مروان البرغوثي ... أتقن الرحلة من داخله الى خارجه ولم يغرق - عيسى قراقع
مرة أخرى، يكمل مروان البرغوثي حياتنا في زنزانته الانفرادية معاقبا على صوته وكلماته وإتقانه رحلته من داخله الى خارجه دون أن يغرق في ظلام الاحتلال الذي طال.
لا زالوا يلاحقونه سياسيا ، لأنه يحمي لغة حركة التحرر الوطني وحق تقرير المصير من الانكسار، ويقترب بسرعة من الإعلان عن سلام الروح الفلسطينية مع وجودها الحضاري هوية ومكانا وشرعية.
في محكمة الصلح المركزية بالقدس وقف هذه المرة قاضيا أمريكيا يتهم مروان البرغوثي بالمسؤولية عن نضال الشعب الفلسطيني ومقاومته للاحتلال، لم يكتف هذا القاضي بخمس مؤبدات وأربعين عاما صدرت بحقه من المحكمة العسكرية الاسرائيلية عندما خطفوه حيا وليس رمادا في جرّة كما تمنى شاورن في حينها.
أمريكا الامبريالية تحاكم الشهداء والأسرى والجرحى والمبعدين والمعذبين من خلال مروان البرغوثي، وتستدعي الضحية لتعاقبها وتدفع تعويضا عن بقائها حيّة، ونهوضها من دمها مجددا، فليس مألوفا في العرف الأمريكي أن تتحدث الضحية الفلسطينية عن المشترك في الوجع الإنساني عندما تحول الضحايا الإسرائيليين الى جلادين في التاريخ.
أطل مروان على المشهد من جديد، وقدره أن يطل دائما من سجن او محكمة عسكرية، مقيدا محاطا بالسجانين والحراس، رافعا يديه الى الأعلى، متجاوزا حدود المعسكر، موجها تحيته الى شعبه المحاصر خلف السياج والمستوطنات مسافرا من أمسه الى غده.
خلع اللباس البني، وتحرك في تلك المساحة الصغيرة، وأطلق علينا ابتسامته، لم يلتفت الى قضاة المحكمة الأمريكيين، ساخرا من محكمة لا تملك الشرعية في محاكة أسير تعتقد انه شبح أو غائب عن الحياة.
المحكمة لم تكن تبعد سوى عشرات الأمتار عن معتقل المسكوبية التي تسمى المسلخ، حيث تعرض مروان هناك للتعذيب والشبح طيلة 90 يوما، وتناوبت عليه فرق الجلادين ليل نهار فلم يعترف، مستمدا من جرس الكنيسة في ساحة الدير الروسي كل الإيمان واليقين بالخلاص، وبترجل المسيح عن الصليب منتصرا للعدالة في هذا العالم.
أولى كلماته كانت من القدس المحتلة، داعيا الى رحيل هذا الاحتلال والى المقاومة الشعبية السلمية والوحدة الوطنية، صارخا: سوف نشفى من قيامتنا الصغيرة ، هناك وجه فيصل الحسيني، وشمس قبة الصخرة، موجها التحية من قاع الفراغ الى أعالي جبل الطور وموج البحر المتوسط.
في قاعة المحكمة تحدث مروان بلهجته الخشنة والدافئة، عشرات عدسات الكاميرات جاءت متعطشة لكلماته وصورته، ساد صمت ثقيل في القاعة، كأن راهبا قد خرج من الدير المجاور يجدد الإقامة فوق هذه الأرض ويرمم البيت والمغارة ويشعل الضوء.
رجال وحدة نحشون القمعية كانوا يشدون جسد مروان النحيل، ويمنعونه من الوقوف، وما إن فك هؤلاء الأصفاد من يديه، حتى وقف ورفع شارة النصر، تحرك حينها الكون، تدلت السماء،واقترب البرق، تساءلت تل أبيب عن رجل يجمع الفصول الأربعة في شخصه، أكثر مما جمعه جيش الاحتلال من أوهام الانتصارات خلال أربعة و أربعين عاما.
لزم مروان الصمت لمدة ثلاث ساعات ونصف، لم ينظر الى القضاة الأمريكان، ورفض أن يسمع ترجمة ما يقولوه، عيونه كانت ترنو الى المسجد الأقصى وأسوار البلدة القديمة عبر شباك المحكمة الشرقي، كان يصلي، غير آبه للسيوف المشرعة على جسده، كأن الجميع من حوله لم يكونوا موجودين.
كلما ازداد مروان ظهورا، توترت دولة الاحتلال وأجهزتها الأمنية ، فالدولة التي اعتقدت إنها انتصرت على مروان لم تعرف ماذا تفعل بنصرها عندما صار دماغها العسكري أكبر من جسدها ، فأصبحت أسيرة لقوتها الجشعة، لم تحسب قدرة مروان الأخلاقية والنضالية على تحييد هذه القوة.
كلما حشروا مروان في الزنزانة، ازداد عبء ثمن الاحتلال على الاحتلال، فالسجن والتسوية لا يلتقيان، وعندما كشف لهم مروان أن الزنزانة هي الأب الشرعي للمقاومة، وأن الاحتلال الى زوال ما دام يرتدي ملابسه الفولاذية، توقفت حينها لغات المحكمة الثلاث وأعادوه الى القبر.
في الطريق من سجن هداريم الى محكمة الصلح بالقدس،كان كل شيء يدل على الصراع، معسكرات وحواجز ومستوطنات وأراضي للتدريب، وشوارع التفافية وأسماء عبرية تشتبك بجرافاتها لتعيد تشكيل المكان ، دولة حرب لا تسمع صوت الإنسان فيها.
وفي الطريق توحد مروان بين الزمان والمكان، حاضر وغائب وسجين، سافر في شوارع حيفا على سطح الكرمل الموزع بين البحر والبر، وشعر بالعطش عندما وصل القدس والحاجة الى الصلاة، فالوطن في متناول اليد، والحلم أكثر واقعية الآن يجتاحه بكل التفاصيل رغم تشوه الخريطة.
مروان البرغوثي المتحول من قيد الى أفق، أثبت أن الإسرائيليين هم المنفيون، وكلما أمعنوا السيطرة على فلسطين اتسع المنفى والاغتراب في ثقافتهم وابتعدت الأسطورة، وكلما قال لهم اذهبوا الى السلام حتى تتخلصوا من المشاهد النقيضة لأحلامكم، كلما أمعنوا في تعميق أبعاد الزنزانة حولهم.
لم يتجاوب البرغوثي مع المحكمة، ازداد غيظ الإسرائيليون، هذا الرجل يستهتر بهم، يولي وجهه عنهم، شاهده الملايين من البشر كيف يخطو ويفتح أبواب السجون على بشر يموتون دفاعا عن خلاصهم الإنساني، ويشعلون في تل أبيب الأسئلة، يشاهدون رجلا يعود من المحرقة لا يشبههم.
يخشاه الإسرائيليون لأنه قال لهم: اليوم الأول للسلام هو اليوم الأخير من عمر الاحتلال، وعليكم أن تطيلوا أعماركم وتقفوا ضد حاخامات عنصريون يضللونكم، وضد ذلك المدعي العسكري الذي يرى في ارتكاب المجازر عملا قانونيا، أنقذوا أنفسكم من الفاشية القادمة ومن دولة دينية متطرفة هي نهايتكم الاختيارية.
المحامي الياس صباغ وصف أجواء المحكمة بالصعبة، والمحزنة، الكل ينهش في جسده الهزيل ولون بشرته وشعره، رأى رمزا يتناوله مجموعة من السجانين جاءوا من وراء المحيط، يحملون نورا من الرصاص وليس نورا للأغيار كما يدعون، ورأى رجلا يخرج عن يتمه ويوسع النشيد، يتمسك بغده الواعد بالأمل.
قاضي المحكمة الأمريكي أغلق المشهد، وقرر أن يترأس مؤتمر هرتسليا القادم ليعلن عن استراتيجية أمنية جديدة لدولة اسرائيل تتمثل باقتلاع الدورة الدموية من رحم الأرض حتى يختفي مروان عن أعالي الشجر.
لا زالوا يلاحقونه سياسيا ، لأنه يحمي لغة حركة التحرر الوطني وحق تقرير المصير من الانكسار، ويقترب بسرعة من الإعلان عن سلام الروح الفلسطينية مع وجودها الحضاري هوية ومكانا وشرعية.
في محكمة الصلح المركزية بالقدس وقف هذه المرة قاضيا أمريكيا يتهم مروان البرغوثي بالمسؤولية عن نضال الشعب الفلسطيني ومقاومته للاحتلال، لم يكتف هذا القاضي بخمس مؤبدات وأربعين عاما صدرت بحقه من المحكمة العسكرية الاسرائيلية عندما خطفوه حيا وليس رمادا في جرّة كما تمنى شاورن في حينها.
أمريكا الامبريالية تحاكم الشهداء والأسرى والجرحى والمبعدين والمعذبين من خلال مروان البرغوثي، وتستدعي الضحية لتعاقبها وتدفع تعويضا عن بقائها حيّة، ونهوضها من دمها مجددا، فليس مألوفا في العرف الأمريكي أن تتحدث الضحية الفلسطينية عن المشترك في الوجع الإنساني عندما تحول الضحايا الإسرائيليين الى جلادين في التاريخ.
أطل مروان على المشهد من جديد، وقدره أن يطل دائما من سجن او محكمة عسكرية، مقيدا محاطا بالسجانين والحراس، رافعا يديه الى الأعلى، متجاوزا حدود المعسكر، موجها تحيته الى شعبه المحاصر خلف السياج والمستوطنات مسافرا من أمسه الى غده.
خلع اللباس البني، وتحرك في تلك المساحة الصغيرة، وأطلق علينا ابتسامته، لم يلتفت الى قضاة المحكمة الأمريكيين، ساخرا من محكمة لا تملك الشرعية في محاكة أسير تعتقد انه شبح أو غائب عن الحياة.
المحكمة لم تكن تبعد سوى عشرات الأمتار عن معتقل المسكوبية التي تسمى المسلخ، حيث تعرض مروان هناك للتعذيب والشبح طيلة 90 يوما، وتناوبت عليه فرق الجلادين ليل نهار فلم يعترف، مستمدا من جرس الكنيسة في ساحة الدير الروسي كل الإيمان واليقين بالخلاص، وبترجل المسيح عن الصليب منتصرا للعدالة في هذا العالم.
أولى كلماته كانت من القدس المحتلة، داعيا الى رحيل هذا الاحتلال والى المقاومة الشعبية السلمية والوحدة الوطنية، صارخا: سوف نشفى من قيامتنا الصغيرة ، هناك وجه فيصل الحسيني، وشمس قبة الصخرة، موجها التحية من قاع الفراغ الى أعالي جبل الطور وموج البحر المتوسط.
في قاعة المحكمة تحدث مروان بلهجته الخشنة والدافئة، عشرات عدسات الكاميرات جاءت متعطشة لكلماته وصورته، ساد صمت ثقيل في القاعة، كأن راهبا قد خرج من الدير المجاور يجدد الإقامة فوق هذه الأرض ويرمم البيت والمغارة ويشعل الضوء.
رجال وحدة نحشون القمعية كانوا يشدون جسد مروان النحيل، ويمنعونه من الوقوف، وما إن فك هؤلاء الأصفاد من يديه، حتى وقف ورفع شارة النصر، تحرك حينها الكون، تدلت السماء،واقترب البرق، تساءلت تل أبيب عن رجل يجمع الفصول الأربعة في شخصه، أكثر مما جمعه جيش الاحتلال من أوهام الانتصارات خلال أربعة و أربعين عاما.
لزم مروان الصمت لمدة ثلاث ساعات ونصف، لم ينظر الى القضاة الأمريكان، ورفض أن يسمع ترجمة ما يقولوه، عيونه كانت ترنو الى المسجد الأقصى وأسوار البلدة القديمة عبر شباك المحكمة الشرقي، كان يصلي، غير آبه للسيوف المشرعة على جسده، كأن الجميع من حوله لم يكونوا موجودين.
كلما ازداد مروان ظهورا، توترت دولة الاحتلال وأجهزتها الأمنية ، فالدولة التي اعتقدت إنها انتصرت على مروان لم تعرف ماذا تفعل بنصرها عندما صار دماغها العسكري أكبر من جسدها ، فأصبحت أسيرة لقوتها الجشعة، لم تحسب قدرة مروان الأخلاقية والنضالية على تحييد هذه القوة.
كلما حشروا مروان في الزنزانة، ازداد عبء ثمن الاحتلال على الاحتلال، فالسجن والتسوية لا يلتقيان، وعندما كشف لهم مروان أن الزنزانة هي الأب الشرعي للمقاومة، وأن الاحتلال الى زوال ما دام يرتدي ملابسه الفولاذية، توقفت حينها لغات المحكمة الثلاث وأعادوه الى القبر.
في الطريق من سجن هداريم الى محكمة الصلح بالقدس،كان كل شيء يدل على الصراع، معسكرات وحواجز ومستوطنات وأراضي للتدريب، وشوارع التفافية وأسماء عبرية تشتبك بجرافاتها لتعيد تشكيل المكان ، دولة حرب لا تسمع صوت الإنسان فيها.
وفي الطريق توحد مروان بين الزمان والمكان، حاضر وغائب وسجين، سافر في شوارع حيفا على سطح الكرمل الموزع بين البحر والبر، وشعر بالعطش عندما وصل القدس والحاجة الى الصلاة، فالوطن في متناول اليد، والحلم أكثر واقعية الآن يجتاحه بكل التفاصيل رغم تشوه الخريطة.
مروان البرغوثي المتحول من قيد الى أفق، أثبت أن الإسرائيليين هم المنفيون، وكلما أمعنوا السيطرة على فلسطين اتسع المنفى والاغتراب في ثقافتهم وابتعدت الأسطورة، وكلما قال لهم اذهبوا الى السلام حتى تتخلصوا من المشاهد النقيضة لأحلامكم، كلما أمعنوا في تعميق أبعاد الزنزانة حولهم.
لم يتجاوب البرغوثي مع المحكمة، ازداد غيظ الإسرائيليون، هذا الرجل يستهتر بهم، يولي وجهه عنهم، شاهده الملايين من البشر كيف يخطو ويفتح أبواب السجون على بشر يموتون دفاعا عن خلاصهم الإنساني، ويشعلون في تل أبيب الأسئلة، يشاهدون رجلا يعود من المحرقة لا يشبههم.
يخشاه الإسرائيليون لأنه قال لهم: اليوم الأول للسلام هو اليوم الأخير من عمر الاحتلال، وعليكم أن تطيلوا أعماركم وتقفوا ضد حاخامات عنصريون يضللونكم، وضد ذلك المدعي العسكري الذي يرى في ارتكاب المجازر عملا قانونيا، أنقذوا أنفسكم من الفاشية القادمة ومن دولة دينية متطرفة هي نهايتكم الاختيارية.
المحامي الياس صباغ وصف أجواء المحكمة بالصعبة، والمحزنة، الكل ينهش في جسده الهزيل ولون بشرته وشعره، رأى رمزا يتناوله مجموعة من السجانين جاءوا من وراء المحيط، يحملون نورا من الرصاص وليس نورا للأغيار كما يدعون، ورأى رجلا يخرج عن يتمه ويوسع النشيد، يتمسك بغده الواعد بالأمل.
قاضي المحكمة الأمريكي أغلق المشهد، وقرر أن يترأس مؤتمر هرتسليا القادم ليعلن عن استراتيجية أمنية جديدة لدولة اسرائيل تتمثل باقتلاع الدورة الدموية من رحم الأرض حتى يختفي مروان عن أعالي الشجر.