حكاية من ذاكرة المكان- بسام الكعبي
عصر الجمعة الثالث من شباط الجاري، استعدتُ صمت طفولتي على باب غرفة متواضعة في المستشفى الوطني بمدينة نابلس؛ وقد رحت أدققُ طويلا في رجلين يستلقيان بهدوء على فراش اكتسى لون جروحهما البالغة: عمي أبو أسعد الذي أصيب بلغم أرضي للاحتلال في الأغوار خطف ساقه اليمنى، ومقاتل مكبل بالسرير تحت حراسة جنود الاحتلال تلتف ساقاه المحطمتان بقماش أبيض. علق المشهد أكثر من أربعين عاما في ذاكرتي، وقد تدحرج الآن أمام بصري نحو غرفة المشفى، واستعدتُ حركة جسدي الصغير تتنقل بخوف في الممر بين ثلة من جنود لا تفارق أصابعهم زناد بنادقهم، فيما تتسلل رائحة الأدوية إلى أنفي وتسابق طعم البارود المحترق في أجواء المدينة الباسلة التي سقطت في صيف مضى بقبضة المحتل.. لكنها قررت المواجهة بدلا من رفع الراية البيضاء؛ ومنذ تاريخ احتلالها حافظت المدينة على الوفاء بعهدها وظلت تقبض على جمر تحررها حتى اليوم.
على باب غرفة علاج والدتي، سألتُ مساء الثالث من شباط، شقيقي الأصغر احمد عن حقيقة المشهد القديم الذي قفز الآن إلى ذاكرتي، وبات يحتل ممرات المشفى ويقفز فوق سريري الرجلين المصابين وكأنهما لا يزالان فوق سرير الشفاء يكابدان الألم بصبر وكبرياء. كانت المفاجأة كما سمعتها منه لأول مرة في حياتي: "التقيته صدفة في سجن نابلس أواخر عام 1980، وعندما علم باسمي سألني فورا عن عمي الذي شاركه غرفة الإصابة. ويُعرف هذا الرجل باسمه النضالي أبو صالح جوارنة من مخيم النيرب في سوريا، وقد روى وقائع الأيام القاسية التي عاشها مصابا في المشفى الوطني عقب مشاركته باشتباك مسلح مع دورية عسكرية للاحتلال، وقبل أن يتجاوز العشرين من عمره. تنقل أبو صالح سنوات طويلة من معتقل إلى آخر، قبل ترحيله قسرا إلى الشام عام 1982 بعد قضاء 15 عاما في الزنازين، ثم تناهى إلى مسامع رفاقه الأسرى أنه استشهد مع المقاومة الوطنية في لبنان، وآمل أن يكون الخبر مجرد إشاعة".
تركتُ ذاكرتي القديمة مصلوبة على باب الغرفة المتواضعة، وعدتُ خطوتين برفقة شقيقي إلى سرير والدتي لإنهاء معاملة الشفاء بعد علاج طارئ من آلام المعدة. تأملتُ الدرجات التاريخية الهابطة بانحدار حاد نحو المخرج، وتساءلتُ بداخلي عن حجم الحكايات البشرية الهائلة التي عبرت هذه الممرات منذ مائة عام أثناء الحكم التركي ثم البريطاني والأردني والاحتلال وسيطرة السلطة على المدينة عقب اتفاق اوسلو. كيف يخطف الناس حكاياتهم من ذاكرة المكان، عندما يُسلم المبنى خلال الصيف المقبل إلى "مَلاك" التقاعد ويخرج من الخدمة العامة؛ فيدخل قسرا حكايات نادرة للمرضى والزوار والطواقم الطبية إلى الأرشيف الواسع للمدينة، التي تتسلق بكبرياء جبالها المرتفعة، وترصد قوة أظافرها تحفر صخر التلال، لتبقى تطل بصمت على تاريخها الشفوي العريق الذي يستحق خطفه من الذاكرة الجمعية ونثره على الورق.
2
احتفيت مساء الجمعة برفقة الأهل بزفاف متفرد لأسير محرر ومناضل صلب ومتميز. استقبل الأسير المبعد إلى غزة علام الكعبي بفرح على الهاتف التهاني بحفل زفافه، فيما تستقبل خطيبته التهاني وحدها في منصة الزفاف، قبل أن تغادر نابلس إلى غزة لتستقر في وطن يتشظى على حواجز الاحتلال دون أن ينكسر. تعبر الخطيبة في رحلة زفافها داخل الوطن حدود الأردن ومصر قبل أن تلتقي عريسها في القطاع المحاصر. انتظرته ثماني سنوات إلى أن تحرر علام من حكمه بالمؤبد تسع مرات. مبروك لابن العم العزيز وقد استعاد انتصاره وحريته وصبر خطيبته ووفائها، على أمل أن يتكلل مشواره بالفرح، ويعود قريبا منتصرا وسط رفاقه في الضفة، من اجل استكمال فرحه بالإفراج عن جميع رفاقه، وعودة المبعدين جميعا إلى الوطن، وقد تحرر في القريب جميع أسرى الحرية، ومنهم شقيقه هشام المحكوم بالمؤبد وابن أخته جواد وابن عمه ورفيق دربه عاصم المحكومون بسنوات طويلة.
أخيرا، تقاسم الثالث من شباط بصمت حزن روحي وفرحها بماضيها وحاضرها، وراح يزحف بهدوء نحو يوم آخر، بعد أن استعدتُ سنوات عمري التي خطفها مني الزمن خلسة على ضوء شمعة ووجبة متواضعة من عجينة السكر كل سنة.