ومنع للتجوال يمتد لأسابيع على الدهيشة، وخيمة لحاخام متطرف اسمه ليفنغر على مدخل المخيم. في تلك الفترة جاء الكاتب الإسرائيلي سام ميخائيل، ليأخذ فكرة عن المخيم، دله الناس عليّ، فسألني أين مكتبتك؟ فأخذته إلى حفرة في الأرض وضعت فيها الكتب وقلت له هنا مكتبتي، فقال لمن المستقبل لمن يحفرون الأرض ويخبئون الدولارات أم للذين يخبئون فيها الكتب، وكان الإسرائيليون في ذلك الوقت يخبئون الدولارات في الأرض.
ويتحدث العيسة حول مرحلة ما قبل اوسلو: كان الاحتلال يمنع معظم الكتب التي تصدر في الوطن العربي، توفيق الحكيم، نجيب محفوظ، وكنت شاهدا على محاربة الكتب الفلسطينية ومحاكمة الكتاب الفلسطينيين، في سجن رام الله عام 1981 تم محاكمة المدرس محمود الخطيب، لامتلاكه كتاب بلادنا فلسطين، وفي نابلس أيضا تم محاكمة الكاتب سامي الكيلاني، كانت الكتب تطارد وتصادر، ومؤمن سعيد وبشير البرغوثي رئيس تحرير الطليعة في رام الله في السبعينات والثمانينات، فرضت عليه إقامة جبرية في رام الله فكان هناك حرب على الثقافة، الآن نمتلك كتبا كنا نحلم أن نراها.
ويضيف: بعد اوسلو أصبح هناك فتور في الأدب الفلسطيني، كثيرا من الذين كتبوا بشكل مباشر وجدوا أن كتاباتهم لا معنى لها. فأخذت جيلا لكتب الشباب غرقوا في الهم الذاتي بطريقة غريبة جدا، والكتاب الذين كان لديهم رؤية هنا توقفوا عن الكتابة لان المرحلة كانت جديدة تماما علينا، لم يكن هناك تماس مباشر مع الاحتلال، الكتّاب الذين كنا نقرأ لهم أتوا إلى هنا واخذوا وظائفهم في النظام الجديد.
كانت القدس هي مجمع الكتّاب، كمية التدفق الوطني في الكتابات المباشرة فيها خطر أيضا، كان هناك أحيانا دعائية في الأدب الفلسطيني، مما جعل الكثير يتوقف عن الكتابة، إلى أن جاءت هذه المرحلة وهي ليست مرحلة صراع حقيقية، وليست مرحلة سلام، فبدأت كتابة جديدة ونهوض.
وفي ما يخص الوضع الثقافي بأكمله قال العيسة: الأدب صناعة ثقيلة، فهو يحتاج أولا إلى مجتمع، نحن كل 10 سنوات الاحتلال يوجه ضربات مؤلمة للمجتمع المدني، هناك أسماء كثيرة كانت تظهر وتختفي، تبرز وتتلاشى من المشهد، في السبعينات كنا نقرأ لـليلى علوش وبعض الشاعرات اللواتي كان لهن أسماء معروفة، أين ذهبوا؟ لا يحدث أحيانا تواصل بين الأجيال في المجتمع الفلسطيني، الاحتلال لا يعجبه أن يكون هناك تطور مدني في المجتمع، هناك نهوض لكنه نهوض فردي، نحتاج إلى قراء والى معارض كتب والى سياسات ثقافية، ومحررون. ونحتاج الى القطاع الخاص، ودور نشر كبيرة تحتضن هؤلاء الكتّاب ويكون فيها ترجمة ووكلاء للكتاب ومحررون. لا يوجد لدينا محررون في فلسطين وربما في العالم العربي.
رغم هذا النهوض النسبي نحتاج للكثير وحالنا من حال العرب، اهتمام العالم في أدب امريكا اللاتينية. لا يوجد اهتمام في الأدب العربي، وهذا ناتج عن أن دور النشر لدينا هي مطابع أكثر منها دور نشر، ليس هناك الناشر المثقف، الناشر المغامر، الناشر الذي يحب أن يوزع الكتاب ويربح مالا، لكن هناك بعض الناشرين الذين هدفهم فقط كسب أموال قليلة من هنا وهناك، هذا لا يصنع ثقافة، المطلوب من المؤسسة الرسمية أن يكون لديها سياسات ثقافية وليست موسمية، والقطاع الخاص له دور، مع التأكيد أن الإبداع يبقى فرديا، وأيضا الكاتب مطالب باحترام هذه المهنة بشكل جيد، نحن أمام مهنة صعبة، الموهبة لا تكفي، أحيانا لا أؤمن بالموهبة، أؤمن بالعمل الصعب، الأديب الشاب يحتاج إلى أن يعمل على الكتابة، أي كتاب أتوقع ان يأخذ من الكاتب أربع سنوات من البحث والكتابة.. إذن هي مهمة شاقة، ربما نستبشر مستقبلا اذا استمر هذا النهوض النسبي، ونرى أسماء جديدة.
المكان في الكتابة عند العيسة: عندما تصبح كاتبا محترفا وأنا أعتبر نفسي كذلك، رغم أن البعض لا يقول عن نفسه شاعر أو كاتب، من باب الخجل أو التواضع، أنا هذا عملي، أنا كاتب، كاتب جيد او رديء هذا شيء آخر. عندما تصبح كاتبا محترفا، لا يعنيك المكان، كتبت في الزنازين وكتبت في فنادق خمس نجوم، فعندما أجلس لأكتب، أكتب بانتظام، فتتراجع الرمزيات والرومنسيات في المسألة، فأنت عندما تكتب للصحيفة، المطبعة لن تنتظرك حتى ينزل الإلهام أو تختار المكان، فأنت مجبر أن تكتب، المكان ربما لن يهم كثيرا عندما أكون مضطرا أن أكتب.
المهم كيف نكتب، وأنا لدي مواضيع كثيرة أحب أن اكتب فيها، ولدي جدول بالأشياء التي أفكر في الكتابة عنها. أن تلتقط زوايا معينة، قضايا، وربما ليس لها علاقة بالسياسة بشكل مباشر، المهم كيف؟ وهذا هو الامتحان للكاتب وهذا يحتاج إلى جهد واضطلاع وليس فقط إلى موهبة، لذا أقول دائما أن المسألة مسألة عمل وتفكير ويا ليت لدينا محررين في دور النشر، فأنا عندما أكتب نصا لا أدري إن كان جيدا، أريد محررا يقول هذا نص جيد.
حتى هذه العملية –عمل أدبي- شديدة الفردية أحب ان تكون يوما نتيجة عمل جماعي يشترك فيها المحرر، ومصمم الغلاف، والمدقق، والتسويق، ودار النشر، فالأدب صناعة كاملة، لو شئنا ان يكون لدينا مرحلة نهوض ثقافي.
يرى العيسة بعين وقلم الكاتب والباحث والمتعمق أن تاريخ فلسطين كله لم يكتب، كتبه المنتصرون، الصليبيون والمسلمون والبيزنطيون والإسرائيليون كتبوه بلغة المنتصرين، تاريخ الناس العاديين لم يكتب، وأنا اعتقد ان هذه مهمة الكاتب. عندما انظر إلى بعض الوثائق من العصر المملوكي أو العصر العثماني، أجد أن هناك قرى كاملة محيت عن الوجود، حكاية الناس التي محيت لم يكتبها أحد أين ذهبت؟ أين ذهب هؤلاء الناس؟ هذا التاريخ لم يُكتب، أيضا هنا هذا المخيم، نحن نعيش فيه منذ 60 سنة، وهو مؤقت وسيذهب ذات يوم، لكن قصص الناس من يكتبها؟ وهنا تأتي مهمة الكاتب، أن يقدم تاريخاً آخر جديدا.
يكاد يكون أكثر كتاب العالم ضحكًا، فهو يطلقها –ضحكاته- بطريقة هستيرية، كالمجانين. أولئك الذين أوصلهم أو أوصلوه إلى أكبر المنصات الأدبية العربية لتكريم المبدعين.
يعيش العيسة في اشتباك دائم، لا صوت له سوى صوت القلم، دخل في حالة صمت طويلة بعد النكبة، وكان لديه أمل بالعودة، لكن بعد 67 تبخر حلمه. عمل في مهن كثيرة، في سوق بيت لحم عتّال، وبائع صحف، وفي التنظيف، يقول: كنت أدرك أنها ستفيدني في الكتابة، كنت أعرف أني سأصبح كاتبا، وكل الكتّاب الكبار عاشوا هذه المراحل.
لمن يقرأ العيسة في الأدب الفلسطيني: بصراحة أقرأ لإميل حبيبي. أعيد دائما اكتشاف إميل حبيبي، توفيق كنعان، خليل السكاكيني، في الواقع ان الأدب الفلسطيني في المرحلة الأخيرة بالإضافة الى هذه الأسماء اللامعة المكرسة، أعتقد أن مشكلتنا في الأدب الفلسطيني أننا ما زلنا نراوح في مسألة الهواية، يجب أن ننتقل الى مسألة الصناعة. ما زال إميل حبيبي حاضرا ويمكن ان يدهشنا في ما يكتبه
هناك قراء وهذا مهم مسالة إعادة القراء والقراءة مهم، ليس لدينا إحصائيات حول مبيعات الكتب لكن هناك إقبالا على القراءة، لا اذكر في التسعينات أنني قرأت كتابا محليا، كان هناك انكماش ونزوع الى الذاتية بشكل كبير، كنت تتحاور مع الكتّاب الشباب فيقولون لك نحن نكتب فقط من اجل ان نكتب ولا يهمنا القرّاء هذا في السنوات الأخيرة تغير، وأصبح الوضع الثقافي أفضل.
أنا فرح بالجائزة لكن لدي صفات تجعلني احسب الأمور بواقعية أفضل، مقتنع بأن روايتي ليست أفضل عمل مقدم، ولكنها الرواية التي راقت أكثر لأذواق لجنة التحكيم، لأن هناك اسماء كبيرة كانت موجود في القائمة الطويلة والقصيرة. وأنا أصلا لا أؤمن بأفضل رواية أو شعر أو حتى فكرة كاتب كبير، أفعال التفضيل هذه لا تصلح للأعمال الأدبية تصلح لأشياء أخرى، أنا اعتقد أن هناك عملا كبيرا، هناك نص يستحق المتابعة .
أنا قدمت عملا فنيا، هناك من فهمني وهناك الكثير لم يفهمني وقالوا لي بصراحة هذه ليست رواية وهذا عمل صحفي واحترم كل هذه الآراء.
بناء لمعمار فني منا، حاولت أن أقدمه عمليا من خلال هذا العمل. على المستوى السلوكي والشخصي لم تغير شيئا، لكن هناك اهتمام من الصحافة والناس، قبلها لم يكن هناك اهتمام كبير بعملي، الجائزة سلطت الضوء على عملي.
وعن صداقاته وعزلته وطقوسه، قال العيسة: الاستاذ يوسف سند والكاتب صالح ابو لبن والمحامي شوقي العيسة، علاقتي حميمة مع الأصدقاء المقربين وغير المقربين ليس لدي علاقات جافة او متوترة مع الآخرين. لدي عزلتي وربما أكون غير اجتماعي، وأن أكون كائنا اجتماعيا فرضت علي بحكم وجودي في عائلة وبحكم أنني رب أسرة ولأسباب تتعلق بالمجتمع، تطلب العزلة والعمل. أنا أعمل ساعات في البحث والكتابة مثل أي عمل، وهذا يتطلب مني عزلة.
ليست لدي القدرة على الكتابة عن مكان لا أعرفه، اعتقد ،ن الكاتب ربما يكون عبقريا حتى يكتب عن مكان لا يعرفه وتفاصيل لا يعرفها، وهناك يوجد منهم كتاب عباقرة. انا من الذين ذكاؤهم متوسط ولا استطيع الكتابة عن مكان لا أعرفه واحتاج لزيارة المكان لأكثر من مرة وفي أكثر من فصل.
غير القهوة لا توجد طقوس كثيرة للكتابة وأجلس في المكتب باحترام.
البيئة المحيطة كتلوث سمعي: أنا أعيش في مخيم يشهد تظاهرات ومناسبات وطنية وشعارات غير متناسقة، الأعراس أصبحت لا تجوز إلا برفع مكبرات الصوت، بسهولة يمكن أن يُغلق شارع وتحدث حفلة، نحن مضطرون أن نتعود، كنت أتمنى أن أعيش بمكان آخر ولدي نظام صوتي واستمع لكبار الموسيقيين العالميين، الخيارات في الهروب مع الوقت تقل، كنت دائما احلم بالهروب، لديك مسؤوليات اجتماعية وأبناء. أنا لست حرا ولا استطيع التخلص من عبودية المناسبات الاجتماعية.
مكتبتي الموسيقية كان لدي اهتمام مبكر وشغف بالموسيقى العالمية، أن تجلس في مكان لمدة طويلة كل جهدك وجوارحك مهيأة لتستمع. وهي تباع بأسعار ليست سهلة خاصة مع شخص مثلي دخله محدود وغير ثابت، لأشهر العازفين والموسيقيين وهي نسخ أصلية. وكنت أدخل ألى معاهد موسيقية ولا أجد هذا النوع من المكتبة، فيفرحني. لدي مجموعة مجلات كالهلال في التسعينات ونيوز ويك بالعربية وناشيونال جرافيك بالعربية ودوريات أدب ونقد مصرية في سنواتها الذهبية، هذا أيضا ساهم في صناعة الثقافة لنا.
زكريا المهجرة في فكر وأدب العيسة: أوّل موضوع نشر لي كان عن قرية زكريا، في مجلة البيادر التي كانت تختص بالأدب، لصاحبها جاك خزمو، والتي كان يشرف على تحريرها نخبة من الكتاب والأدباء الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، وربما الخيار الأول للنشر والذي تم بشكل غير واع عن زكريا، يعكس ذلك الاهتمام الوجودي المبكر بالنسبة لي كابن عائلة لجأت من قرية زكريا في الهضاب الوسطى، وعاش الأبوان صدمة التهجير، إلى درجة أن الوالد اعتصم بالصمت في معظم حياته اللاحقة، وكأن السنوات التي عاشها مُهجرًا هي سنوات زائدة عن الحاجة ولا معنى لها.
زكريا بالنسبة لي هي الوطن المعنوي، والأندلس المفقودة، اعتقد أن لكل واحد منا أندلسه، وهي مزيج من الحقيقة والكثير من الخيال، لاحقا أصبحت علاقتي مع زكريا معرفية أكثر، وتطلب ذلك جهدًا كالنبش في الأرشيف، والاطلاع على تقارير البعثات المبكرة التي نقبت عن الآثار في تل زكريا، واختيار زوايا نظر لتلك الأندلس المفقودة، وغير ذلك.
بالنسبة لبرية القدس، هي الغموض الذي كان لا بد من هتك أسراره، لا تبعد عنا البرية كثيرا، وكانت هناك محاولات دائما من أطفال مخيم الدهيشة لاختراقها، تمثلت بالمشي عدة ساعات نحو قلعة الهيروديون التي تسمى محليا الفرديس، كنا نذهب إلى هناك دون علم الأهل، ونعود متعبين في المساء، ولكل منا حجة غياب، ولاحقا شكلت لي البرية تحديًا كبيرًا، حتى اكتشفت في بداية تسعينات القرن الماضي بأنها مهبط الروح، وأنجزت كتابا صدر عام 2004م، عن مخطوطات البحر الميت التي اكتشفت في تلك البرية وفي الكتاب اقترحت تسميتها بصحراء البحر الميت.
بالنسبة لبراري فلسطين، فأنا على قناعة بأنه على الكاتب في بلد ما أن يعرف عن مناخ وحيوانات وسهول وآثار البلد الذي سيكتب عنه، ولقد جمعت خلال نحو 25 عاما، الكثير من الأساطير التي ساعدتني على فهم النَّاس الذين يعيشون في فلسطين، وتمكنوا من الحفاظ على نسخ الهوية، رغم الاحتلالات المتعاقبة، ولم يتم ذلك بسهولة، وإنما بما يمكن أن اسميه التحايل على أقدار بلادنا، فهم عندما كانوا يدخلون دينًا جديدًا، أو يجدون أنفسهم تحت احتلال جديد، كانوا يدخلون العصر الجديد، بتقديم تنازلات شكلية، ولكن في العمق تناقلوا ما شكل هويتهم.
يغوص العيسة في الأمكنة والأزمان وصدرت له مؤخرا "وردة أريكا"، التي يستكشف فيها الكاتب التقاليد المرتبطة بمريم العذراء والخَضِر الأخضر، وعلاقة الإنسان الفلسطينيّ بالطَّبِيعَة وما وراءها، في برّ القُدْس الجنوبي، خلال النِّصْف الأول مِن القرن العشرين، في رواية حول جريمة قتل امرأة، تظللها الظروف المحيطة في وطنٍ هو نفسه تُرتكب جريمة أقسى بحقه، من قوى استعمارية، ونُخب عاجزة ومتآمرة، فيُقسَّم ويحتل. بشكل عجائبي، تُنْصف السَّماء القتيلة، ولكن مَنْ ينصف النِّساء اللواتي ما زلن يُقدَّمن قرابين على مذابح الشَّرَق؟
ولكن هل هي مجرد حكاية امرأة من شرق الحكايات؟".
وقال العيسة، إن الرواية الجديدة هي جزء من مشروعه الروائي في تقديم المكان والإنسان الفلسطينيين، بدون أوهام رومانسية، وإعادة اكتشاف الهوية الفلسطينية التي صمدت في وجه موجات الاحتلال المتعاقبة.
وأضاف أنه استخدم في روايته عدة أساليب، من بينها السرد، وتعدد الأصوات، والفانتازيا، مقتربا من الأجواء التي سادت في برّ القدس الجنوبي، في النصف الأول من القرن العشرين الذي انتهى بالنكبة الفلسطينية، وتشريد شعبنا.
واعتبر، أن من واجب المبدع، أن يغوص عميقا في ثنايا تراثنا وتاريخنا وحكايات ناسنا، كفعل مقاومة في ظل الظروف التي تستهدف الهوية الوطنية.
الاهتمامات الأولى في الأدب لدى العيسة: كان لدي في البدايات اهتمام بالكتب السياسية التي تخص القضية الفلسطينية، ثم اكتشفت أنها كتب سهلة، وفيها الكثير من السطحية، فاتجهت إلى الاهتمام بكتب الأدب وخاصة القصة القصيرة، كان هناك يوسف إدريس وتشيخوف وهمنغواي ونجيب محفوظ عبد الرحمن الشرقاوي صاحب رواية الأرض وهي رواية مهمة جدا وربما تطلب الأجيال الجديدة قراءتها وإعادة اكتشافها ففيها فنيات، لدي في المكتبة قسم خاص بالسينما، كان لدي شغف بالسينما، أنا وأبناء جيلي، نحن من الجيل الذي صنعت السينما وجدانه، لم يكن لدينا أماكن أخرى نتلقى منها الثقافة أو الترفيه، فكنا محظوظين في السينما.
لدي أيضا القسم الديني، في الفكر الديني لدي مؤلفات سيد قطب، وهو من الذين اهتممت بهم مبكرا وكنت اكتشف دائما ان ما يقدم في الإعلام وفي الدراسات يختلف عن ما كتبه هذا الرجل المفكر، فبدأت أنتبه إلى أهمية عدم إصدار أحكام على أي كاتب دون أن تقرأ هذا الكاتب، الثقافة الشفوية المتناقلة خطيرة جدا، فهي تكرهك بكاتب أو صاحب موقف ما لأنك سمعت عنه أنه هكذا، أيضا الموسوعات بما يتعلق بالطبيعة والتاريخ في فلسطين والدول العربية، مثل الجبرتي فهو لم يكتب فقط عن مصر بل كتب عن بلدان عربية أخرى، وابن تغري، واليعقوبي.. الرحالة الذين زاروا فلسطين، أؤمن أن أي كاتب يريد أن يكتب عن بلد يجب ان يكون لديه اهتمام ولو قليل عن نباتات وحيوانات وعادات هذا البلد، فضروري ان نقرأ ما رآه وكتبه الرحالة وأساطير البلد. كل هذا الشغف تجد له مكانة في المكتبة.
العيسة شاهد على غروب السينما الفلسطينية: أنا شاهد على غروب السينما الفلسطينية، وتطرقت إلى هذه الغصة في قبلة بيت لحم الأخيرة، لأنني حاولت أن أؤرخ للسينما في بيت لحم، الانتفاضة الأولى التي أدهشت العالم، يبدو أنه لم يكن لديه مقترح ثقافي فتم رشق سينما بيت لحم بالحجارة، وأيضا هذا حدث في سينما الحمرا بالقدس وسينما دنيا في رام الله، وسينمات مختلفات في فلسطين.
طبعا السينما ثقافة، كنا نذهب مع شقيقاتنا الكبار، وكنت أصغر الأبناء، كان في السينما، قاعات، منوار، اللوج، كان هناك ثقافة. الطبقة الوسطى الفلسطينية كانت تجد نفسها في السينما، وكنا نحن كأبناء مخيم أيضا نطمح الى الحداثة والجيل الذي سبقنا في العائلة كان يتابع السينما والمجلات الفنية والثقافية والموضة، تطورت طبقة وسطى وكانت تنتج المثقفين والسياسيين، استمر بالتطور الطبيعي السينما هي حداثة، يلبسون ملابس جديدة بطريقة موضة أواخر السبعينيات. فالسنيما نوع من الحداثة.
جزء من مكتبتي كان نتاج تخلص العائلات من مكتبات أصحابها، قبل أعوام اتصل بي صديق عثر في بيت جالا على كتب مرمية في النفايات وفوجئت أنها تحوي كتبا لمعروف الرصافي كتبت في العشرينيات، وأرشيفا لمجلة أردنية كانت تصدر في الستينيات، وكتبا لتعليم الموسيقى للطلاب الفلسطينيين في العشرينيات والثلاثينيات، للأسف بعد موت أصحابها ولكنها جزء أعتز به ونادر في مكتبتي.
ولد الكاتب والصحفي الفلسطيني أسامة العيسة في مخيم الدهيشة في بيت لحم، عام 1963، أطلق كتابه الأول "ما زلنا نحن الفقراء أقدر الناس على العشق" في العام 1984، صدرت له عدة كتب أدبية وبحثية، في القصة والرواية والآثار وطبيعة فلسطين. فازت روايته "مجانين بيت لحم" بجائزة الشيخ زايد عن فئة "رواية الآداب" عام 2015، وأصدر مؤخرًا "رسول الإله إلى الحبيبة" و"وردة أريكا".