العدالة المفقودة
حنان باكير
مخالب أيار، تزداد حدّة وشراسة. "سبعون أيار"، تعاقبت على الفلسطيني، وكل واحد منهم، يحمل مفاجآته، ويراكم أوجاع الغربة والفقد، لموطن عصيّ على النسيان. لكن أيار هذا العام، كان مختلفا ومتفرّدا، بلونه الأحمر القاني. لا أتكلم عن المسرحية الهزلية، لنقل السفارة الأميركية، الى القدس. فكل الاحتلالات، لملمت حقائبها وأشياءها وحتى أنفاسها من هوائنا، حين ارتحلت.
مسيرة العودة.. بدأت في غزة والضفة، ثم توسعت وتمددت، وبلغت أقاصي الدنيا. فالتظاهرات، غيّرت اسمها وعنوانها، وصارت مسيرات العودة. ويُخطئ من يحاول تجييرها، لصالح جهة معينة، لتبرير عمليات قتل الأطفال والنساء، ورفع منسوب الدم الفلسطيني، وهذا ما يستغله المحتل، بقصد الترهيب، وزرع الرعب في النفوس.
ويمكننا وصف تلك المسيرات، بالإنتفاضة والهبّة الشعبية، التي تتجاوز التسيير من قبل، جهة ما، بل هي امتداد لنظام "الفزعات"، قبل النكبة الأم عام 48. حيث كان الفلسطينيون يهبّون لنجدة القرى والمدن، التي تتعرض لهجوم العصابات الصهيونية، ودون أوامر من جهات خارجية أو داخلية.
تميّز أيار هذه السنة، بالتوحّش والتغوّل، في عمليات القتل، التي نال الأطفال منها النصيب الأوفر، ولا أعني الأطفال الرّضع فقط، لأن سن الطفولة يمتد حتى سن الثامنة عشرة، وهذا عرف دوليّ. وعملية الاستفراس في القتل، تعكس رعب المحتل، من استمرار جذوة الحنين والإصرار على حق العودة، فالرهان على نسيان الأجيال الصاعدة، لموطنهم قد خاب واندثر. وربما هم يدركون، أيضا، أن عامل الزمن، لا يعمل لصالح الاحتلالات! وكلنا شاهدنا، حالة النشوة والفرح، التي عاشها شعبنا لحظة اجتاز الأسلاك، وداس تراب أرضه لأول مرة في حياته!
هذه ليست مقدمة، للحديث عن تجربة مريرة، تتكرر معي كل سنة، وتحديدا في شهر أيار.. فقبل أيام قليلة، زرت دار حضانة نرويجية، لمناسبة اليوم الوطني النرويجي، الذي يصادف في 17 أيار، حيث تقام احتفالات، مسبقة للأطفال من عمر سنة وحتى الخامسة. وسط طبيعة خضراء ساحرة.. يُجمع الأطفال بملابس وطنية، لمن شاء.. يحملون الأعلام النرويجية. يستمعون للنشيد الوطني، ملوحين بالأعلام. ثم يقومون بإنشاده، ولتباين أعمارهم، تتباين نسبة حفظ كلماته، براءة الإنشاد تلامس القلب بدفء وحنان. مسيرتهم في المنطقة، تستغرق قرابة الساعة، على أنغام الموسيقى الوطنية، مع هتاف للوطن، بين الحين والآخر.. تتوقف السيارات المارّة في الطريق، يغادرها أصحابها، للتصفيق للصغار، وإلقاء التحية عليهم، والتقاط الصور لهم. يعودون الى دار الحضانة، حيث ينتظرهم احتفال، طعام وطنيّ، حلويات، وعصائر، ثم يعودون الى صفوفهم، لمتابعة دوام يومهم، لأن العطلة فقط في السابع عشر من أيار.. غادرت المكان، بغصة في الحلق، ومرارة حنظل في الفم.. آثرت السير الطويل في الغابة، قبل العودة للبيت، مُطلقة سراح دمعات حارقة.
تراءت لي صور أطفالنا في بلاد العُرب أوطاني. وخاصة أطفال فلسطين. ففي وطني يُخنق الأطفال في الطرقات، تستأسد مجموعة جنود على طفل لتقوم بخنقه حتى الإستشهاد.. في وطني تحرق الأطفال حيّة، وأحيانا مع الأبوين والاخوة. ويُجرّع الطفل البنزين ويحرق في الساحات، وسط هزيج ومرح، قطعان لا تمت بصلة للإنسانية، ولكل طفل محرقته "هولوكوسته"، المفصّل على قياسه. الطفلة الرضيعة، التي لم تكد تدوّن اسمها في سجل الوجود، يكفيها تنشّق الغازات السامة، لتغادر على عجل، للالتحاق بركب الشهداء من الأطفال. هنا الموت يبدع في ابتكار أنواع الموت.. تهشيم العظام، سيارة رعناء تجرف أطفالا، وبعض الأطفال يستشهدون قبل أن يولدوا، وهم أجنّة في أرحام أمهاتهم.. من رحم الأم الى رحم الأرض، إنها فقط مسافة طلقة رصاصة.. ثم ينال الأطفال بجدارة لقب " الإرهابيين"!
لوحتان من صور متناقضة لأطفال، يتشاركون البراءة، لكن بحظوظ مختلفة، تدفعك الى حدّ الصراخ في وجه السماء!