مشاعر كونية
بقلم: حنان باكير
يقال: إن القط يتعلق بالمكان، وأن الكلب يتعلق بصاحبه. ومن خلال مشاهداتنا نوافق هذا القول الى حد كبير. فأنا وإن كان لديّ وفاء الكلب، لكن لي طبع القطة التي تعشق الأماكن التي تعتادها.
لم أعط الفرصة، لاعتياد مكاني ومنبتي الأصلي. اقتلعت منه قبل أن ينبت أول سن في فمي. لكني اعتدته وأدمنته وجدانيا، قبل أن تتجسد ذاكرتي وتصبح حسية، يوم عدت عودة منقوصة، جعلت القلب يتشظى، ويزداد عشقا.
لبنان هو أول أماكن اعتيادي وعشقي، دروب لبنان، بسفوحه وجباله، وببحره ومقاهيه، كان الوطن العملي الأول. أغيب عن بيروت حينا لا يطول.. فينتابني الحنين، وأعود اليه بلهفة العاشقة. أتفقد طرقاته، وأزقة جبله. في الحيّ الذي أسكنه وأفتقده.. أدرك جمال أن تكون في مكان يعرفك وتعرفه، تتسكع في الطرقات، وتتوقف لإلقاء تحية هنا، أو للردّ على استقبال حميم، ينتظرك فيه أبناء الحي!
في بلاد الإغريق، التي حفظتُ أساطيرها، وموسيقاها، وشخصية زوربا ورقصته الشهيرة، بمعابدها التي اعتدت زيارتها، وأحياء " فولا، وغليفادا " حيث عشنا لسنوات.. ما زالت تعني لي الكثير من الحب والحنين.
لم تكن الحكايا المروية عن جدي لأبي التركي، غير أساطير تروى. فيوم رحل ذلك الضابط الغريب، في كمين نُصب له ولثلاثين عسكريا عثمانيا، تحوّل في عائلتنا، الى أسطورة، ولا يُذكّر بها الا الصبيان الثلاثة، الذين ولدتهم له جدتي الفلسطينية. أبي المسكون بعكا حتى النخاع، وعاش يحلم بها ويحكي لنا ذاكرتها، تمنى قبل موته، لو أنه تمكّن من التعرف الى أهل أبيه الأتراك!
شحّة المعلومات عنه، أسطرة لنا سيرته. لكن رحيل أبي، أعلن لنا حضور الجد الغائب. وحين بدأتُ وأدمنت استعمال الخطوط الجوية التركية، أحيت الحنين الى الجد التركي، والأب الذي تمنى التعرف الى رائحة أبيه! وفي اول رحلة لي في سماء اسطنبول، استيقظ حنين دفين. لم أزر موطن جدي، لكني أعدت صياغة حياته، وفق المتوفر من المعلومات عنه.
فمن علو الطائرة، رأيت ذلك الطفل، الذي ولد لعائلة راقية. رأيته بطربوشه الأحمر، يحمل محفظة كتبه.. وفي كل رحلة فوق سماء اسطنبول، أتابع تصوير فيلم حياته. رأيته ينمو ويصبح شابا جميلا، إذ يحكى أن أبي يشبهه الى حد كبير، ثم تابعت نموه الى أن صار في المدرسة الحربية. لم يكن ذلك الطفل، يعلم ماذا كتب له، كما أعرف أنا عنه!
لم يكن يعلم، بأنه سينتقل الى أرض فلسطين عسكريا، ومسؤولا عن دائرة الطابو، وأنه سيتزوج الفلسطينية التي ستصبح جدتي لأبي. وأنه سوف يذهب ضحية كمين، مع ثلاثين عسكريا عثمانيا.. ذلك الكمين الذي كشف الستار عن خفاياه، قبل فترة قصيرة، وأن لورنس العرب، هو من خطط وقاد ذلك الكمين. فقضى جدي غريبا ودفن في أرض غربته. هل شعور الغربة الذي يلازمني، أينما ارتحلت وحللت، يحملني على التعاطف مع ذلك الجد الغريب؟ ويوم حاولنا البحث عن قبره في أرض غربته، كانت المقابر التي يحتمل أنه دفن فيها قد جُرفت!
يا الهي.. كيف حملتني هذه الذكريات الى عشق مكان، دون أن أعرفه، لكنه ارتبط بأحباء لي، إنها اسطنبول.
لبلاد الفايكنغ، عشق وامتنان خاص! فأحفاد هؤلاء الفايكنغ، نجحوا في بناء المجتمع الأسعد في العالم، وقد اعترفوا بانتمائي للجنس البشري، وفرضوا احترامي، على كل الحدود والمطارات، وفي المنتديات العربية والعالمية.. فأحببت النرويج، بتهذيب شعبها، ونظامها الإنساني، بطبيعتها وتقلب فصولها.. أشتاقها عندما أغيب عنها، وأراها في عيون أحفادي الذين تتناصفهم ثقافتان، النرويجية والفلسطينية.
أحب من الأمكنة ما أحب، وأنا مخلوق كوني المشاعر، لكنه حب ومشاعر، تمران عبر منبتي الأول في فلسطين.