البُعد الثقافي في كفاح الأسرى الفلسطينيين! - عاطف سعد
حَرِصَ الأسرى الفلسطينيون على تبويب مطلب تزويدهم بالكتب في مكانة متقدمة من بين مطالبهم التي أعلنوا أنهم يخوضون إضراب الأمعاء الخاوية من أجل تحقيقها. وسبق " توفير الكتب" مطالب تقع في صُلب حقوقهم كبشر مثل " تفكيك سياسة العزل " ووضع حد للإعتقال الإداري الظالم و تمكين الأقارب من قطاع غزة بزيارة أبنائهم الأسرى الذين لم يروهم منذ العام 2007.
إن أفظع ما يعانيه الإنسان في السجن هو الشعور بالوحدة في زنزانته. والإنعزال القسري يعذب الأسير! وأعظم سعادة يحس بها السجين المعزول تتحقق بكسر عزلته وإستئناف تواصله الإنساني.
"هل من نبأ سعيد يمكن أن يتلقاه السجين عدا إخلاء سبيله؟"، تساءل الكاتب والمناضل التركي اورهان كمال ، في كتابه ، "في السجن مع ناظم حكمت". يُجيب على السؤال، " نعم يوجد مثل هذا النبأ. كان أسعد خبر تلقيته في زنزانتي عندما بلغني أن ناظم حكمت، شاعر تركيا، سوف ينقل إلى السجن الذي أنا فيه، سجن بورصة."
لكن أحمد سعدات ، الذي يقضي حكما بالسجن الفعلي لمدة 30 عاما، لم يسعَد، بعد، بلقاء من يُحب في قسم العزل المشدد في سجن الرمله ، فلأنه رفض مساومة السجان على مطالب رفاقه وزملائه المضربين، ضاعفت إدارة القسم من العزلة، بأن وضعت شريطا بلاستيكيا على شباك باب زنزانته، فأصبح فوق الشبك غطاء آخر، كما أخبر محاميه .
إن عذابات الأسرى الفلسطينيين المحرومين من زيارة أقاربهم لمدة تزيد عن خمس سنوات، هي أكبر من معاناة تمضية الأحكام الصادرة بحقهم في سجون الإحتلال. وهي مشاعر تتلاقى مع من تعذّب على دروب الحرية مثل نائل البرغوثي ونيلسون مانديلا وناظم حكمت ورفاقهم الفلسطينيين والجنو-أفريقيين والأتراك وباقي الأمم المتطلعة للحرية.
توفر الكتاب للسجين يعني أيضا كسرا لطوق العزلة الفكري الذي يضربه السجان حول ضحيته ليحرمه حتى من تخيل الحرية، النقيض المباشر لقيود السجن. فقراءة الكتب في السجن لها نكهة خاصة جدا. إنها تساعد السجين على الإفلات، ولو لبعض الوقت من سطوة السجان؛ و إنها، أيضا، و مع مرور الوقت، تزود السجين بصور وأفكار وثقافة رحبة يتولد منها إحساس وشغف بأهمية الكفاح من أجل الحرية فيجعل من جدران السجن الصلدة، الباردة جدرانا وهمية فيقوى في مواجهة السجان. وهي أفكار " تكفي السجين عندما يتحاور مع نفسه في زنزانة العزل"، كما كتب الروائي المغربي محمد شكري في " الخبز الحافي"!
إسرائيل أرادت إضعاف روح الصمود والمواجهة لدى الأسرى، فحظرت إدخال الكتب إلى السجون أو مراكز الإعتقال، وسمحت بإدخال ثلاثة كتب فقط سنويا بشرط أن لا تكون أكاديمية أو سياسية.هذا الحظر تم إبان تولي نيتنياهو السلطة في إسرائيل. إن كسر "حظر الكتب" سيُعيد الطاقة الإبداعية للأسرى الفلسطينيين لِيعيدوا صياغة وضعهم الإعتقالي من جديد على قاعدة أن إسرائيل هي من يتحمل مسؤولية حبسهم وأكلهم وصحتهم وإقامتهم وليس المجتمع الفلسطيني أو السلطة الفلسطينية!
قبل نيتنياهو بسنوات عديدة، كثيرة، تشبث الأسرى الفلسطينيين بالكتاب، هذا الموقف جعل العديد من مندوبي هيئة الصليب الأحمر يندهشون من تسبيق مطلب الكتاب على مطلب الغذاء والدواء في أجندات الإضرابات الإحتجاجية التي خاضوها في سجون إسرائيل وسقط في العديد منها شهداء أطهار. لا أقول هذا من نزوع نرجسي، بل من تجربة شخصية عشتها ردحا من الزمن في السجون . ومن دليل مادي وملموس عثرت عليه السلطة الفلسطينية في سجن جنيد وسجن نابلس القديم يتكون من 8000 كتاب ومجلد عندما تسلمت مسؤولياتها بعد العام 1994. وهذه الكتب محفوظة على نحو لائق في جناح خاص بإمكان رواد وزوار مكتبة بلدية نابلس مشاهدتها. ويمكن لزائر جناح أسرى الحرية في مكتبة بلدية نابلس، أن يشاهد بعينيه ويتحسس بيديه 800 كراس " تنظيمي"، كتبت بخط اليد و تخص حركة فتح والجبهة الشعبية. وقد يُثير المتفحصين لهذه الكراسات من أبنائنا وبناتتنا (آمل أن يحدث ذلك)، عناوين مواضيعها فيقرأوا عن "حرب الغوار"، ونظرية الجنرال الفيتنامي جياب في حرب التحرير" ، "الصمود أمام المحقق الإسرائيلي" " والبناء التنظيمي الخ . ونظرية برجيس دوبريه في الحرب الثورية، وتجارب ثورات كوبا والجزائر وفيتنام الخ. مثل هذه الكتابات التي تم تأليفها وصياغتها قبل أكثر من 20 عاما قامت بها نخبا من المثقفين الوطنيين والثوريين ممن كانوا ضمن أسرى الشعب الفلسطيني آنذاك.
أُلقي نظرة على رف من خشب مصفوفه عليه كتب فأقرأ عناوين وأسماء لكتاب وأدباء ومفكرين ثوريين وتنويريين ومذكرات قادة عظام في الغرب مثل الجنرال ديغول وونستون تشرشل. وما يثير البهجة والإنبهار ، الحرص الذي أبداه الأسرى بإدخال قواميس للتعرف على الثقافات الإنسانية الأخرى ولغات الشعوب. فتجد قواميس من الصينية للفرنسية. وقواميس من الإيطالية للإنجليزية. وقواميس من العبرية للعربية. وكتب تدريس اللغة العبرية. وتعليم اللغة الصينية ( بالفرنسية ) الصادر عن جامعة ليون الفرنسية إصدار عام 1967. وكتب وقواميس عن تعلم اللغات الفرنسية والإنجليزية والألماني. وهذا يبرهن على مستوى الإهتمام الرفيع الذي أظهره الأسرى الفلسطينييون، ومنذ وقت مبكر، حيال الثقافات الإنسانية العالمية. وما يؤكد أنهم إستعملوا الكتب وإنتفعوا بها ما كتبوه بخطوط أياديهم على صفحاتها أو أغلفتها من ملاحظات!
أما متى دَخَلَت الكتب وكيف ومن أدخَلها فهذه قصة أخرى سآتي على سردها لاحقا.
لكن دعونا نبتهج ونفرح للأسرى الأبطال بنصرهم المطلبي والثقافي الذي أكد من جديد المعادلة التي بدت للبعض مستحيلة، إنتصار قوة الإرادة على إرادة القوة ، فالكتب التي سلبها منهم نيتنياهو المقيت سَيُعاد إدخالها رغم أنفه! .