السعودي يوسف المحيميد وروايته القصيرة «نزهة الدلفين»..- احمد دحبور
لا أعرف الكثير عن الأدب في الجزيرة العربية والخليج. واذا كان هذا تقصيراً فاضحاً مني، ومنا عموماً في منطقة بلاد الشام، فإنه تقصير يمس مبدأ التواصل عند العرب. لقد تراجع دور القاهرة وبيروت في تقصير المسافات، ونحن لن نستحم في مياه النهر مرتين، لكن أن تحاول، خير من ألا تعرف أو لا تصل..
من المحاولات المشروعة، وقوعي على رواية «نزهة الدلفين» الصادرة عن دار العين الخليجية، للكاتب السعودي يوسف المحيميد، وهي رواية لولا قصرها، حيث تقع في أربعين ومئة صفحة، لما تمكنت من قراءتها كاملة، لا لأنها بدت لي عملاً مضجراً، فما زال عندي وقت لأصل الى حكم قيمة بشأنها، ولكني رأيت نفسي أمام نمط مختلف من الكتابة، وليس ما أفعله الآن إلا محاولة شق طريق الى فهمه او التفاهم معه. ومع أن الكاتب، يوسف المحيميد كاتب متمرس ذو تجربة، إلا أن هذه تجربتي الاولى معه. علماً بأن له أربع مجموعات من القصص القصيرة، هي «ظهيرة لا مشاة لها» و«رجفة اثوابهم البيض» و«لغط موتى وقصص اخرى» وكذلك «اخي يفتش عن رامبو».
اما في الروايات فقد اصدر اربعاً، هي على التوالي «فخاخ الرائحة» و«القارورة» و«الحمام لا يطير في بريدة»، ولن ننسى بطبيعة الحال هذه الرواية التي نحن بصددها «نزهة الدلفين».
وله أيضاً نصوص ومشاهدات ظهرت في كتابين هما «لا بد أن أحداً حرك الكراسة» و«النخيل والقرميد».
وقد استطاع هذا الكاتب ان يتعدى حدود اللغة العربية فصدرت له اربعة كتب بالانكليزية والفرنسية..
وعندما يكون الكاتب حاملاً هذا السجل من الأعمال، لا سيما وأن مجموعته الاولى قد صدرت منذ عام 1989، فهذا يعني أن له عمراً من العطاء يبلغ زهاء ربع قرن، وتبقى الكلمة الأخيرة للأثر الأدبي.. فماذا يقول هذا الأثر؟
الثالوث الشهير
تنفتح الرواية على أبطالها الثلاثة مرة واحدة، وهم آمنة المشيري الشاعرة من الامارات، وخالد اللحياني الشاعر السعودي، وأحمد الجساسي المثقف الخليجي، وعندما نعثر على هذا الثالوث في مصر، فإنا نتأمل خلفياتهم وذكرياتهم عن منبتهم الأصلي. وسرعان ما نعرف أن الرجلين يحبان المرأة، وهي تحبهما معاً بمعنى ما، بل ان العلاقة الودية تشمل الجميع، ويكون السؤال الدرامي هو: الى أين وماذا بعد؟
لا تمضي الرواية الى الأمام كثيرا حتى نعرف ما سيحدث، لكنها تذهب الى الوراء، بمعنى ان ذكريات ابطال الرواية تتكفل ببعض اضاءة ماضي كل منهم، وجوانب من شخصياتهم، ومع أنها معلومات مفيدة، إلا أنها لا ترسم صوراً لمستقبل أي منهم، فكأننا أمام أحد اعمال ميلان كونديرا، حيث الأمور المثارة هي اللحظات الراهنة، وحيث لا يضطر القارئ الفضولي الى متابعة عقدة ما بانتظار حل منتظر.
نعرف عن خالد اللحياني، انه طويل، وانه شاعر، وهو عاطفي المزاج إذ كثيراً ما نضبطه يبكي بصمت ويتأمل بحزن وهو يراقب صديقيه وهما يتلامسان ويتقاربان. اما احمد الجساسي فهو مغرم بقراءة باشلار ونيتشه وبورخيس وجاك دريدا، بدأ يقرأ بشغف حتى وجد أن «الحياة هي في مكان آخر» حسب تعبير كونديرا في عناوين احدى رواياته الشهيرة. أما آمنة المشيري، فهي كبرى اخواتها الثلاث، ولها شقيق واحد، وهي تتمتع بقدر من الحرية بدليل انها تقوم بهذه الرحلة وحدها، مع أنها تحسب لأمها المحافظة حسابا وتخاف ان يلتقط رفيقاها صوراً لها وهي ترقص حتى لا تراها أمها.
يستمر هذا الوضع الملتبس، حتى يجلسوا امام النيل، وهم على وشك الفراق وفي اللقاء الأخير، فأحمد سيمضي الى الاسكندرية، وآمنة ستذهب الى الشارقة، فيما يستعد خالد لركوب الطائرة الى رياض فتبوك وصولا الى بلدته الساحلية «حقل».
ونعرف أن آمنة ستلتقي بخطيبها - شاعر العامية الذي تحبه. فهل هي تحب ثلاثة رجال دفعة واحدة؟ لقد كان أحمد هو اول الراحلين، ما يعني ان الفرصة متاحة لخالد وآمنة حتى ينفرد احدهما بالآخر.. ولكن الرواية تنطبق على النهاية، ونحن لم نصل الى يقين بشأن مصير علاقة آمنة بحبيبها او بخطيبها المنتظر.
لا جديد في الحب
أن يقع رجلان في حب امرأة واحدة، او ان تنشغل بهما، ليس أمراً مفارقاً او مستغرباً.. حتى ان آمنة المشيري، المرأة الوحيدة في هذه الرواية، تروي للرجلين اللذين يحبانها قصة فيلم فرنسي رأته قبل أشهر، يدور حول رجلين يتنافسان على قلب امرأة، وهي بدورها تعشقهما معاً، وفي البحث عن حل لهذا الاشكال يتراهن الرجلان بقطعة نقد معدنية، فيخسر العاشق الافريقي الذي لم تطلع له النقشة اللازمة.. ومن الواضح أن الكاتب السعودي جعل المرأة الفرنسية تسرد هذه الحادثة ليقول ان امثال هذه القصص موجودة في الحياة، وبالتالي فان رواية «نزهة الدلفين» ليست مجرد خيال.. أليس في هذه المفارقة ما يذكرنا بالمنافسة الضارية التي كانت تدور بين الشاعر ابن زيدون وغريمه ابن عبدوس على قلب ولّادة؟.. لعل الكاتب ترك النهاية مفتوحة، ليتيح للحياة ان تقول كلمتها في مصير هؤلاء العشاق الثلاثة، ما دام الواقع لا يجافي حدوث معادلات مماثلة، فاللحظة الدرامية ليست جديدة ولكن الاشخاص هم المتجددون. وقد ترك الكاتب لماضي كل منهم مساحة من الماضي تكشف عن مستويات جديدة لكل شخصية، وفي الماضي قصص تولد من قصص.. هذه آمنة مثلاً منحدرة من أب سبق له أن أحب امرأة فأنزلها ضرّة على زوجته، ولأنه لا جديد في الحب فان الضرتين لم تكادا تقران بالأمر الواقع، حتى اختفى هذا الزوج المعشاق وذهب مع امرأة ثالثة من شرق اسيا..
على أن تاريخ الرواية لا يلتزم بقصة حب واحدة حتى لو كان لا جديد في الحب، فكما سبقت الاشارة، إن العشاق هم الذين يتجددون حسب رؤية الواحد منهم ورؤياه، وفي هذا بعض التفسير لموقف آمنة التي تميل الى الاثنين معاً، إذ ان في كل منهما ما لا تجده في الآخر، وهو ما يضع هذه المرأة الثلاثينية لا في موقف حرج حائر، بل في حالة موزعة كأنها اثنتان في واحدة، ولكل واحدة من الاثنتين انموذج مختلف يوفر حالة من الاشباع العاطفي المتوفر في خالد تارة وفي احمد تارة.. ودليلنا على ذلك أن آمنة لم تكن في أي من مشاهد الرواية لتعاني من التمزق والشتات، من الأكيد ان حسابات الأخلاق الاجتماعية لا تدخل في هذا السياق، اما الموقف الوجودي فله شأن آخر. وهذا ما يرضى به - للمفارقة - كل من خالد وأحمد، فهما صديقان على درجة واضحة من الودّ. صحيح ان خالداً يتألم حتى البكاء من احساسه بالتقارب الواضح بين احمد وآمنة، فضلاً عما يضيف خياله من تصورات، لكنه لم يقطع مع أحمد ولم يتآمر عليه، وهو ما ينطبق على أحمد أيضا. وعندي أن هذا ليس بسبب نوع من سموّ الصداقة والوفاء وحسب، لكن هذا الوضع المركب قائم على أن كلاً من هذين العاشقين الغريمين يجد في اهابه مؤهلا مستقلا جديرا بقلب آمنة، أما الألم فهو جزء من الشخصية وليس عنصراً في المعادلة السيكولوجية بين الصديقين المتنافسين.
انه لأمر لافت حقاً، أن أحمد الجساسي في الفصل الأخير من الرواية، يسافر أولاً مما يترك الساحة متاحة لخالد وحده، لكن هذا لا يظهر عليه أنه انفرد بآمنة او انه استغل بقاءهما معاً. وآمنة بدورها تكشف لنفسها - ولنا نحن القراء بالتالي - انها مخطوبة، وان خطيبها حاضر في مشاعرها، والا لما منعها احد من أن تنفصل عنه ما لم تكن تحبه، كيف هذا وهي تميل الى احمد وخالد ايضاً؟ إن الكاتب لا يمدد آمنة على أريكة التحليل النفسي ليستنتج ان لديها انفصاماً، ولكنه تركها هكذا تاركاً لكل منا تأويله الخاص.. او لعله - من حيث لا يدري - يريد ان يثبت ان هناك ما يدحض نظرية لا جديد في الحب.
لعنة الدلفين
من عجائب ما آلت اليه التخريجات والتأويلات، ان يتوهم يوسف المحيميد بأنه ظفر بما يعادل رأس كليب، حين قام بتشبيه اليد بالدلفين. دعونا نتفق منذ البداية على أن من حق المبدع أن ينشىء ما شاء من المجازات، ويصوغ ما يملي عليه مزاجه وذوقه، ثقافته ان شئت، من الكنايات والتشبيهات، فلا أحد يصادر على أي كاتب حقه في ادارة النص الذي بين يديه، لكن المستهجن أن يستنجد المؤلف، اي مؤلف، بجيش من الشهود ليباركوا هذا الاجراء الأدبي أو ذاك. ولكن لا بد لنا من العودة الى الموضوع، أي قراءة الرواية بحد ذاتها، لأن الاستغراق في التعليق على التعليق هو نوع من التزيد الذي لا يشغلنا في هذا المقام، فليقل شهود الكاتب الذين استدعاهم لتقريظ عمله فزين مطلع روايته بشهاداتهم، ولنبق عند النص..
فلحظة الرواية المعنية تتعلق بتماسّ الرجل والمرأة عبر الأيدي، وللعاشق أن تشغفه يد حبيبته النابضة في راحة يده، وله أن يقارب راحة الحبيبة بما يستهويه من تشبيهات. ولكن هذه اللحظات هي من الحميمية بحيث تفقد جدواها في حال الاسترسال. فليست أيدي عشاق الرواية الثلاثة وحدها هي المشبهة بالدلافين. إن كل راحة يد تطرأ على الرواية معرضة لهذا التشبيه، وكثيراً ما استغنى الكاتب عن «الموصوف» وترك الصفة تنوب عنه. فدلفينه في بحرها، ودلفينها بجواره، والدلافين في كل مكان.. فإذا اضفنا الى هذه اللعبة ما يظنه الكاتب من اساليب الحداثة!! وهو أنه يقدم الشخص أحيانا من غير التصريح باسمه، وقعنا في التباس لا يميز بين هذه الشخصية او تلك، إلا اذا قلبنا بعض الصفحات لنجد علاقة من نوع بين الشخص المقصود واحدى العلامات الدالة عليه.
بل ان هيام الكاتب بالأيدي، وصل في مرحلة ما الى وضع المبتدأ، وهو اليد طبعا، من غير أن يشغله العثور على الخبر. مثلا: «اليد الشرسة الغليظة التي انهالت كصخرة على ظهر الطفل ذي الثالثة.. اليد الراعشة إذ تمسك ورقة القصيدة على المنصة.. اليد التي صارت دلفيناً ومضت في نزهة حول العالم..» ثم لا شيء، ولنبحث في الفصول التالية عن خواطر جديدة.. حتى اذا وصلنا الى الصفحة 126، وقعنا على مبتدأ مكرر، هو الأيدي طبعاً وقد زودت بخمسة وأربعين فعلاً مضارعاً من نوع «تصافح وتخنق وتحضن وتصفع وتصفح وتبوح وتفصح.. الخ» ثم لا تؤدي هذه الافعال الى شيء..
لا شك أن في رأس يوسف المحيميد عدداً من الأفكار اللامعة، والملاحظات الحاذقة، وبعض الصور المتدافعة في تيار اللاوعي، وهي مما لا يجوز إنكاره عليه. فالناقد او القارئ بشكل عام ليس متصيد زلات ونواقص في النص. بل انه يسعد باشراقات المبدع وبالصورة النفاذة التي من هذا القبيل: «كانت تشعر انه يلبس البحر ويخيط قصائد من ماء» او «تصحو لندن على غيم يلامس أكتاف المارة» او «كان يمارس رياضة المشي بل رياضة الصمت ايضا» او «يدخلون ويخرجون كما ابرة الخياطة تدخل وتخرج من النسيج».. ان هذه اللغة، في احد مستوياتها، تنتسب الى الشعر، لكنها لا تجور على النص بل تضفي عليه مناخاً يوسع آفاق الكاتب والقارئ معاً..
لكن المشكلة أن تقودك الفكرة او الخاطرة، او حتى الصورة، الى خارج السياق حتى ليتعب القارئ نفسه في البحث عن تأويل يجمع هذه الفكرة الى تلك. وفي مطلع تلك الصور المفترية.. صورة الدلفين.
سحر النص الغائب
قد يبدو ضرباً من التزيد ان اشير الى النص الغائب في معرض قراءتي لاحدى الروايات، فيما جرت عادة البنيويين على متابعة النص الغائب في الشعر اساساً، ولكن اسلوب يوسف المحيميد المطل على الشعر، يتيح هذه الفرصة بامتياز. والنص الغائب، في احد وجوهه الممكنة هو ان يستضيف الكاتب نصاً، او شذرة، من نص آخر معروف لدى بعض القراء، فيوظفه في خدمة النص الجديد الذي يكتسبه للتو. مثال ذلك ما ذهب اليه يوسف المحيميد من استذكار ولع الامبراطور الفرنسي شارلمان بفتاة المانية، واكتشف الباحثون او الفضوليون سر هذا العشق، وهو أن لدى هذه الفتاة خاتماً كان يشكل حالة جاذبية، حتى انهم عندما اخرجوا هذا الخاتم من فمها تعلق الامبراطور بالرجل الذي أخذ الخاتم، ولما تم القاء الخاتم في البحر، هام شارلمان بحب البحر.. لا شك انه نص جميل ومثير، وان كنت اعترض بأني لم اجد لدى الكاتب السعودي ما يسوغ استضافة هذا النص او توظيفه فنياً، مع ان الفضاء الروائي يتسع لألاعيب الفن وتحميلها الأفكار او حتى الأوهام التي تغني النص.
الا انه يستخدم النص الغائب، في مكان آخر، بحذق ودراية اكبر، لولا أن احاطته بالمصدر الذي استقى منه النص ليست دقيقة، فقد افاد من رواية همنجواي الشهيرة «الشيخ والبحر» ولكن خانته المعلومة عندما قال ان الشيخ كان يجاهد لاصطياد سمكة القرش، فيما تقول رواية همنجواي ان السمكة المطلوبة للشيخ كانت من نوع يسمى المارلين وهي سمكة عملاقة يحتاج صيادها الى عضلات متينة ليسحبها، وكانت محنته في ظهور القرش الذي كان يجذب سمكة المارلين وينتزعها من شبكة الشيخ، بحيث انه لم يصل بها الى الشاطىء إلا بعد أن أصبحت هيكلاً عظميّاً ضخماً لا طائل من ورائه. اللهم الا شهادة الجمهور لهذا العجوز العنيد بقوة الشكيمة وقدرته على جلب هذه السمكة قبل ان يفترسها القرش.
أما النص الغائب الآخر، فهو اشكالي ومؤلم. إذ أورد الكاتب اشارة الى بعض الأهالي من الفلسطينيين الذين يحتفظون بمفاتيح بيوتهم بعد أن تم تهجيرهم منها. لكن الكاتب جعل هؤلاء الأهالي من رام الله.. وفي هذا شيء من عدم الدقة، لأن الفلسطينيين الذين ظلوا يحتفظون بمفاتيح بيوتهم بعد الاحتلال، هم الذين تم تهجيرهم عام 1948 المعروف تاريخياً باسم عام النكبة، هؤلاء تعرضوا للقتل والاقتلاع وجيء بالمعتدين الصهاينة ليسكنوا بيوتهم، فترى اللاجئ منهم يحتفظ بمفتاح بيته الأصلي ويورثه لأبنائه من بعده. اما الفلسطينيون الذين دهمتهم هزيمة 1967 ووقعت مدنهم وقراهم تحت الاحتلال، فهم ابناء قطاع غزة والضفة الغربية، ومن هاتين المنطقتين، كما هو معروف، غزة وخان يونس ورام الله وطولكرم ونابلس وجنين وغيرها.. وهؤلاء بقي معظمهم في بيوتهم ومدنهم وقراهم في مواجهة الاحتلال ولم يحتاجوا الى الاحتفاظ بمفاتيح البيوت لأنهم لم يفارقوا هذه البيوت، الا بعض الذين دهمتهم النكسة وهم في الخارج او من خرج الى الجوار العربي ليواصل كفاحه من أجل العودة، ولهذا لا يمكن الزعم بأن ابن رام الله يحمل مفتاح بيته في المنفى.. واذا كان هذا التوضيح غير ضروري لأنه معروف لأهل فلسطين، فمن المفيد ان يشار اليه في حوار مع الكاتب العربي وكل عربي يعتبر فلسطين قضيته الاولى لكن لا بد من احاطته بالتفاصيل.
إلا أن الكاتب يوسف المحيميد نجح في استلهام النص الغائب المتعلق بتاريخ رمسيس الثاني، أحد أهم حكام مصر القدامى وقد استرجع خالد اللحياني تاريخ هذا الفرعون العظيم عندما كان وأحمد وآمنة على ظهر السفينة السياحية في النيل، واسم السفينة: الفراعنة، وقد افترض الكاتب نوعا من الجدل الحضاري بين خالد ورمسيس الثاني، فكان في منتهى الدقة والبراعة والتأثير.
وقصص أخرى
لأن «نزهة الدلفين» رواية مفتوحة، بمعنى انها ليست مقيدة بظروف ابطالها، فإن ابطال هذه الرواية قادرون على التذكر واستلهام الحاضر وتأمل الواقع، ويكون ثمة مجال لقول الراوي: «هكذا يمتد الهمّ من ساحة الشهداء في بيروت حتى حي السليمانية في تبوك» وليس معنى هذا ان الكاتب متورط في استطراد يخرج روايته عن مسارها، ولكن ابطاله - وهم معاصرون بطبيعة الحال - ممتلئون بهذا العالم، متأثرون بحيثياته. ولهذا نجد مكاناً طبيعياً، في الصفحة 64، لهذا العرض:
«جنود اسرائيليون يحومون في دورية حول الحدود في سيناء، جندي يتشمس فوق دبابته ويدخن سيجارة الصبح..» ولنا أن نقدر ان الكاتب لا يتابع هؤلاء الجنود ولكنه يضعنا في مواجهتهم ما دامت روايته تتحرك داخل هذا الحيز العربي.
وشخصيات هذه الرواية المحاطة بهذا الجو، لديهم الوقت ليتأملوا الحياة والفكر وحركة الابداع مما يظهر في توارد افكار احمد الجساسي حينا وخالد اللحياني حينا آخر، وهناك متسع لسؤال من نوع يطرحه خالد: هل علي أن أكون مخلصاً؟ أن اتحول الى كبش فداء حتى اصبح شاعراً عظيماً؟ هل لا بد أن أدخل معتقلاً لأكتب قصائدي عن السجن وأنشرها في انحاء العالم؟» ان اسئلة كهذه تفتح جروحاً اكثر مما تضع حلولاً، ولم يزعم، الا المبشرون السذج، ان مهمة الروائي او المبدع بشكل عام وضع حلول لمشكلات الحياة.. لكنه يضعنا امام الاسئلة لتكون تتمة الرواية لا في الصفحات اللاحقة بل في شوارع الحياة.
وبعد،
من حق القارئ غير الصبور ان يتهمني بالتناقض، فقد عبرت في البداية عن تذمري من مسارات في هذه الرواية، وها أنوه بجوانب مضيئة منها.. لكني ارى العمل الفني هكذا، فهو مشوق مثير حيناً، وقد يتباطأ حتى ليوقعنا في مأزق الضجر حيناً، واذا كنا - وهذا من حقنا - ننشد الكمال في المنتج الأدبي، فليس ما ننشده هو المتوفر على مقاس أذواقنا وثقافتنا.. لقد كانت رواية يوسف المحيميد غنية بكثير من القضايا. وكان لي مشكلة مع دلافينها التي ربما ظنها مؤلفها كشفاً وفتحاً، بينما رأيت فيها نقطة في غير صالح هذا العمل الذي تجدر الإشارة الى نقاط كثيرة في صالحه.