المشروع الصهيوني بين شرق وغرب أوروبا
بقلم: باسم برهوم
عندما تقرأ سيرة مؤسسي إسرائيل تكتشف أن غالبيتهم العظمى من بولندا، روسيا،، أوكرانيا وروسيا البيضاء، وتلاحظ أن الخميرة الصهيونية كانت في أوج نشاطها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر في هذه المناطق، وكانت النتيجة أن موجات الهجرة اليهودية الأولى إلى فلسطين كانت جلها من يهود شرق أوروبا. وعلى سبيل المثال بن غوريون، رابين وشمعون بيريس من أصول بولندية، وغولدا مائير وليفي أشكول من أوكرانيا، ومناحيم بيغن وشارون من أصول روسية، حتى أن حاييم وايزمان، الذي لمع اسمه في بريطانيا وكان له دور مهم في صدور وصياغة وعد بلفور، هو بالأصل جاء إلى بريطانيا من روسيا البيضاء، وثيودور هيرتزل، مؤسس الحركة الصهيونية، والذي بالمناسبة لم يكن يتحدث العبرية، هو من أصل مجري هنغاري. السؤال، كيف أصبح المشروع الصهيوني مشروعا بريطانيا، بالرغم أن معظم أدواته من شرق أوروبا؟ هناك عدة أسباب جعلت من بريطانيا الراعية الحصرية للمشروع الصهيوني من أهمها: أولا: أن بريطانيا كانت الإمبراطورية العظمى والقوه الاستثمارية الأهم، وكان لها بالتأكيد استراتيجية استعمارية أكثر خبثا وذكاء، ولأنها بهذه المكانة كانت الأقدر على تلقف تطلعات يهود أوروبا وإبرام شراكة استعمارية مع الحركة الصهيونية. والدليل أن هيرتزل طرق أبواب إمبرطوريات ذلك الزمن، وفي النهاية وجد بريطانيا هي الجاهزة لتلقف الفكرة وأخذ تنفيذها على عاتقها، وبالمناسبة القنصل البريطاني في فيينا هو الذي بادر للتواصل مع هيرتزل. ثاتيا: بريطانيا كانت بحاجة للمال اليهودي واستخدامه في تمددها الاستعماري، من هنا كانت أحد جوانب الشراكة، والحاجة لهذا المال تضاعفت خلال الحرب العالمية الأولى، من هنا لم يكن صدور وعد بلفور صدفة في هذا التوقيت بالذات. ثالثا: التقاء مصالح الطرفين حاجة الحركة الصهيونية إلى دولة، وحاجة بريطانيا لحليف وقاعدة موثوقة لها في قلب المنطقة العربية وعلى الطريق للشرق والهند تحديدا. رابعا: بريطانيا هي من استغل "المشكلة اليهودية" في أوروبا الناجمة عن اضطهاد اليهود خصوصا في شرق أوروبا، فهي أي بريطانيا من رجح كفة فكرة الدولة اليهودية كحل لهذه المشكلة بدل دمجهم في المجتمعات الأوروبية مثلهم مثل المواطنين الأوروبيين، هذا الترجيح له أسباب دينية وأخرى استعمارية سبق وأشرت لها. ومن الوثائق التي كشف عنها في السنوات الاخيرة، أن بن غوريون طالب بريطانيا بتأخير انتدابها لفلسطين وعدم إعلان "استقلال" إسرائيل لمدة عشر سنوات، لكي يبذل جهودا إضافية لجلب ضحايا النازية من يهود أوروبا، الشرقية والوسطى كي لا يلجأ لاستقدام اليهود العرب، وعندما اختار معظم يهود أوروبا الهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية، وإلى بريطانيا، اضطر بن غوريون لجلب اليهود العرب والشرقيين، الذي كان يعتبرهم بدائيين متخلفين. لقد أراد بن غوريون أن تكون "الدولة اليهودية" على النمط الأوروبي ولكن إسرائيل في ذكرى استقلالها الـ 73 تحول اليهود الأوروبيين إلى أقلية ونخب هذه الأقلية لم تعد تتحكم بسير الأمور في إسرائيل، والدليل الأزمة السياسية الراهنة، فبعد أربعة انتخابات في سنتين لم تستطع هذه النخب تشكيل حكومة. أزمة إسرائيل هي في طبيعة المشروع الصهيوني وكيفية صياغته وتركيبه، وفي كيفية تنفيذه، ولعل المتابع يكتشف أن هذه الدولة التي تم تصديرها من أوروبا إلى الشرق الأوسط لم تصمد أمام الواقع فهي إما تتأقلم مع الجغرافيا أو تندثر مع الوقت. وهذا الاستنتاح بات يتحدث فيه الكثيرون في إسرائيل، ذاتها.