التوجيهي: مختلفون.. لكن في طريق واحد- تحسين يقين
جلست أنتظر العريسة أو العروسة، مفرد عرايس، وهي معجنات باللحمة تصنع في الفرن، وقد نسيت أن أسأل عاجنها عن اسم المفردة، حيث راحت عيوني تجول جنين من مكاني قرب مكتبة المدينة عند الظهيرة، فسألت الفتى لأحاوره:
- في أي صف أنت؟
- في العاشر، وفي السنة القادمة سأكون في التوجيهي..
- التوجيهي؟!
- نعم، فالسنة القادمة سنكون في التوجيهي، في الصفين الحادي عشر والثاني عشر.
- وما رأيك؟
وراح الفتى يتحدث بطلاقة عن إيجابيات النظام الجديد، فاندهشت من ذكائه ومعلوماته، ولم أشأ التأثير عليه، فبقيت أشجعه وهو يتحدث بحماس وسرور...
في المساء، استمعت لمدير مدرسة في الخمسينيات من العمر، كان قد حضر ندوة للدكتور بصري صالح الوكيل المساعد لشؤون التطوير في مديرية جنين، وقد حرصت أن أستمع دون أن أعلم الحضور بأنني أعمل في الوزارة حتى يتحدثوا بتلقائية، فذكر مدير مدرسة برقين بأنه اقتنع من ندوة الاستماع، فهناك مزايا راح يتحدث عنها، فتحدث أكاديمي ناقدا للنظام الجديد، وهكذا ما زلت أستمع للناس. أما كتاب الرأي، فأظن أنه رغم أهمية الموضوع، فإن الذين أدلوا بآرائهم كتابة في وسائل الإعلام ما زال عددهم قليلا؛ فالكتاب عموما يزهدون بالشأن التربوي، إلى مواضيع أخرى.
بصراحة، وحتى هذه اللحظة ما زلت أفكر في الامتحان كما أفكر في الكتب والمعلمين. بالنسبة للامتحان كنت على مدار سنوات أكتب عن التعليم نفسه مركزا على غرفة الصفّ لأنها بنظري هي التربية والتعليم، أما الامتحان فهو حاصل تحصيل، وبه نقيّم العملية كلها، أي أنه في عمقه التربوي والفلسفي تقييم للطالب والمعلم والمدير والأهالي..
ربما كنت أميل لرأي آخر بشأن النظام الجديد، لكن لعلي آثرت الاستماع لخبرات آخرين وآراء المعلمين والطلبة، والاستماع للطلبة بشكل خاص أمر بالغ الضرورة..
حين درست قيادة وزارة التربية والتعليم المقترح، وأقرته، رحت أفكر في رأيي، هل عليّ أن أتغير أم أظل في سياق الرأي نفسه؟
قلت لنفسي محترما هؤلاء الزملاء الذين أعرف معظمهم وأقدّر خبراتهم: إن إقرار هؤلاء الخبراء يجب أن يعني لي شيئا، فهل يجمع معظم التربويين على باطل!؟
ثم تذكرت فتى العرايس اللذيذة في جنين بحديثه العذب، ومدير المدرسة بحديثه المقنع غير المتحيز وغير المطلق كالأكاديمي الناقد، وحاورت العديد من الزملاء، والأهالي، ما بين معارض ومؤيد، واستمعت لأرى هل الرأي لديهم ينطلق من أسس تربوية، فوجدت أن معظمها انطباعات وخبرات سابقة.
عدت لكتاب الرأي، فقرأت ما كتبوا ثانية، فوجدت أن معارضتهم الشديدة أحيانا واللاسعة تمتلك ملاحظات تربوية غنية لا ينبغي للمؤيد للنظام الجديد أو المعارض القفز عنها، فتمنيت لو أنهم كانوا يتحدثون وسيظلون يجتهدون في الشأن التربوي وليس فقط في أمر التوجيهي.
في الرأي العام داخل الوزارة المعنية بخدمة التعليم وتطويره، ثمة تياران مختلفان، ليس المهم أن نتحدث عن الكمية في التيارين، لأننا بإزاء التفكير، والفكر فكر، ففي الاستماع لهما، تجد الحرص عندهما على التعليم ونوعيته، فمنطلقات الدكتور جهاد زكارنة الوكيل المساعد ومسؤول ملف التوجيهي غير قادمة من فراغ، بل من خبرة يتشارك فيها مع آخرين. وهذا الحال أيضا ينطبق على الرأي العام خارج الوزارة، إذن اقتراح التوجيهي الجديد أتى بشيء هام، ألا وهو الاهتمام الفكري والتربوي والأكاديمي في تطوير التعليم. حتى أن الزميل يوسف الشايب نشر تحقيقا على صفحتين في الأيام، قدم للقراء فيهما آراء قيادة الوزارة، وهو ما زال يتابع تحقيقه الغني والكبير في الموضوع، بل هو أكبر تحقيق تربوي ينشره الإعلام الفلسطيني مع إشارة لذلك في ما نشيت الصحيفة.
إذا كان منطلق تطوير الامتحان هو النهوض بالتعليم فهذا أمر مبشّر، وعليه نبني، أما أن الامتحان على سنتين، فلا أدري هل الامتحانات من الأول للعاشر لم تكن مهمة؟ ليكن على سنتين أو ثلاثة، فإذا رأى التربويون أن هناك صعوبات في تنفيذه، فلا ينبغي المعارضة فقط، بل البحث عن حلول ذكية، ولعل في كلمات الزميل فراس عبيد أحد أكثر الكتاب نقدا للتوجيهي بشكل عام أكان على سنتين أو على سنة، ما يمكن أن يقود لشيء... كيف؟
مقصد فراس هو التغيير النفسي والاجتماعي لنظام التوجيهي التقليدي، وأزعم أن التفكير في عمق النظام الجديد قد يقود إلى ذلك. كيف؟
حين ينفذ النظام على سنتين كامتحان وزاري، سيشّجع فيما بعد الذهاب للصف العاشر وإشراكه، وبتفاؤل ما للمستقبل بتحسن نوعية التعليم خصوصا بعد تنفيذ خطة تأهيل المعلمين المتبعة اليوم من الأول إلى الرابع الأساسي، ربما نجد أنفسنا أمام مدارس قوية بهيئات تعليمية فاعلة موثوق بقدرتها في ظل وجود إدارات مدرسية تتجاوز الدور التقليدي، بحيث سنتمكن أخيرا في غضون عقد من السنوات من منح المدرسة 80% من العلامة مقسمة على ثلاث سنوات، في حين تجري الوزارة امتحان مستوى شامل لتغطية العشرين علامة المتبقية، وربما يتم الاستغناء عنها لاحقا. لكن ذلك يحتاج إلى بناء ثقة، وبناء نظام متابعة من مديريات التربية والتعليم، بحيث يتم حرمان المدارس التي يجري فيها خلل في التقييم، بحيث يطلب منها التقدم لامتحان مستوى وزاري 100% من العلامات لعدد معين من السنوات.
في مقالات تربوية لحذيفة جلامنة وإبراهيم الشاعر وحازم عجاج، ومقال الإعلامي عبد الناصر النجار، وتحقيق جريدة الأيام الذي سيستكمله الزميل يوسف الشايب، يمكنني إعادة الفكرة، بأننا متفقون أو مختلفون في الرأي، لكننا في طريق واحد وهو طريق مقدّس لا يملك أحدنا الرأي كله، لكن ينبغي أن يأخذ المسؤولون المحاذير والتحفظات في البال، فما هو استراتيجي يعامل كذلك، أما ما هو تفاصيل، فترصد لوقت تنفيذ الامتحان في شكله الجديد، وأنا على ثقة بأن اختلاف الرأي مفيد، لأنه منطلق تطوير المقترحات والمشاريع. ولعلي أنتظر إلى تيارات رأي يكون عمقها فكريا أكثر حتى تعد تيارات بالمعنى الحقيقي. بمعنى أن التيارات السائدة اليوم، ومن ضمنها تيارات منظمات تربوية أهلية غير حكومية ما زالت تخرج من العباءة التقليدية نفسها.
بعض الأحاديث مع الأستاذ محمد أو زيد وكيل وزارة التربية والتعليم كانت تشجعني على أن هناك منحى فكريا في اتجاهات تطوير نوعية التعليم، وأظن أن هناك أهمية بمكان أن ننظر بعمق فكري إلى نظام التعليم وعلاقته بنظام القيم ونظام الحكم والمجتمع والعالم، وإلى كوننا نعيش تحت الاحتلال، وهذا يتطلب وجود جماعة فكرية غير منشغلة بالعمل الإداري أو تصحيح أوراق طلبة الجامعات.
الهم التربوي؟
هل هو همّ المجتمع؟ المجلس التشريعي؟ لجنة التربية والقضايا الاجتماعية فيه؟ مجلس الوراء؟ الرئاسة؟
كلنا يدرك أهمية التعليم في المواطنة والحفاظ على الهوية والانتماء للعصر، وكلنا مهتمون بالتغيير الاجتماعي، لكن وفي ظل حالتنا السياسية المعيبة، وحالة الاشتباك الدائم مع الاحتلال
هل ستتفرغ قياداتنا فعلا لمناقشة حالة التربية وسياساتنا الاجتماعية؟ هل سيكون القادة أيضا قادة فكر شركاء للتربويين والمثقفين والأكاديميين؟ أم أنه ردود فعلهم ستكون انفعالية أو مجاملة أو معارضة؟
أتمنى على مجلس الوزراء المتنور وقيادتنا التشريعية في لجنة التربية والقضايا الاجتماعية أن يكونوا خير رديف لوزارة التربية والتعليم، ودعمها بالرأي، ويبحثون مع كوادر الوزارة عن حلول ذكية للمحاذير والتحفظات على النظام الجديد، وتكون آرائهم/ن هي آراء فكرية أكثر منها مؤيدة أو معارضة.
وإنني لأرجو أن تكون جلسة مجلس الوراء ولجنة التربية والقضايا الاجتماعية حلقتين تربويتين عميقتين، أكثر منهما جلستين لقادة سياسيين وحكوميين وممثلي شعب.
بقي الكثير من ذكريات التوجيهي لفتى قرويّ: أغاني أم كلثوم وفيروز، الطعام الليلي من زيتون وبندورة وخب طابون ولبن، ساندويشات الشاورما بعد الامتحانات، نكت الطلاب والمعلمين، سيارات الفولسفاجن التي كنا نركبها من القرية إلى المدينة، رمي فتيان الحجارة على دوريات الاحتلال، توصيات الوالدين، أماني الحب، والأحلام الكثيرة، والأصدقاء ورفاق رحلة الطريق..ودعوة بالانتهاء على خير..ذكريات عزيزة على القلب لعلي استذكرت منها مؤخرا كلما قرأت أو سمعت حديثا عن امتحان الثانوية العامة في مقترحه التربوي الجديد.
إذا لم نتغير فلن نغيّر..
لماذا أقول هذا الكلام؟
حسنا، ربما كونت خلال رحلتي التربوية مجموعة أفكار واتجاهات بنيت عليها مقالات تنويرية ونقدية عن عملنا التربوي العربي ومنه الفلسطيني، وكنت منتبها دوما إلى ضرورة الوصول إلى مصادر تربوية وفكرية، تضاف إلى مصادر تعلمي التقليدية التي قدمت من تتلمذي في التعليم العام والعالي، إضافة إلى خبرتي العملية كمعلم وموظف في المؤسسة الرسمية، وتعلمي من المنظمات التربوية غير الحكومية، وقراءاتي، وغرفي منم زاد الثقافة والفكر والفنون ما أمكنني.
ترى ما هي المصادر التي كنت أرى ضرورة الوصول إليها؟
أظن أن من أهم المصادر التي على التربوي الاهتمام بها هي-مادة التربية والتعليم نفسها: الطلبة والمعلمون وكتب التعليم العام. أي أن اتجاهات وآراء هؤلاء جميعا هي الموجه للتربوي في أفكاره ونظرياته.
كمعلم كنت أرى مدى قدرتي على توصيل المعلومات للطلبة من خلال النظر في عيونهم قبل التقييم الذي يتم في نهاية كل درس. لقد كنت طالبا في يوم من الأيام، ومعلما، لذا عليّ دوما ليس تذكر نفسي كطالب ومعلم، بل أن أحرص على ديمومة العلاقة مع الطلبة والمعلمين.
وباعتبار هؤلاء الذين يشكلّون معا محور العملية التربوية، فإن عليّ الاعتراف بأنهم غيروا رأيي حول الامتحان المقترح.
وسلام على بائع العرايس في جنين..