"القدس بغير "ميلاد - عيسى بشارة
من مدينة القدس، مدينة "الحب والسلام" رحت أتأمل من نافذة منزلي المدينة الغارقة في حزنها "السرمدي" في يوم الميلاد، وقد عكست الأمطار الغزيرة التي ذرفتها السماء منذ ساعات الفجر مشهد "الميلاد الكئيب"، وقد خلا من المصابيح وابتسامات الأطفال ومظاهر الفرح بمولد رسول المحبة، ابن فلسطين البار الذي حمل راية السلام إلى البشر!
من قلب المدينة النازف أطلق صرخة مكتومة من القلب بالكاد يسمعها أحد وسط ضجيج الباعة وأمواج البشر المتدفقين على القدس القديمة وهي تعيش يوما كباقي الأيام كما لو أنها تبرّأت من ابنها يسوع الذي تحتفل به البشرية جمعاء بينما تحوّل أهله إلى صم وبكم وأضِرّاء، فكأنهم تجرّدوا من الميلاد وما عاد الحدث الجلل يعنيهم من قريب أو بعيد!
ولعل ما يزيد المشهد حزنا وكآبة أن يخرج "أحد رجال الإفتاء" مثل الشيخ القرضاوي ليحث المسلمين على نبذ الاحتفالات بالميلاد والمطالبة بمقاطعتها كما لو أنها من أعمال الشيطان! فيا "سيّد الإفتاء" من فوّضك باقتراف مثل هذا الإثم؟! وما الذي يدفعك للإيقاع بين الناس "وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا"؟! ما الذي تجنيه من زرع الفرقة بينهم وهم يدينون لرب واحد وينتمون لوطن واحد ويكابدون من وجع واحد ولا يفرّقهم ما يجمعهم؟! ماذا تعرف عن الميلاد وصاحب الميلاد؟! في أي فلك تتحرك وبأي زمن تعيش؟! نحن الفلسطينيين والعرب أجدر الناس بالميلاد والاحتفال بالميلاد وشجرة الميلاد التي لا تعمر اليوم بمصابيح المحبة والسلام في مدينة السلام! يا "سيد الإفتاء" أترك الناس بحالهم فهم ليسوا بحاجة إلى "تعليماتك" ولا "فتاواك" واصمت قليلا لكي تعود المحبة تجري في شراييننا من جديد. إصمت لعلنا نخرج من زمن ليس لنا وندخل زمنا للجميع! إصمت وتأمّل! إصمت وتذكّر فقد تنفع الذكرى!
ألوذ بصمتي وأتلقّى التهاني بالعيد "الكئيب"، وأنقّل ناظري بين نافذة المنزل التي تتساقط عنها "الدموع" ونافذة البريد الإلكتروني التي تحمل لي رسائل الإخوة والأخوات والأصدقاء المحبين. أجلس بين النافذتين وأطل منهما بين حين وآخر لعلني أستمد دفئا من شرارة الميلاد التي أطفأها الأهل وغيّبها المطر! لكن دون جدوى، فقد بقي الصمت لغتي في الميلاد والغربة موطني في الميلاد، وحتى الأهل تقطّعت بهم السبل فما عاد يلم شملهم الميلاد!
عيسى بشارة