أربعون عاماً ولم يترجل غسان- الاعلامي خالد الفقيه
أربعون عاماً... أربعون خريفاً وشتاءً ... مرت على إلتحام جسد الشهيد الأديب غسان كنفاني بلحم إبنة أخته الغض الطري لميس ولا زال ذلك الرجل الذي خرج من عكا يصيغ بما تركه من إرث ثقافي وأدبي حضاري جدلية العودة عبر حدود الوطن إلى الأرض التي أحب، هاجسه كان ولازال العودة، كلماته التي خطها في رواياته وقصصه عادت قبله فتلقفتها الجماهير وحفظتها عن ظهر قلب حتى أضحت ترانيم تصدح بها الأفواه.
أربعون عاماً مذ ظن قاتلوه في بيروت أنهم أفقدوا الفلسطينيين صوابهم وكانت النتيجة فقدانهم هم لصوابهم فغسان لم يمت وتشبث بالحياة روحاً تحوم فوق بيوت الصفيح في أزقة مخيمات الشتات وداخل الوطن، روحه تصطاف يومياً على أسوار عكا التي لم تكسرها ضربات أمواج البحر الهادر التي قصمت ظهر الإمبراطور نابليون ودحرته بعيداً عنها، شذرات أدبه باتت السكر في برتقال يافا الحزين، وسنابل قمح حقول فلسطين وعذوبة الماء المتفجر من رحم الأرض.
من لم يقرأ غسان لم يعرف تاريخ فلسطين وقصة شعبها الكنعاني العربي، من لم يتصفح إبداعاته فقد بوصلته.
عمل غسان في الأدب والصحافة وأرسى دعائم جدلية جديدة في الصراع مع المحتل لإيمانه العميق بأن الجبهة الثقافية هي الظهير الفعلي لحالة الاشتباك المسلح وهو القائل: " من العار أن نخسر جبهتنا الثقافية" ولكأنه كان يعلم بأن هذه الجبهة هي التي يسعى المحتل وعرابوه لولوجها في حربهم على العقول للقبول بالكيان الصهيوني بشكل طبيعي والتعاطي معه كمكون ثقافي وحضاري في المنطقة، صدقت توقعاته وبات التطبيع وعرافوه اليوم كالسوس والسرطان الذي ينخر ليس فقط جسد المقاومة وإنما الوعي الجمعي لكل العرب وعلى رأسهم الفلسطينيين.
لو كان غسان حياً اليوم أو عاد للحياة لفضل أن يعود إلى كتبه ورواياته وبعض رسوماته التي زينتها ريشته عندما حاول الرسم على أن يتواجد بيننا لأن القضية والوصية قد ضاعتا في آتون مصالح النفوس الضعيفة ولهالته حالة الإنكسار العربي التي تستقوي بالعدو والإمبريالية لشطب مقومات الوحدة العروبية التي لطالما آمن بها ودفع دمه ثمناً لها.
لو عاد غسان اليوم لترحم على أيام التفاعل والتكاتف الفلسطيني الفلسطيني المسنود برغبات العرب ورعايتهم، ولإنزوى حزناً على ما آلت إليه قضيته الوطنية. فهو إرتقى ولم يكمل روايته الأخيرة والتي كانت تعالج قصة رجل فاقد للبصر يعود إلى وطنه وعند وصوله لمفترق للطرق عاد إليه بصره ولكن غسان أكمل هو ككاتب للقصة المسيرة فاختار أقصر الطرق إلى وطنه وجعل من روحه طائراً يحلق في سماء فلسطين وأرض الفقراء الممتدة من الخليج العربي إلى المحيط لتحرضهم على التخلص من واقعهم فما قيمة كل الكلمات ما لم تتحول إلى ديالكتيك عمل ثوري ينفض غبار الهزيمة المتراكمة في النفوس.
صحيح أن فاجعتنا بغسان لا عوض لها فالخزان الذي دعا لقرعه حتى تحبل الأرض من جديد برجال لفحتهم الشمس ولوحت قاماتهم في صحراء إبليس العرب لم يقرع حتى اليوم ولكأني بغسان يقول لنا: طرحت عليكم معجزةً لم تكونوا أهلاً لها ولم تفلحوا في الإفلات من سلاسل الأسئلة الأبدية التي تطوق أعناقكم .... أتخافون من تبعات الحرية ومتطلباتها؟؟؟
غسان كان إستثنائياً في كل شيء، في الحب والأدب والرسم والشعر والسياسة والمقاومة ألقى بكل ثقله رغم عمره القصير فأبدع وأنتج ما لم يستطعه غيره رغم المرض الذي كان ينخر جسده النحيل وكان دوماً يقول ما دمت حياً فأنا باق على ذات الخط الذي أرتضيته لنفسي، الخط الذي يوصلني إلى وطني المسلوب والمصلوب كنجمة صبح في الآفق.
أبا فايز غادرت في غير موعدك وأبقيت محبيك في تيه يتخبطون فأنت عبقري فذ لم تلده إمرأة بعد فحزت لنفسك موقع الأيقونة المحفورة في ذاكرة التاريخ والجغرافيا، وبقيت وحدك في الميدان وكأنك تعلم قرب السفر فاعتصرت القلم حتى باح بكل ما فيه مداداً يرسم حدود أحلامك حتى بعد مماتك.
فعلاً إستطاع غسان أن يضعنا في الخانة الضيقة عندما قال: إن قضية الموت ليست قضية الميت على الإطلاق... إنها قضية الباقين، فعلاً إنها قضية الأحياء الأموات في فك طلاسم معادلة ربما من الصعب على معظمنا فهم ما أردت. وفي موقف آخر سهل غسان علينا الرثاء والبكاء عندما قال: "الثورة وحدها هي المؤهلة لاستقطاب الموت..الثورة وحدها هي التي توجه الموت..و تستخدمه لتشق سبل الحياة"، فخياره الثوري معلوم النهاية وغسان كان يعرف ذلك ويسارع الزمن لينجز ما يستطيع ويقدر. فالأم الفلسطينية من وجهة نظره تلد الفدائيين وفلسطين تأخذهم فهو صقر لم يكن يهمه أين يموت وليس غزالاً يحب أن يموت بين أهله فسال دمه في شوارع بيروت التي أحبها كما أحب عكا وفلسطين.
مد غسان بدمه الجسر إلى الآبد الذي رواده في محياه وهو أجمل ما تبقى لنا في عالم ليس لنا.