محمود الغرباوي .. غابت شمسك عن حياتنا ليبزغ نجمك في قلوبنا ..!- عبد الناصر عوني فروانة
الشهيد الغرباوي
من الصعوبة بمكان أن تكتب عن حياة الشهداء ، الأكرم منا جميعاً ، عن مناضلين وثائرين أفنوا حياتهم في ساحة النضال الأرحب وخلف قضبان السجون ، وربما من الإستحالة أن تجد في قاموس اللغات من الكلمات ما يليق بمكانتهم وبطولاتهم وعظمة تضحياتهم وقدسية دمائهم الطاهرة... .
ولا شك أني أتردد كثيراً قبل البدء بالكتابة عن الشهداء .. لكني أجد نفس مضطراً للكتابة عنهم أو عن بعضهم أحياناً كجزء من الوفاء لهم ... رغم الصعوبة الكبيرة التي أواجهها أثناء الكتابة لاختيار ما يفيهم حقهم من حروف صادقة ..
وربما الأصعب حينما أقرر الكتابة عن شهداء اعرفهم عن قرب ، وعايشتهم بين جدران السجون لسنوات طويلة ، وشكّلوا لي ولأجيال كثيرة مدارس ونماذج تُحتذى في الوعي والسلوك .
محمود محمد الغرباوي .. هو واحد من أولئك الشهداء الذين رحلوا عنا قبل ايام ، ومنذ رحيله وأنا أفكر بالكتابة وترددت كثيرا قبل أن أكتب .. كيف ( لا ) وهو أحد الثائرين التي أنجبتهم فلسطين ليدافع عنها وعن شعبها ، وهو من المؤسسين الأوائل والقادة التاريخيين للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في قطاع غزة ، وهو أحد رجالات الزمن الجميل وفدائيي التضحية النموذجية .. وعضو مكتبها السياسي سابقا .
ومَن لَم يَعرف محمود الغرباوي ، فانه بالتأكيد ( لا ) يعرف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ، ولم يقرأ تاريخها ونشأتها ، ولم يتصفح أدبياتها ونشراتها ، ولم يسمع عن أمجادها ورموزها في سنوات النار وما بعد سنوات النار ، وفي السجون وخارجها .
محمود .. ثائر فلسطيني ، وقائد جبهاوي وجماهيري ، ونموذج للأسرى بمختلف انتماءاتهم في وعيه وسلوكه وقلمه الرائع ، فهو علم من أعلام الحركة الوطنية الأسيرة وأحد رموزها وقياداتها طوال أكثر من عقدين من الزمن أمضاهما في سجون الاحتلال على أربع فترات ، وكان من بُناتها الأساسيين واحد أعمدتها الراسخة ، ومن أبرز من كتب الشعر والقصائد داخل السجون وخارجها ، ويُعتبر من رواد أدب السجون .
محمود الغرباوي ( 51 عاماً ) ينتمي لعائلة مناضلة ذاق أفرادها مرارة الأسر وقدمت الشهداء ، وتسكن مخيم البريج وسط قطاع غزة ، متزوج وأب لإبنتين ، وحصل على شهادة البكالوريوس – ادارة أعمل – بعد تحرره منتصف التسعينيات ..
محمود .. كان ثائراً وقائداً في مواجهة الاحتلال في ساحات النضال الأرحب ، أو بين جدران السجون ومواجهة إدارتها القمعية ... ومن المدافعين الأشداء عن قضية اللاجئين والمتمسكين بحق العودة ، وعمل مسئولاً للجنة السياسية في اللجنة الشعبية للاجئين بمخيم البريج في السنوات الأخيرة.
22 عاماً في سجون الإحتلال ..
تعرض الشهيد للاعتقال أربع مرات كان أولها عام 1970 ، وأمضى ما مجموعه اثنان وعشرين عاماً متنقلاً للعيش ما بين غرف السجون الإسرائيلية تارة ، وما بين زنازين العزل الإنفرادي وغرف التحقيق تارة أخرى ، وتعرض خلال سنوات اعتقاله لصنوف مختلفة من التعذيب الجسدي والنفسي.
لقد تعرفت إلى هذا المناضل القدير بعد تحرره من الاعتقال الثاني عام 1982 ، حينما فتح " مكتبة الجماهير " بالقرب من مدرسة الزهراء الثانوية حيث مسكني هناك في حي بني عامر العريق ، وكانت المكتبة تضم أفضل الكتب والكتيبات الثورية وكاسيتات الأغاني الثورية وكانت من المكتبات النادرة وقتذاك .
لقاؤنا الأول ..
ويضيف فروانة في مقالته : كنت طفلاً حينها ولم أكن قد تجاوزت الخامسة عشر من عمري ، فإذا بأحد الجيران يبلغني بأن صاحب المكتبة يريد لقائك .. ذهبت دون تردد وتعرفت عليه ولا أخفي إعجابي به وبهدوئه منذ اللحظات الأولى ، فإذا به يحدثني عن والدي الذي كان يقبع في السجون الإسرائيلية ولقائه به والعيش معه في سجن بئر السبع ، وهذا ربما ما عزز العلاقة به ودفعني للتردد كثيرا على المكتبة لأستمع لمزيد من القصص والحكايات عن والدي الذي اعتقل وأنا طفل صغير لم أكن قد بلغت الثالثة من عمري .
ومرت الأيام والشهور فاعتقل الشهيد في يناير عام 1984 للمرة الثالثة وقامت قوات الاحتلال بإغلاق المكتبة ومصادرة محتوياتها ، ليمكث في الأسر قرابة عام ومن ثم أطلق سراحه ، وفي ابريل / نيسان من نفس العام 1985 اعتقل للمرة الرابعة ولمدة عشر سنوات اثر قيام شقيقه " فتحي " – وهو أسير سابق بالمناسبة - بتنفيذ عملية فدائية ضد جنود الاحتلال في حي النصر شمال مدينة غزة أوقعت عدة قتلى في صفوفهم فيما استشهد خلالها شقيقه " فتحي " وكان ذلك في ذكرى يوم الأسير الفلسطيني السابع عشر من ابريل عام 1985 ، وقام الاحتلال بهدم بيتهم المكون من طابقين.
ومرت الأيام والسنون وكان لي شرف الالتقاء به خلال فترة اعتقالي الرابعة في سجن غزة المركزي ، وعايشته فترة طويلة فتعلمت منه الكثير وتأثرت به أكثر ، وشكّل لي نموذجا في كل شيء ..
محمود .. الهادئ والشاعر ..
" محمود " .. كان هادئا إلى أبعد الحدود ، وتكاد تسمع كلماته بصعوبة ، لكنك إن سمعتها لم ولن تنساها أبداً ، لهذا كنا نتسارع للتفاعل معه ، وأحياناً نتسابق للحصول على مزيد من الكلمات التي لا ينطق بها إلا أمثاله وهم قلائل ... وحينما نفشل في ذلك نبحث عما كتبه من مقالات وتقارير ، من أشعار وقصائد وهي في غاية الروعة .
وهو بالمناسبة عضو في اتحاد الكتاب والأدباء الفلسطينيين منذ أوائل 1981 ، وعضو في اتحاد الصحافيين الفلسطينيين ، حاز على المرتبة الثالثة بمهرجان الأدب الأول في الأرض المحتلة.
وصدر له ديوان شعري عام 1989 باسم " الفجر والقضبان" ، و ديوان شعري ثاني بعنوان " رفيق السالمي يسقي غابة البرتقال ".
كما وأنه شارك مع شعراء وأدباء أسرى بتحرير مجلة " إبداع نفحة عام 1988 وكان من ضمن المشرفين عليها ، وكذلك " صدى نفحة " التي تأسس عام 1989 ، وممن أثروا أدب السجون .
محمود الثائر والأسير والشاعر .. محمود الصديق الوفي والرجل الطيب ، والمناضل الغيور على وطنه وثورته وجبهته الشعبية وقضايا أمته القومية .. رحل عنا مساء يوم الخميس الماضي في الثلاثين من مايو / آيار الماضي بعد صراع مع المرض .
وفي الختام أدرك باني لم أوفق في منحه ما يستحق من الكلمات ، ولم ولن أتمكن من انصافه ، فهو موسوعة تحتاج لمجلدات ولكتاب مهرة وشعراء عظام ... لهذا احترمناه وأحببناه .
وليس بالضرورة أن تكون جبهاوياً قد تحترم هذا الثائر ، وليس مهماً أن تكون قد عايشته أم لا في السجون أو خارجها كي تتعرف على خصاله ، فهو صدقا من الثوار القلائل الذين فرضوا احترامهم علينا وبغض النظر عن انتمائه الحزبي فهو انتمى لفلسطيني قبل أن ينتمي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين .
محمود .. كنت نموذجاً في حياتك وشهيدا خالداً في مماتك ... وستبقى قنديلاً لن ينطفئ نوره حتى بعد رحيلك .. ليس فقط لرفاقك في الجبهة ، ولمن عرفك في السجون ، وانما لكل أبناء شعبك وعشاق المقاومة والحرية.
محمود الغرباوي .. غابت شمسك عن حياتنا ليبزغ نجمك في أعماق قلوبنا ..!
ولا شك أني أتردد كثيراً قبل البدء بالكتابة عن الشهداء .. لكني أجد نفس مضطراً للكتابة عنهم أو عن بعضهم أحياناً كجزء من الوفاء لهم ... رغم الصعوبة الكبيرة التي أواجهها أثناء الكتابة لاختيار ما يفيهم حقهم من حروف صادقة ..
وربما الأصعب حينما أقرر الكتابة عن شهداء اعرفهم عن قرب ، وعايشتهم بين جدران السجون لسنوات طويلة ، وشكّلوا لي ولأجيال كثيرة مدارس ونماذج تُحتذى في الوعي والسلوك .
محمود محمد الغرباوي .. هو واحد من أولئك الشهداء الذين رحلوا عنا قبل ايام ، ومنذ رحيله وأنا أفكر بالكتابة وترددت كثيرا قبل أن أكتب .. كيف ( لا ) وهو أحد الثائرين التي أنجبتهم فلسطين ليدافع عنها وعن شعبها ، وهو من المؤسسين الأوائل والقادة التاريخيين للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في قطاع غزة ، وهو أحد رجالات الزمن الجميل وفدائيي التضحية النموذجية .. وعضو مكتبها السياسي سابقا .
ومَن لَم يَعرف محمود الغرباوي ، فانه بالتأكيد ( لا ) يعرف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ، ولم يقرأ تاريخها ونشأتها ، ولم يتصفح أدبياتها ونشراتها ، ولم يسمع عن أمجادها ورموزها في سنوات النار وما بعد سنوات النار ، وفي السجون وخارجها .
محمود .. ثائر فلسطيني ، وقائد جبهاوي وجماهيري ، ونموذج للأسرى بمختلف انتماءاتهم في وعيه وسلوكه وقلمه الرائع ، فهو علم من أعلام الحركة الوطنية الأسيرة وأحد رموزها وقياداتها طوال أكثر من عقدين من الزمن أمضاهما في سجون الاحتلال على أربع فترات ، وكان من بُناتها الأساسيين واحد أعمدتها الراسخة ، ومن أبرز من كتب الشعر والقصائد داخل السجون وخارجها ، ويُعتبر من رواد أدب السجون .
محمود الغرباوي ( 51 عاماً ) ينتمي لعائلة مناضلة ذاق أفرادها مرارة الأسر وقدمت الشهداء ، وتسكن مخيم البريج وسط قطاع غزة ، متزوج وأب لإبنتين ، وحصل على شهادة البكالوريوس – ادارة أعمل – بعد تحرره منتصف التسعينيات ..
محمود .. كان ثائراً وقائداً في مواجهة الاحتلال في ساحات النضال الأرحب ، أو بين جدران السجون ومواجهة إدارتها القمعية ... ومن المدافعين الأشداء عن قضية اللاجئين والمتمسكين بحق العودة ، وعمل مسئولاً للجنة السياسية في اللجنة الشعبية للاجئين بمخيم البريج في السنوات الأخيرة.
22 عاماً في سجون الإحتلال ..
تعرض الشهيد للاعتقال أربع مرات كان أولها عام 1970 ، وأمضى ما مجموعه اثنان وعشرين عاماً متنقلاً للعيش ما بين غرف السجون الإسرائيلية تارة ، وما بين زنازين العزل الإنفرادي وغرف التحقيق تارة أخرى ، وتعرض خلال سنوات اعتقاله لصنوف مختلفة من التعذيب الجسدي والنفسي.
لقد تعرفت إلى هذا المناضل القدير بعد تحرره من الاعتقال الثاني عام 1982 ، حينما فتح " مكتبة الجماهير " بالقرب من مدرسة الزهراء الثانوية حيث مسكني هناك في حي بني عامر العريق ، وكانت المكتبة تضم أفضل الكتب والكتيبات الثورية وكاسيتات الأغاني الثورية وكانت من المكتبات النادرة وقتذاك .
لقاؤنا الأول ..
ويضيف فروانة في مقالته : كنت طفلاً حينها ولم أكن قد تجاوزت الخامسة عشر من عمري ، فإذا بأحد الجيران يبلغني بأن صاحب المكتبة يريد لقائك .. ذهبت دون تردد وتعرفت عليه ولا أخفي إعجابي به وبهدوئه منذ اللحظات الأولى ، فإذا به يحدثني عن والدي الذي كان يقبع في السجون الإسرائيلية ولقائه به والعيش معه في سجن بئر السبع ، وهذا ربما ما عزز العلاقة به ودفعني للتردد كثيرا على المكتبة لأستمع لمزيد من القصص والحكايات عن والدي الذي اعتقل وأنا طفل صغير لم أكن قد بلغت الثالثة من عمري .
ومرت الأيام والشهور فاعتقل الشهيد في يناير عام 1984 للمرة الثالثة وقامت قوات الاحتلال بإغلاق المكتبة ومصادرة محتوياتها ، ليمكث في الأسر قرابة عام ومن ثم أطلق سراحه ، وفي ابريل / نيسان من نفس العام 1985 اعتقل للمرة الرابعة ولمدة عشر سنوات اثر قيام شقيقه " فتحي " – وهو أسير سابق بالمناسبة - بتنفيذ عملية فدائية ضد جنود الاحتلال في حي النصر شمال مدينة غزة أوقعت عدة قتلى في صفوفهم فيما استشهد خلالها شقيقه " فتحي " وكان ذلك في ذكرى يوم الأسير الفلسطيني السابع عشر من ابريل عام 1985 ، وقام الاحتلال بهدم بيتهم المكون من طابقين.
ومرت الأيام والسنون وكان لي شرف الالتقاء به خلال فترة اعتقالي الرابعة في سجن غزة المركزي ، وعايشته فترة طويلة فتعلمت منه الكثير وتأثرت به أكثر ، وشكّل لي نموذجا في كل شيء ..
محمود .. الهادئ والشاعر ..
" محمود " .. كان هادئا إلى أبعد الحدود ، وتكاد تسمع كلماته بصعوبة ، لكنك إن سمعتها لم ولن تنساها أبداً ، لهذا كنا نتسارع للتفاعل معه ، وأحياناً نتسابق للحصول على مزيد من الكلمات التي لا ينطق بها إلا أمثاله وهم قلائل ... وحينما نفشل في ذلك نبحث عما كتبه من مقالات وتقارير ، من أشعار وقصائد وهي في غاية الروعة .
وهو بالمناسبة عضو في اتحاد الكتاب والأدباء الفلسطينيين منذ أوائل 1981 ، وعضو في اتحاد الصحافيين الفلسطينيين ، حاز على المرتبة الثالثة بمهرجان الأدب الأول في الأرض المحتلة.
وصدر له ديوان شعري عام 1989 باسم " الفجر والقضبان" ، و ديوان شعري ثاني بعنوان " رفيق السالمي يسقي غابة البرتقال ".
كما وأنه شارك مع شعراء وأدباء أسرى بتحرير مجلة " إبداع نفحة عام 1988 وكان من ضمن المشرفين عليها ، وكذلك " صدى نفحة " التي تأسس عام 1989 ، وممن أثروا أدب السجون .
محمود الثائر والأسير والشاعر .. محمود الصديق الوفي والرجل الطيب ، والمناضل الغيور على وطنه وثورته وجبهته الشعبية وقضايا أمته القومية .. رحل عنا مساء يوم الخميس الماضي في الثلاثين من مايو / آيار الماضي بعد صراع مع المرض .
وفي الختام أدرك باني لم أوفق في منحه ما يستحق من الكلمات ، ولم ولن أتمكن من انصافه ، فهو موسوعة تحتاج لمجلدات ولكتاب مهرة وشعراء عظام ... لهذا احترمناه وأحببناه .
وليس بالضرورة أن تكون جبهاوياً قد تحترم هذا الثائر ، وليس مهماً أن تكون قد عايشته أم لا في السجون أو خارجها كي تتعرف على خصاله ، فهو صدقا من الثوار القلائل الذين فرضوا احترامهم علينا وبغض النظر عن انتمائه الحزبي فهو انتمى لفلسطيني قبل أن ينتمي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين .
محمود .. كنت نموذجاً في حياتك وشهيدا خالداً في مماتك ... وستبقى قنديلاً لن ينطفئ نوره حتى بعد رحيلك .. ليس فقط لرفاقك في الجبهة ، ولمن عرفك في السجون ، وانما لكل أبناء شعبك وعشاق المقاومة والحرية.
محمود الغرباوي .. غابت شمسك عن حياتنا ليبزغ نجمك في أعماق قلوبنا ..!