فاطمة العباسية
إيهاب الريماوي ومعن ياسين
"خرجنا تحت وطأة القذائف ولهيب البارود ونزيف الدم، شاهدت جثثا ملقاة في الطرقات، أصابنا فزع كبير، ما اضطرنا للجوء إلى حقول الزيتون وبقينا هناك لعدة أيام"، قالت فاطمة زيدان من قرية العباسية المهجرة، التي تبعد 13 كيلومترا عن مدينة يافا بأراضي الـ1948.
زيدان (85 عاما)، تقطن مخيم الجلزون شمال رام الله، استعادت شريط ذكرياتها عندما هاجمتهم عصابات "الهاغانا" الصهيونية في قرية العباسية عام 48.
وتستذكر زيدان فجيعتها بوفاة ابنتها البكر سهير التي لم تنسها يوما: "اشتد الجوع والعطش على طفلتي سهير، كان قد مضى عليها أكثر من يوم دون ماء أو طعام، ليلتها نامت في حضني بين حقول الزيتون بعد رحلة طويلة سلكتها مع عائلتي، وفي صبيحة اليوم التالي حاولت إيقاظها من النوم، لكنها كانت قد فارقت الحياة".
وأضافت: "ملأ صوتي وبكائي وصراخي المكان.. تجمهر الناس حولي، قبل أن يأخذوها من حضني الى الأبد ويدفنوها تحت شجرة زيتون بين بلدتي جفنا وبيرزيت، لم يتجاوز عمري حينها 14 عاما".
قبل النزوح من العباسية بنحو 10 أيام، وقع اشتباك بين العصابات الصهيونية وشبان القرية، الذي كان بعضهم يملك السلاح، يومها لم تتمكن تلك العصابات من طرد الأهالي، واضطروا لعقد هدنة لعدة أيام من أجل تبادل الجثث، تستذكر زيدان.
الاشتباك الذي وقع في القرية كان في منطقة السوق، وهي أبرز معالم العباسية، حيث كان يأتيها الناس من يافا وحيفا وعكا، خاصة في يوم السبت الذي يشهد حركة تجارية نشطة في تسويق الأغنام والأبقار والحمضيات والفواكه، التي تشتهر فيها القرية إلى جانب صناعة السلال.
رشيد زيدان والد الحاجة فاطمة، كان خياطا، وكذلك زوجته، وكان يملك متجرا للخياطة وآخر للسمانة، وعند عقد الهدنة مع العصابات الصهيونية، كان الجميع وقتها يدرك أن هناك حربا قادمة، فشحن بضاعته وكل ما يملك إلى مدينة اللد، لكنها سقطت هي الاخرى في اليوم التالي وفقد كل شيء.
عادت العصابات الصهيونية مرة أخرى وبقوة كبيرة إلى العباسية، حاصرت المسلحين في منطقة السوق، منهم من تمكن من الانسحاب، وآخرون وقعوا قيد الأسر، في وقت كان الأهالي ينزحون نحو حقول الزيتون.
"علمنا فيما بعد أن نحو 80 رجلا من القرية وقعوا في الأسر.. جردوا من سلاحهم، وأعدمتهم العصابات الصهيونية جمعيا في الساحة وسط السوق، لكن أحد الرجال ويدعى نافز تظاهر بالموت وتمكن لاحقاً من الانسحاب وأخبرنا بكل ما حدث"، تقول الحاجة زيدان.
انتقلت زيدان بعد ذلك إلى منطقة جفنا شمال رام الله، ووزعت عليهم الخيام من قبل وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا"، وكما بيتهم في العباسية البعيد عن السوق، اختاروا منطقة بعيدة عن وسط المخيم، ونصبوا خيمتهم فوق تلة، تحولت فيما بعد إلى بيت، وأحيط بعشرات البيوت المتلاصقة، وأصبح اسمه مخيم الجلزون.
"عشنا أياما صعبة في البداية وما زلنا نعاني، في أحد أيام الشتاء، هطل مطر غزير، هربنا إلى مدينة البيرة.. وفي احدى الليالي (طمر) الثلج معظم الخيام وهدمها، وفي كل مرة كنا نعيد بناء ما يهدم"، قالت الحاجة زيدان التي لم تكن عائلتها تملك أي شيء بعد خروجها من العباسية تاركة خلفها كل ما تملك من ذهب ونقود ومحلات وأراضٍ وبيارات.
وأضافت: "وصلنا إلى حالة يرثى لها، كان علينا النهوض من جديد مرة أخرى، زوجي امتهن النجارة، كان يتقاضى مبلغا زهيدا لكنه يكفي لإطعامنا، وشيئا فشيئا تحسن الحال".
تقلب الحاجة أم حاتم أوراق الميرمية الموضوعة أمامها، وتقول: "كانت قريتنا مليئة بها، ليس فقط الميرمية، بل كان هناك التفاح والبرتقال والخيار والبندورة.. كنا مستورين، واليوم لو خيرت بأن أعود للعباسية سأرضى حتى لو عشت بقية عمري على كومة حجارة".
العباسية قرية تقع على أرض مستوية في السهل الساحلي الأوسط، وتربطها عدة طرق بيافا واللد والرملة، أقيم على انقاضها عدة مستوطنات، منها: "مغشيميم، وغَنّي يهودا، وغَنّي تكفا، وسيفون" خلال الاعوام 1951 الى 1954، ومن ثم أقيم ما يسمى "مطار بن غوريون" على أخصب أراضيها.