القطب.. الحقيبة التي حملت وحمت أرشيف الثورة
يامن نوباني
أينما ذهب حملها على ظهره، فهو لا يثق بأيٍ كان على وجه الأرض، حقيبة بنية لا يتعدى حجمها حجم حقيبة مدرسية، اشتراها القطب عام 1973 بخمسين ليرة لبنانية.
الحقيبة راكمت بداخلها أفلاما وكاميرات استعملها القطب في رحلته التي استمرت أكثر من عشرين عاما، لاحق خلالها المقاتلين خلف خطوط العدو، وقذائف الآر بي جي والكاتيوشا وهي تستعد وتنطلق صوب المغتصبات الصهيونية انطلاقا من جنوب لبنان، لاحق الدمار الذي لحق بالمخيمات الفلسطينية في لبنان نتيجة الحروب الأهلية أو القصف الصهيوني.
مليون صورة احتفظ بها القطب داخل حقيبته البنية، واحد وعشرون عاما وهي تنتقل من عاصمة إلى عاصمة، قبل أن تعود إلى ديارها في العام 1994، مع عودة السلطة الوطنية الفلسطينية من تونس إلى غزة، لتنتقل بعده بسنوات إلى رام الله، ويضيف إليها القطب آلاف الصور من البلاد.
وصفه صحفي فرنسي بأنه حمار، لأنه رفض بيعه الصور التي التقطها في الدامور بعد تعرضه لمجزرة، 500 دولار هو الثمن الذي كان يريد الصحفي الفرنسي دفعه للقطب مقابل تنازله عن صوره، لكن رده كان: أنا حمار اذا ببيعك.
يعيش المصور يوسف القطب (63 عاما) اليوم في عزلة جغرافية، فهو اختار أن يكون بيته فوق تلة بين بيرزيت والمزرعة الغربية، إلى الشمال من رام الله، عزلة تشبه عزلته في عمله الصحفي، فهو لا يسمح لأحد بأن يتقاسم معه صوره، أو يشتريها منه، وفيا لزمن كانت الصورة فيه تحتاج مغامرة غير محسوبة، وعلى الأرجح تودي بصاحبها شهيدا بفعل صاروخ تلقيه طائرات الاحتلال الاسرائيلي، أو قتيلا بفعل رصاصة طائشة أو مقصودة أو تفجير في جولات حروب لبنان الأهلية.
لا يتذكر عدد المرات التي أصيب بها، ولا يعرف الأمكنة بالتحديد، ولا الزمان، فجل اهتمامه انصب على تفاصيل القصف والمعارك التي كانت تدار من حوله. لكنه يشكو إلى اليوم من الوجع! وخاصة اصابته في العام 1973 بالفوسفور الحارق والمحرم دوليا، 44 عاما وهو يحمل ذلك الجرح العميق في قدمه، ويحمل معه جروحا لا تُرى، فالخروج من الأردن إلى بيروت إلى تونس إلى غزة إلى الضفة، كانت جميعا سفر تأشيرته الوجع.
القطب المولود في البلدة في القدس عام 1954، خرج منها عام 1967 للالتحاق بالعمل الفدائي، وحول تلك الحادثة التي قلبت حياته وجعلت منه مصور الثورة الفلسطينية ومقاتلها، يقول القطب: قلت لوالدتي أريد الخروج إلى الأردن للالتحاق بالثورة، في اليوم التالي خشيت علي الهرب، وقامت بنفسها بإيصالي إلى عمان، وبعثتني بيديها إلى معسكر أشبال البقعة وسلمتني لصخر حبش، ثم انتقلت إلى عين السخنة وبعد عدة دورات أصبحت مدربا، قصف المكان مرتين واستشهد بيننا العديد من الملتحقين بالمعسكر ومن أبرز العمليات التي شاركت بها في تلك المرحلة، عملية الحمة التي استمرت لمدة ست ساعات سيطرنا خلالها على الحمة ورفعنا علم فلسطين فوقها، قبل قدوم الطائرات والدبابات الاسرائيلية، التي طردت المقاتلين من الموقع.
في بداية السبعينات انتقلت الى لبنان وقاتلت في الجنوب، اشتريت دراجة صغيرة "موتور سيغل" وحملت الكلاشنكوف على ظهري وبدأت بالتنقل بين مواقع المقاتلين والجبهات ونقاط التماس، وأصبت أثناء قصف على الجنوب اللبناني سنة 1973، واثناء علاجي في المشفى زارني مسؤول الاعلام في منظمة التحرير ماجد أبو شرار وطلب مني بعد أن أنهي علاجي أن أزروهم في الاعلام المركزي لأمارس عملي كمصور، وبعدها بأشهر طلبت من ماجد شراء دراجة أكبر من التي أقودها.
وحول دراجته الأولى وظروف حياة المقاتل المادية قال القطب: كنت أعزبا، ولم يكن لدي مصروف، والطعام والشراب كان متوفرا، فتح كانت تصرف للمقاتلين أمثالي 1500 ليرة لبنانية في الشهر، وقبلها، في نهاية الستينات، في الأردن كانت تصرف لنا 3 دنانير شهريا، حياتي كلها صارت في الاعلام والتصوير، أصبت عدة مرات في الجنوب، آخرها عام 1978 في قصف اسرائيلي أصيب فيه معي زميلي أبو ظريف، فيما استشهد زميلانا عمر المختار وإبراهيم ناصر.
ومن حكايات القطب المثيرة، اتصال هاتفي خلال معركة بيروت في حزيران 1982، حيث اتصل أبو عمار بالقطب طالبا منه التوجه فورا إلى منطقة خلدة لتصوير عدة دبابات للاحتلال احترقت بعد هجمات للمقاومة، يقول القطب: كنت مصابا والوقت هو العتمة، وصلت إلى آخر نقطة للمقاتلين قرب المطار هناك قال لي شاب اسمه أبو الفواخر: انت مجنون، رح تروح وما ترجع. وفعلا كانت الأوضاع متفجرة ولا أحد يعتقد أنه سيسلم، فكيف حين تقود دراجة في مساحة 5 كيلوميترات مكشوفة، فالمقاتلين يقصفون من ناحية المطار والاحتلال يرد من ناحية خلدة، الشوارع ملأى بالحفر وأنا أسقط كل 50 متر، ثم أتابع، وحين وصلت موقع الدبابات ألتقطت ثلاثة صور ثم انفجرت دبابة من الدبابات المشتعلة، فوقعت في حفرة أنا والكاميرا ودراجتي، كسرت قدمي وأصبت بكدمات وخرجت زحفا بعد أن وقعت في الوحل واتسخت مع الكاميرا، ركبت الدراجة وأصبح سقوطي عنها كل 20متر، وحين وصلت الموقع الذي كان فيه أبو الفواخر والمقاتلين وجدته قد مُحي عن وجه الأرض، وصلت المستشفى لمعالجة جروحي، فوجدت أبو الفواخر والمقاتلين شهداء.
تغيرت دول وأنظمة حكم، وقعت حروب ووقع سلام، وبقي القطب على حاله، رجل مواقف ثابتة، لا تفريط بما امتلكه عبر سنوات طويلة، استشهد زملاؤه، خرج مع المقاتلين إلى منافٍ جديدة، وظل وفيا لأرشيف الثورة الذي حمله على ظهره لأكثر من أربعين عاما، ويستطيع الزائر لبيته الاطلاع معه من خلال حاسوبه على مئات آلاف الصور التي ألتقطت للثورة في مراحل مختلفة.
وحول ذكرياته المريرة والمشاهد الصعبة، قال القطب: قبل وقوع مجزرة تل الزعتر في اب 1976، التقطت لعائلة أبو كارم عشرات الصور، وحين وقعت المجزرة وجدت صورتهم لدى صحفي أعتقد انه ياباني، حيث الأم وأطفالها العشرة كومة لحم فوق بعضهم، ومشاهد كثيرة في مجزرة مخيم النبطية.
ومن المشاهد التي لا ينساها القطب، لحظة خروج من تبقى من أهالي تل الزعتر بعد المجزرة التي قدر عدد شهدائها بنحو 5 آلاف شهيد، يقول القطب: لحظة خروج الأهالي ذهبت للتصوير، فوجدت فتاة بحدود الرابعة عشرة من عمرها تمسك بيد والدها العجوز، وحين رفعت الكاميرا كانت الفتاة تصرخ فأنزلت الكاميرا ولم أتمالك نفسي، وحين اقتربت مني قالت لي: اذا انت زلمي روح صور جوا المخيم.
وبعدها بعدة أشهر ذهبت إلى مخيم الدامور الذين انتقلت اليه عائلات تل الزعتر، عرفتني الفتاة وقامت بمناداتي، أخذتني لبيتهم لأن والدها يريدني، وهناك طلب مني الرجل صور عائلته التي فقدها في المجزرة، وفي الحقيقة لم تكن لدي معرفة بالعائلة ولا صور لها، فقلت له سأحاول تدبرها، ثم مضيت.. بعد ذلك بفترة قصيرة سمعت أن مخيم الدامور تعرض لقصف، فذهبت لتصويره، وهناك مررت عن بيت الفتاة وأبيها ووجدته منسوفا، والأهالي ينتشلون جثة الرجل من تحت الأنقاض.
وفي مشهد آخر يقول القطب، في أحد المواقع والتجمعات الفلسطينية كان هناك قصف، وصاروخ لم ينفجر، قلت لمقاتلين وأطفال تجمعوا حوله أنه مؤقت والأفضل الابتعاد عنه، لم يصغوا إلي، فابتعدت مسافة أربعين مترا، ثم انفجر الصاروخ، تطايرت أشلاء الاطفال والمقاتلين على جسدي وكاميرتي، كان المشهد قاسٍ ولم أصوره.
ربما يكون القطب الشخص الوحيد الذي تجد لديه صور لتلك المرحلة من النضال والألم الفلسطيني، صور الدمار وصور الفخر، أشبال وزهرات يلبسون لباس العسكرية ويتدربون على النظر صوب الوطن فلسطين فقط، صور القتال والشهداء، وقتلى العدو غير المرئيين، بيوت مهدمة وأشجار ساقطة، شوارع مُكسرة وأرض مغبرة وسماء ملبدة بالطائرات، صواريخ تشعلها أيدي الثوار لتنطلق صوب الاحتلال، وأخرى تسقط على المخيمات والمدنيين والمقاومين، صور لرحيل آخر.
ربما يكون يوسف القطب، المصور الوحيد في العالم الذي كان يحمل الكاميرا على كتف والبندقية على الكتف الآخر، فهو مقاتل في صفوف الثورة الفلسطينية قبل أن يكون مصورها الأمين وحافظ تاريخها من الضياع.
عايش حروب لبنان في سنوات السبعينات والثمانينات عن قُرب، قفز من شارع إلى شارع، ومن بيت إلى بيت، هربا من الرصاص والقذائف المدفعية وصواريخ الطائرات المقاتلة، يعرف جيدا أنه نجا بالصدفة. حروب أهلية وحروب مع الاحتلال ومعاونيه، لم تُبقِ الكثير من الفلسطينيين، وزعتهم بين شهداء وجرحى وأسرى ومفقودين ومنفيين، كان القطب يحرس الذاكرة الفلسطينية المقاتلة في الاردن وبيروت، من خطر أن يستدل عليها مستغل أو سارق، وحين خرج من بيروت إلى تونس حمل حقيبته التي انتقلت معه اليوم إلى بيرزيت، ولم تجد لها مكانا إلا فوق رفوف بسيطة وضعت في زاوية المطبخ، حيث شهاداته التقديرية وكاميراته التي تعدت ال15، أفلام قديمة وبراغي للتصليح، وثلاث جوائز حصل عليها من العراق.
في فسحة منزله، يعلق ما انتقاه من صور، بعضها لمقاتلين يفلحون الارض، وأخرى لمقاتلين يأخذون وقتا للاستراحة والحديث والضحك، دون أن يغفل صور المقاتلات، شابات في مقتبل العمر يحملن الكلاشينكوف ويرتدين الزي العسكري، فيما عُلقت صور أخرى تحمل أطفال المخيمات وبؤس الحياة تلك، صور للجرحى والشهداء والمجازر، ومقاتلين يخرجون من حشائش الأرض.
ينظر إلى صوره بفخر، وهل أكبر من فخر الانتماء بشرف وجدية وصدق إلى قضية يسقط الشهداء لأجلها يوميا، تُنسف بيوت وتغلق طرقات ويُزج بشبابها خلف القضبان وفي الزنازين المعتمة.
لم يخرج من بيروت إلا بحقيبته وملابسه التي عليه، فبيته في صبرا تعرض للقصف والحرق، ومثله الكثيرون، خرجوا من بيروت بأقل ما يملكون وما يستطيعون حمله، فلا الوقت ولا الظرف كان يسمح لجمع الذكريات وسحبها إلى منفى آخر، ومن أمثلة ذلك الوقت، الشاعر معين بسيسو الذي كتب: لم أخرج معي من بيروت إلى قبرص إلا شمعة تضيء لي درج العمارة والشمع الذي كتبت عليه قصائدي، وقصائدي.
المتتبع لحياة المصور القطب، يدرك أنه كان يعيش منذ سن الثانية عشرة جنبا إلى جنب مع الرصاص والاشتباكات والحدود والملاحقات، السؤال هو: كيف بمقدور شاب الحفاظ على مليون صورة في حقيبة جلدية صغيرة، بين عشرات آلاف القذائف المدفعية والصواريخ، وملايين الرصاصات التي أطلقت في المدن والقرى والمخيمات التي تواجد بها، رصاصات طائشة وتفجيرات فوضوية.
بعد أن تطلق عين القطب سهامها نحو المشهد، وتلتقط الصورة، لا شيء يعيدها!