محمد لافي ودروس الشعر والحياة في «الأعمال الناجزة»..- احمد دحبور
كما يفعل الشريك المخالف، يضع الشاعر الفلسطيني محمد ابراهيم لافي قصائده في كتاب، مرتباً اياها لا كما يفعل الشعراء الآخرون منذ القديم الى الجديد، بل يبدأ من حيث وصل، عائداً بالزمن القهقرى، حتى ليضع أول أشعاره في آخر الكتاب وجديدها في بدايته، ولا يسمّي ديوانه شأن زملائه الشعراء، بالأعمال الكاملة، بل يكتفي - وهو محق في هذا - بعنوان «الأعمال الناجزة»..
وهذا الشريك المخالف لا يقدم معلومات عن حياته او ترجمة لها، ما يلزمنا بالبحث عنها على طريقتنا.
فهو مولود في قرية «حتا» من قضاء غزة، عام 1948، ويعيش في العاصمة الاردنية عمان، وكان قد جال بين دمشق وبيروت، وزار مدعواً عدداً من البلاد، عمل في الصحافة الأردنية والسورية، وكان عضواً في نقابات ثقافية، شاغلاً مواقع هامة فيها أحياناً، مثل رابطة الكتاب الاردنيين، ونادي القلم الثقافي، والاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب..
أصدر محمد لافي مجموعته الشعرية الاولى عام 1973، وتتابعت مجموعاته حتى بلغت الثماني عام 2010، ولا ادري ما اذا كان قد اصدر جديدا بعد ذلك. وهذا بيان بأعماله، لا حسب ترتيبها في اعماله الناجزة، بل حسب تواريخ اصدار كل منها، فالمجموعات هي «مواويل على درب الغربة - ا لانحدار من كهف الرقيم - قصيدة الخروج - نقوش الولد الضال - مقفى بالرماة - أفتح باباً للغزالة - لم يعد درج العمر أخضر - ويقول الرصيف»..
وعلى ما يبديه من نزوع واضح الى الاختلاف، يبدو الشاعر محمد لافي ميالاً الى الصداقة ومد الجسور، حتى ليصعب احصاء القصائد التي نشرها مهداة الى اصدقاء له، هذا إذا لم يشكل بعضهم محاور لقصائده، كما انه زود مجموعاته بمقدمات وتعليقات وشهادات لأدباء يعتز ونعتز بهم، هم د. احسان عباس، ود. ابراهيم الخليل، ومراد السوداني، ويوسف المحمود، وزهير ابو شايب، وعمر شبانة، ومفيد نخلة.. ناهيك عن القصائد التي اهداها الى نفسه، اما مجموعته مقفى بالرماة، فقد كان اهداؤها كالتالي: الى شبيهي.. محمد لافي - حيث أعلن خروجي عليه الآن.. وتقع الأعمال الناجزة، مع مقدماتها والتعليقات عليها والشهادات لها، وفهارسها، في 460 صفحة من القطع الكبير.. انتاج وافر ودعوة صريحة.. أفلا نلبي؟
مواويل الغربة
في القصيدة الاولى من مجموعته الاولى «مواويل على درب الغربة» يطالعنا الشاعر بالقول:
وأحلام تراقص في عيون الليل،
تصنع من جلال الصمت،
أرغولاً وقيثارة
فنضع ايدينا منذ البداية على لغة تتحرش بالرومانسية، لتنتهي الى طباق يجمع بين ارغول الفلكلوري وقيثارة الحداثة، ولو صبرنا عليه لاسترسل حتى وصل الى «سبحان الذي اسرى - بأقدامي الى دنيا سماوية»، واذ يستوقفني التناص مع الآية القرآنية فإن جموحه الشعري يصل الى الدنيا السماوية في جدل تلقائي بين الأرض وعالم الروح، وبهذا يقدم رزمة من مفاتيحه الشعرية في صفحة واحدة. من المدخل الرومانسي إلى التشكيل القائم على المحلي فالأشمل، إلى مشروع القصيدة المدورة - اذ تضم الاسطر التي اقتبسناها سبع تفعيلات متواصلة من فئة مفاعلتن - وصولاً الى تزويج الواقع - الدنيا باشراقة الخيال السماوية، فاذا قلبنا الصفحة رأينا الشاعر محلقاً
يطير بنا بساط الريح يحملنا،
الى غابات منسية
فنعثر - وما زلنا في القصيدة نفسها - على ما يعمق لجوءه الى التراث الفلكلوري، بساط الريح، مع ملاحظة لغوية، فقد حمله الوزن على منع كلمة «غابات» من الصرف وهذا غير جائز، ولكنني لا اضعه في اطار الخطأ النحوي، مع انه كذلك، الا اني أراه - كما يظهر في غير مكان من شعره - نوعا من رفع الكلفة مع اللغة، فكأنه يستخدم العامية.. وقد شغف محمد لافي بتضمين كلمات عامية في شعره كما سنرى. واذا التمسنا له عذراً من أن هذه اشعار البدايات، فماذا نقول عندما يقول:
فتشت عن نسب له
(قرعة ابوه من وين!)
ان هذا الكلام قد ورد في مجموعة «ويقول الرصيف» التي هي أحدث مجموعات الشاعر المنشورة، وعندما نقارنها بمجموعاته السابقة كلها، نجد انه لم يحد عن تضمين الكلام العامي في كثير من نتاجه، حتى ليمكن وصف ذلك بأنه جزء من اسلوبه العام الذي يزاوج بين شعبوية لا تضيق الى المناخ الشعري كثيراً ونخبوية قائمة لأسباب موضوعية تتعلق بالمسافة بين الشعر الحديث بشكل عام وبين الجمهور العريض.
على ان الشاعر يجد نفسه في موقع ملتبس، فهو معني باطلاق لهجة التمرد والرفض من جهة، وهو معني باشهار غربته من جهة ثانية، وليس ا ستخدامه الجزئي للعامية او اللهجة الشعبية مفيداً تماماً في الحالتين، فالمتمرد يتعالى بنبرته والمغترب لا وقت لديه للبوح الحميم، فلماذا يعمد الى تطعيم شعره بهذه «المحسنات» التي لا تخدم جمالية النص الا بالحد الأدبي؟
حياة الناس
قد لا اكون موفقاً، من وجهة نظر محمد لافي، بالدخول على مشروعه الشعري من الباب الشكلي، فهو شاعر ذو رسالة، وخطابه الأثير هو خطاب قضية مما يمكن ان نلتقطه في كل قصيدة:
وأريد ان يتراجع المنفى كثيراً،
او قليلاً،
ان ازيح منازل الشهداء من كأسي
ليحتل الشراب الراس
وأريد ان احيا حياتي مثل كل الناس
بهذه التلقائية المتعففة عن الكلام الكبير يتقدم الشاعر الى الحياة، لا كفاتح او «سوبرمان»، بل كانسان عادي مثل كل الناس. ولكن لا نحسبن هذا الطلب، على تواضعه، سهلا ميسورا، فنظام الوجود يتحرش بالموجود حتى ليبدو الوصول الى الحياة العادية امرا شاقا، ودعونا نلاحظ كم هي ماكرة هذه التلقائية التي يتمظهر بها، فهو حتى يكون ككل الناس، يضطر الى ان يزيح منازل الشهداء عن كأسه، بمعنى انه ليس مجرد انسان بسيط تراوده الكأس، بل هو مثخن مثقل بهموم الشهداء الذين يظهرون امامه حتى وهو في حضرة الشراب، وما ذلك الا لأن هؤلاء الشهداء في وعيه ولا وعيه، هو الذي لا يريد الا ان يحيا حياته مثل كل الناس، بعيداً عن جور المنفى الذي لا يمكن ان يعفو عنه فيبتعد، والمنفى منفيان: الاول هو جرحه الفلسطيني من حيث هو مبعد عن وطنه، والثاني هو منفاه الوجودي حيث لا يستسيغ الحياة الا اذا تخلص من اشباح الواقع اليومي والمآسي اليومية، فهل الى الخلاص من سبيل:
سأظل أهتف: ليت لي مليون عمرٍ،
كي اوزعه على القتلى بأوطان يسيجها الغزاةْ
كي يفهموني جيداً.. ولينهضوا
وليعرفوا أن الحياة هي الحياةْ
وهل من الميسور أن يتدبر هذا المسعى العفوي؟ الوصول الى براءة الحياة بما هي حياة لا نقصان ولا نقصان؟ كيف وقد تساوى الماء والخشب، ونام على ساكنيه البلد، حيث
لم يعد اي شيء مهماً،
وما عاد لي حاجة بأحد
على انه لا يقر بالحقيقة، فهو في حاجة خانقة، والآخرون يسكنون روحه حتى لو ادعى انه راض بوحدته، بل انه حين يدعي قبول هذه الوحدة يلجأ الى نوع من التناص الممتلىء بالآخرين، واي امتلاء أكثر من تمثل شخصية النبي محمد الذي قال للمشركين الذين ظلموه واضطهدوه: اذهبوا فأنتم الطلقاء، اما الشاعر فيقول:
لا تقيموا هنا في تفاصيل يوميَ،
اني احرركم من يدي ايها الاصدقاء
فاذهبوا.. أنتم الطلقاء
انه، بصيغة الرفض والتعالي هذه، لا يطلق الآخرين بقدر ما يقترب منهم على طريقته بالابتعاد. فهو مسكون بهم حتى وهو يغادرهم او يوهم نفسه انهم يغادرونه:
ويقول الرصيف خذوا عن لساني الكلام الثقة
فأنا شاهد الزمن المحرقة
ويقول الرصيف: أنا أمكم وأبوكم
يؤول إلي المآل..
وغني عن القول ان هذا الشاعر الموزع هو الرصيف لا سواه، واذا كان اصدقاؤه طلقاء منه فإنهم اليه ينتهون.. في دورة لا تنتهي من الجذب والطرد..
الاتساع الضيق
أقتبس هذا العنوان الفرعي - الاتساع الضيق - من عنوان مسرحية بارعة لصديقي الحمصي فرحان بلبل، والمسرحية هي «العيون ذات الاتساع الضيق»، ولكن ما عدا هذا العنوان المفارق، لا وجه للتشابه، فأنا إزاء شاعر متنمر يسعى الى اقتناص الوجود العريض فيختنق بالتفاصيل المطبقة عليه، واذا اعتاد جيلنا ان يترنم بما نقله ادونيس عن الصوفي عبد الجبار المعتزلي: «كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة»، فإن لشاعرنا محمد لافي ان يجأر بالشكوى قائلاً:
شرفات القصيدة ضيقة،
وأنا واسع كالفضيحة والطائرات تغيرْ
وأنا جالس في الرماد،
أعد الخطى والبلاد،
على حجر الفاكهاني الأخير
وغني عن الاشارة ان الفاكهاني المقصود، هو الحي البيروتي الذي كانت ترابط فيه فصائل المقاومة، ويدعوه بعضهم بالشارع الأخير.. بمعنى انه ساحة الفرصة الأخيرة بعد توالي الحصارات التي اطبقت علينا. والمعادلة جهورية في وضوحها، فالفلسطيني المحاصر - وهو هنا الشاعر - ممتلئ بما سيبوح به، لكن الفرصة المتاحة للقول - اي القصيدة - ضيقة بل تكاد تكون محكمة الإغلاق، واذا كان التعبير لا يصل الا الضيق، فان الذي يعبر هو واسع كالفضيحة والخروج والحرائق والدمار وما الى ذلك من مقاربات تعمق معنى الاغتراب والقهر والخذلان، فالصوت المتفرد طالع من القصيدة يشهد على الحصار ويدعي الانتصار، ولكن هيهات
ليس لي أن أرتب هذي النهايات
هم رتبوها كما رتبوني
وقبل المجاعة قد أكلوني
ولأن الشاعر بضاعته الكلمات فليأمر الكلمات بتزيين المشهد حتى «يرى في المسافة ما لا يراه الصديق»، واذا سمحت لنفسي ان استعير من خارج النص ما جاء في اربعاء الرماد، قصيدة اليوت الشهيرة، فانني اردد مع الشاعر: «دع هذه الكلمات تتحمل تبعة ما حدث، حتى لا يحدث مرة ثانية»، على ان الكلمات لا حيلة لها ازاء جسامة الواقع، فللشاعر ان يغير وان يفجر لكن ثورته تظل حبيسة الورق. بهذا المعنى يتسع الخيال وتضيق الإمكانية، ويستطيع الشاعر ان يعزي نفسه بما لا جدوى منه.
ان هذا جلوسي على آخر السطر،
هذا انا في السفائن،
احذف كل المدائن الا البحارْ
فليتخفف من الواقع - المدائن كما شاء، لكن الحقيقة الأليمة هي ان التحدي ماثل امامه كالبحار. وهو ما يدفع الشاعر الى ان «يردح» للعالم باللغة السوقية المباشرة، فالعمر كلب، والزمن قواد و»كان ما بيني وبين الكفر شعرة»، وبعد التشرد «من عمان الى الشام الى بيروت، ومن بيروت الى الشام الى عمان، الى واق الواق:
اية بومات تزعق للغربة في الأحداق
اية اكفان تحملها كالأثواب على الكفينْ
اي مدى يتسع الآن لخطوك يا ملعون الأبوينْ
وهكذا يعيد انتاج الحطيئة الذي هجا كل الناس وكل شيء فلم يبق له الا ان يهجو نفسه «ملعون الابوين»، وكما تضيق الاماكن فان اللغة سرعان ما تضيق، حتى ليقع الشاعر في زلة تبعث الدهشة في القارئ المستغرب، اذ يظهر التأثر ببعض محمود درويش حتى الاستهجان:
لأمي وردة لم تكتمل في الروح،
لم تذهب بعيداً في احتراقاتي،
وللحزب الرسالة والصراع
ودمي الشعاع
للعائدين الى دمي شجراً وحافلة،
وسارية تبيع ولا تباع
لماذا يا محمد لافي؟ هل يعقل هذا وأنت الشاعر المتميز والصوت الخاص؟ ان الغنائية لتستدرج الشاعر الى حيث لا يدري ولا يريد..ولكنها انحناءة عابرة، ويستمر النشيد..
الخيبة المستدامة
على ان من سجايا محمد لافي، انه لا يرشو المتفائلين السذج بتجميل المشهد. فهو لا يلبس نظارة سوداء، بل ان المشهد هو الاسود
ركضت وراء البنادق والشعر،
لا ابنة عمي تزوجتُ،
لا في المسيرة درباً قطعتُ،
ولا وطناً قد وصلتُ،
وباع دمي رائدي في المزاد
هكذا ينكسر المشروع الموضوعي المحمول على البنادق، والذاتي المرسل الى عدم الفوز بالزواج، والوجودي الذي لا يوصل الى الدرب، والوطني الذي لا يؤدي الى وطن، وفكرة الالتزام المنتهية بالبيع في المزاد.. هل هي شقشقة فاضت الروح بها، ام هو لسان حال جيل كامل سعى وحاول وضرب الجدران بقبضته، فاذا به رهين المزاد..
صحيح ان الشاعر كثيراً ما يختلج بالأمل، لكنه أمل سيزيف الذي ستسقط منه الصخرة فلا يملك الا المحاولة ثانية، وهو واع لهول الفجيعة:
اي معنى لحكمتنا في الترجل من غرفة العمليات،
حيث الفراغ العظيم؟
يقول الفدائي: فرَّخ فينا السديم،
وها نحن نحرث في زمن لسمان القطط
ولكن لعنة الشعر انه لا ينشد السلامة بالاستسلام، ولا مناص من الاستئناف، الى مزيد من الخيبة دوما وبعض الأمل حيناً، فالعمر أبيض والشوارع كلها بيضاء. وانه لمفزع هذا البياض لأنه لا يشير الى جهة، ولكنه لا يستطيع الا ان يخوض فيه، ولا بأس ان تبدأ الحرب او تنتهي، او ان يرتد حلمه عليه، فالمهم المهم انه يحاول - يجرب ويقاتل، وانه، الى ذلك، لا يزال على قيد الحياة:
لم يعد أي شيء مهماً
سوى انني الآن.. حي
وان يكون حياً، يعني انه لن يكف عن الطلب.. ماذا يطلب وماذا يريد؟ ليس هذا هو السؤال، بل السؤال هو: كيف اكون من هو أنا؟
التجوال في الشعر
ان غربة الشاعر الواضحة، وعدم استسلامه للغربة، ومحاولاته الدؤوبة اليائسة.. كلها علامات فارقة ترسله الى القصيدة القصيرة المكثفة. فهو شاعر يدون حياته باللحظة والساعة، ولا وقت لديه لانتظار نهاية القصيدة الطويلة، مع انه صاحب النص الطويل الموسوم بعنوان «قصيدة الخروج»، وهو نص يستهلك احدى وعشرين صفحة بواقع واحد وعشرين سطراً تقريباً للصفحة. لكن حتى هذه القصيدة - ولها اخوات في نتاج الشاعر - تتركب من مقاطع شعرية متلاحقة متراكبة كأنها اغان موزعة وفق هندسة متقنة تجعل منها في النهاية نوعاً مما يسمى قصيدة العمر. مع ان تعبير قصيدة العمر لا ينطبق على شعر محمد لافي إلا اذا اعتبرنا أن مجمل ما قدمه من شعر هو قصيدة عمره الحقيقية. إن النسق الغنائي الذي يتبعه الشاعر، عبر البحور الشعرية الصافية المألوفة، يحمل مفارقة محسوبة لصالحه. فالايقاع متشابه مترادف، لكن النبض الداخلي في هذا الشعر متعدد متجدد، وكما كتب والت وايمان «قصيدة نفسي» فكانت كشف حساب له مع العالم، فان قصيدة محمد لافي - التي هي شعره كله كما اشرنا - هي نشيده المر في تمجيد الحياة والدفاع المستميت عن معناها النبيل، كأنها امرأة الشهيد التي اختزل في صبرها ديمومة الحياة:
تنحاز للدنيا صباحاً،
تطلق الاطفال من يدها الى جرس المدارس،
تنحني للواجب البيتيّ،
من ترتيب مطبخها الى حبل الغسيل..
وهذه المرأة، بما هي أمّ الوجدان الجمعي، تظل أم الفتى الذي:
ترميه القمة للقاع،
ويحتاج لأعمار الخلق جميعا ليعيش
وبأعمار الخلق جميعاً يؤسس الشاعر عمراً عابراً للزمن، على ما في هذا الزمن من جور وقسوة جعلت من الفلسطيني فلسطينياً.. فطوبى لهذا الفلسطيني المتأمل.. المتمرس بالحياة.