"باولا زهرة على صدر فلسطين" باولا ابرامز الحوراني
عيسى عبد الحفيظ
قد يبدو الاسم غريبا ويخلو من الانسجام، ولكنه حقيقة جميلة دخلت الى صفحات التاريخ الفلسطيني المعاصر، ربما كان للصدفة دورها ولكن هكذا أراد القدر.
ترك الصديق فيصل الحوراني (الكاتب والروائي) صاحب إلياذة دروب المنفى بمجلداتها الخمسة والتي وثقت فترة النكبة وما تلاها من الملحمة الفلسطينية حتى أواخر السبعينات بأسلوبه الروائي الواقعي الجذاب.
غادر فيصل إلى فيينا عاصمة النمسا حيث تم تعيينه على كادر السفارة هناك دون التزام سوى تفرغه للكتابة بقرار من الرئيس الراحل ياسر عرفات، فأنجز تلك الخماسية (دروب المنفى)، وشاء القدر ان يتعرف على (باولا ابرامز). وكان من الطبيعي ان يحدث اللقاء، لكن دور الصدفة لم يتعدَّ وجود الاثنين في نفس المكان، فالراحلة الرقيقة باولا ابرامز نشطة في المجال السياسي ومثقفة؛ حيث عملت سابقا في الأمم المتحدة وكانت على اطلاع راق بالقضية الفلسطينية.
لم تمنعها ديانتها اليهودية من الوقوف الى جانب الحق والصواب، فدخلت معترك الانحياز الى الحق حتى لو غضب بنو ملتها، او الجزء الأكبر منهم، وأصبحت كتاباتها مرجعا للباحثين في أوروبا.
تجلى نشاطها على ساحة النمسا بالمساهمة والمشاركة الفعالة في منظمة (نساء في وشاح اسود)، وهي تلك المنظمة التي أخذت على عاتقها توعية الرأي العام النمساوي بالقضية الفلسطينية وكشف الرواية الصهيونية وتصحيح المعلومات التي كانت الحركة الصهيونية قد مررتها من خلال إمكانياتها الهائلة وتأثيرها الواضح في أجهزة الإعلام خاصة في بلد كالنمسا، وكانت على تماس يومي بالبرامج التلفزيونية والإذاعية باللغتين الألمانية والانكليزية والتي تتقنهما بشكل ممتاز، وعلى اهبة الاستعداد لتصحيح ما يجري بثه مما كانت تراه مجافيا للحقيقة.
دخلت معترك الكونغرس الأميركي بشكر الأعضاء الذين يقولون الحقيقة كما هي في ما يتعلق بالصراع العربي- الصهيوني، وهم قلة. ولكن باولا كانت تسعى لتشجيع من ترى فيهم المصداقية والواقعية.
في الخامس من حزيران عام 2018 فارقتنا هذه الرقيقة ذات الحساسية المرهفة مما فعله أبناء ملتها، تاركة خلفها ارثا طويلا وحافلا من الانجاز والذكرى، بعد ثمانية وسبعين عاما من العطاء. تركت في وصيتها الجميلة إهداء مكتبتها الثرية بآلاف الكتب القيمة للمكتبة الوطنية الفلسطينية والتي تتناول القضية الفلسطينية باللغتين الالمانية والانكليزية، كما أوصت بإهداء اللوحات الفنية والتي تتناول القضية الفلسطينية على يد رسامين مشهورين الى الجهات الفلسطينية المختصة، وكانت هي الرسامة صاحبة الذوق الرفيع في تجسيد معاناة الشعب الفلسطيني.
عرفتها عن كثب بحكم علاقتي الشخصية مع زوجها فيصل، وتعود بي الذكريات الى زياراتها المتكررة الى فلسطين والى رفضها التام النزول في غرفة في فندق الهلال الأحمر الفلسطيني في رام الله ؛ حين تم حجز غرفة جميلة تطل على شارع القدس، وحين صعدت نظرت من النافذة فكانت مستوطنة (جبل الطويل) أمام ناظريها.
طلبت من فيصل فورا تغيير الغرفة، لتطل منها على أوجاع مخيم الامعري!!
مازالت الضمائر النقية تصدح بالحق، وما زالت القلوب الطيبة تلهج بالحقيقة، وما زال هناك من يعرف ويقول كلمته بشجاعة غير آبه بغطرسة القوة، وما زال هناك من يقرأ التاريخ كما هو، وليس كما يريد البعض ليَّ ذراعه.
كانت باولا كل ما سبق. زهرة دفلى في وادي الأردن ووردة على سفوح الكرمل..
وداعا باولا سيدتي الرقيقة كناي القصب، ما ان تلفحه نسمة الشمال الفلسطيني حتى يبدأ بالغناء.. ريح الشمالي يا نسيم بلادنا!!