الاستطلاعات كاذبة
بقلم: عمر حلمي الغول
تاريخيا ومنذ بدأت ظاهرة استطلاعات الرأي تأخذ مكانها في محاكاة العمليات السياسية والانتخابية والظواهر المختلفة، لم تنحُ جميعها منحى دقيقا، ولجأت الجهات المتنافرة والمتحزبة واصحاب الخلفيات المتباينة بإسقاط رغباتها وقراءاتها هي، وجانبت الموضوعية لتحقيق غايات محددة في لحظة يذاتها. أضف إلى ان استطلاعات الرأي عموما فيها 3 عوامل لا بد من اخذهما بعين الاعتبار، الأول ان كل استطلاع يحتمل نسبة معينة من الخطأ، تقدرها الجهات القائمة بها بنسبة لا تزيد بالعادة عن 5% إلا ما ندر؛ الثاني إجمالا في حالات الاستقطاب والتجاذب بين قوى متصارعة غالبا ما يحدث تموج وسيولة في المزاج العام؛ ثالثا درجة ثقافة ووعي الشعب هنا او هناك تلعب دورا هاما في دقة الاستطلاعات من عدمها. لأن درجة الوعي تعزز الاستقرار في وجهات نظر الفئات المستطلعة، وتكون عادة اكثر مصداقية؛ وهناك إمكانية رابعة تؤثر على اتجاه المزاج العام، وهي إمكانية حدوث تطورات غير منظورة سلبية او إيجابية، كلاهما يكون له انعكاس على الشارع المستهدف بالاستطلاع.
وإذا انتقلت من العام للخاص الأميركي، ودققت جيدا في استطلاعات الرأي الأميركية عشية الانتخابات الرئاسية في الثالث من نوفمبر الحالي (2020) نلحظ انها: اولا لم تكن موضوعية تجاه المرشحين؛ ثانيا شابها التضليل والإسقاطات الرغبوية للقائمين عليها؛ ثالثا جانبت الصواب والحقيقة؛ رابعا كانت ذات خلفية ترهيبية، حيث اراد بعض القائمين عليها، والداعمين لجو بايدن، المرشح الديمقراطي الحؤول دون توجه انصار الرئيس المنتهية ولايته لصناديق الاقتراع، لأن النتيجة محسومة لنائب الرئيس السابق؛ خامسا عملية الاستفزاز ولدت ردة فعل قوية في اوساط المرشح الجمهوري، وسابقوا الزمن للرد على تلك الاستطلاعات، ولتأكيد حقيقة مغايرة؛ سادسا عمقت حدة الاستقطاب والتنافر في الشارع الأميركي.
والان ونحن ننظر إلى ما يجري على ارض الواقع نجد ان نتيجة الانتخابات، وبغض النظر عن المرشح صاحب الحظ بالرئاسة الجديدة متقاربة، والفوارق نسبية وضيقة، وليس كما اوحت تلك الاستطلاعات، ما افقد مؤسسات الاستطلاع ذاتها المصداقية في الشارع الأميركي، وكشف ظهرها، ووضعها محل شك، ويمكن للبعض ان يخلص إلى انها تفتقد لأبسط معايير إجراء استطلاعات الرأي.
صحيح ان الرئيس المنتهية ولايته منفر وعدواني ونرجسي، ولا هم له غير مصالحه وحساباته الشخصية قبل اي حساب ديني او ايديولوجي، كما انه هدد مصالح الولايات المتحدة الداخلية والخارجية، بيد انه لم يفز برغبة خاصة منه، وانما حملته اصوات المقترعين، التي تناقضت مع مصالحها كجزء من الأمة الأميركية. وما زالت هذه الجماهير، التي صوتت له في الولايات المختلفة تدفع الثمن، وستدفع الثمن لاحقا وقريبا نتاج السياسات، التي انتهجها وطبقها الرئيس دونالد ترامب. لأن سياساته لن ترتد عليه شخصيا، انما سترتد على الأمة الأميركية ربح او خسر، وكلما بقي في الحكم اكثر، كلما كانت خسائر الأمة الأميركية اكثر فداحة ودراماتيكية.
لكن كما ذكرت، الغوغائية عادة تكون عدوة نفسها، وتحكمها مصالح آنية وضيقة في التصويت لصالح هذا المرشح او ذاك، ولا تحاكم مرشحيها بموضوعية ومسؤولية، انما تأخذها انفعالاتها العاطفية بعيدا عن المنطق العلمي، وتدفعها للسقوط في متاهات صحراوية قاحلة. وهنا يتساوي الوعي بين من يمتلك الوعي العالي، ومن يعاني من النقص المعرفي والثقافي والسياسي، فتحصد الأمة نتائج ضد مصالحها ككل، وليس ضد فريق بعينه.
إذا الصورة التي نعيشها الآن في خضم العملية الانتخابية الأميركية تشير إلى حقيقة دامغة وساطعة، عنوانها فشل استطلاعات الرأي الأميركية فشلا ذريعا في سبر غور المزاج العام الأميركي. وتؤكد على حقيقة ثانية، أن ترامب حتى لو هزم، إلا انه تمكن من حصد نصف اصوات المقترعين الأميركيين تقريبا، وهو ما يشير إلى انه يمثل قوة حقيقية في المشهد الأميركي، ولم يكن ظاهرة عابرة. كما ان من صوت للمرشح الديمقراطي، لم يكن تصويتا له، بقدر ما هو تصويت ضد رجل العقارات الفاسد.
مع ذلك لا يجوز إطلاق حكم قاطع على عدم موضوعية استطلاعات الرأي، لأن هناك استطلاعات موضوعية فعلا، ولكني اعتقد انها قليلة ومحدودة، وليست السمة العامة لعمليات استطلاع الرأي.
oalghoul@gmail.com