كيف نشفى من حب تونس
فتحي البس
تونس الخضراء تبقى، عنوان كتيِّب وضعه الرئيس محمود عباس ونشر عام 2020، وفاء لتونس وعرفانا بالجميل، فصّل فيه العلاقة التاريخية بدءا من تقديس التوانسة كغيرهم من المغاربة لحجتهم بزيارة القدس واستقرار الكثيرين منهم في فلسطين، وإنشاء أحياء لهم في محيط القدس أشهرها حي المغاربة الذي هدمته قوات الاحتلال عام 1967 لتسهيل وصول المتطرفين الصهاينة إلى حائط البراق وبتسميتهم حائط "المبكى".
يُسلسل الرئيس أبو مازن تطور العلاقة بين منظمة التحرير الفلسطينية ودولة تونس، بدءا بوصول رئيس وزرائها الباهي الأدهم، ووزير خارجيتها محمد المصمودي للمساهمة في إخماد نار أيلول الأسود، وما تبع ذلك من تعميق أواصر المحبة والصداقة، بالتوأمة بين مدينة بيرزيت ومدينة تونس، التي قدمت لبيرزيت ما تحتاجه من دعم في سنوات عجاف، وصولا إلى اتخاذ القرار باستضافة تونس لمنظمة التحرير وقياداتها وكوادرها المدنية والعسكرية إثر الخروج من بيروت عام 1982، واختلاط الدم نتيجة العدوان الصهيوني البشع حين أغار سلاح الجو الإسرائيلي في 1 تشرين الأول/اكتوبر 1985 على مقر القيادة العامة لمنظمة التحرير الفلسطينية في حمّام الشط بتونس، فسقط عشرات الشهداء والجرحى التونسيين والفلسطينيين، وتبع ذلك عملية الاغتيال الغادرة للشهيد خليل الوزير "أبو جهاد" القائد الفتحاوي المؤسس، والمسؤول الأول عن العمليات الفدائية في الأراضي الفلسطينية المحتلة بتاريخ 16/4/1988.
يركِّز أبو مازن ليس فقط على كرم الضيافة والاحتضان، وإنما على احترام استقلالية منظمة التحرير في إدارتها بحرية تامة لشؤونها دون أي تدخل من الدولة التونسية أو حتى أدنى استفسار عما كان يدور على أرض تونس من استقبال القيادات العالمية، وحتى المفاوضات السرية التي انتهت بتوقيع اتفاقية أوسلو، ويقارن بما كانت تتعرض له المنظمة من تضييق في العواصم الأخرى. يقول أبو مازن: " تمتّعنا في تونس بحرية الحركة وحرية الرأي وحرية الموقف، حيث لا قيود ولا حدود ولا سؤال ولا استفسار ولا تدخل من قريب أو بعيد. ندخل البلد متى شئنا، ونغادرها متى شئنا، ونُحضر أيّ ضيف نريد أن نراه أو نجتمع به أياً كان ومن أيِّ بلد كان، حتى أننا كنا نحضر أناساً من كل الأديان والاتجاهات، ولم نسمع تحفظاً أو اعتراضاً أو ملاحظةً مرةً واحدة في حياتنا هناك".
ويضيف "ووفِّرَت تونس كذلك لنا حماية شخصية وعامة كاملة، بحيث أن بيت كل مسؤول تحرسه الشرطة التونسية، ومع كل مسؤول سيارة أمن تونسية، لنا مندوب في المطار يشرف بنفسه على دخولنا وخروجنا، نحن وكل ضيوفنا، وليس بحاجة لاستئذان مسبق أو إعلام لاحق عن عمله مهما كان هذا العمل".
ما كتبته أعلاه لتوضيح لماذا أكتب اليوم عن تونس، فالفلسطينيون رغم ما يعانونه من قهر وظلم الاحتلال، يتابعون ما يجري في تونس هذه الأيام، حيث تبطش الكورونا وتكاد المنظومة الصحية تنهار ويصعب تأمين الأوكسجين واللقاح والأدوية، ويعاني التوانسة من أزمة سياسية طالت بسبب الانقسام الحاد وعدم الانسجام بين رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة والبرلمان، ويشتد الصراع السياسي والاجتماعي وتثور الأسئلة عمن المسؤول، خاصة أن القوة الأبرز والمؤثرة هي حزب النهضة الإسلامي، تواجهها قوىً أخرى مختلفة لا توافق على تحكمها بمفاصل الدولة.
يكاد النظام الصحي ينهار، وتزداد حدة الفقر والبطالة، ولا يلوح في الأفق حلول تعيد للنظام التونسي حيويته، ويراقب الفلسطينيون ما يجري بوجع المحب والشعور بالعجز عن تقديم يد العون، فهم ليس لهم التدخل في أزمة النظام التونسي، ولا يملكون قدرات مادية لتقديمها للشعب التونسي، وينتابهم الحزن الشديد وهم يلاحظون تباطؤ تقديم العون العاجل لإنقاذ تونس.
الفلسطينيون يريدون ويتمنون أن "تونس الخضراء تبقى"، فهم مدينون للتوانسة بقانون المحبة فمنها انطلقوا إلى ارض الوطن، وتركوا فيها أغلى ما يملكون، ولا شفاء لهم من حب تونس كما قال محمود درويش عند الخروج منها في قصيدته التاريخية التي ختم بها أبو مازن كتابه:
كيف نشفى من حبِّ تونُس
الذي يجري فينا مجرى النَفَس
لقد رأينا في تونُس من الأَلَفةِ
والحنان والسند السَمْح
ما لم نر في أيِّ مكان آخر
ولذلك نخرجُ منها
كما لمْ نخرُج من أيّ مكانٍ آخر
إلى أن يختم:
فهل نقول لكِ شكرا ؟!
لم أسمع عاشقين يقولان شكراً
ولكنْ شكراً لكِ لأنّكِ أنتِ من أنتِ
حافظي على نفسكِ يا تونُس
سنلتقي غدا على أرضِ أختِك فلسطين
هل نسينا شيئا وراءنا؟!
نعم .. نسينا تلفّتَ القلب وترَكْنا فيك خيرَ ما فينا
تركنا فيك شهداءَنا الذين نوصيكم بهم خيراً