أبو عمار والثقافة.....شيء من سجاياه - يحيى يخلف
الحديث عن ياسر عرفات هو حديث عن سيرورة تاريخية للقضية الفلسطينية، على مدى نصف قرن من الزمان، تبدأ بالنكبة وما تلاها من تحولات، مروراً بمرحلة الإرهاصات التي سبقت اندلاع الكفاح المسلح، وانتهاء بقيادته لمنظمة التحرير الفلسطينية، وتحوله من زعيم حركة تحرر وطني، إلى رئيس دولة، وإلى شخصية عالمية لها موقعها ومكانتها في الساحة الدولية.
ولا تستطيع كلمات تقال في ذكرى رحيله، تكتب على عجل، أن تلم بكل تفاصيل هذا التاريخ، او تحيط بحياة حافلة وغنية بالإنجازات ومواكبة التحولات، والتطورات السياسية في الوضع الداخلي والدولي، خاصة أن رياح التغيير في العالم أطاحت بالعديد من الإيدولوجيات يميناً ويساراً، واستطاع ياسر عرفات أن يقود الدفة، ويصارع الموج وأن يتكيّف مع المستجدات، وأن يصمد في معركة الصراع من أجل البقاء، وأن يطوع الفكر السياسي نحو الواقعية السياسية، وأن يقدم أحياناً بعض التنازلات، ولكن دون أن يفرط بالحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني كما أقرتها الشرعية الدولية.
وظل ياسر عرفات قائداً استثنائياً وتاريخياً فيه مزايا وعنده أخطاء، لكنه يمتلك حصانة خاصة، تستمد خصوصيتها من غبار معارك مرحلة الكفاح المسلح ومن انعكاس ظلال الأمجاد التي حققها للقضية الفلسطينية على امتداد الساحة الدولية، ومن وهج الانتفاضة الأولى والثانية وكان الرمز الدائم للانتفاضتين، ومن صموده الأسطوري في المقاطعة عندما تعرض لقصف المدافع والصواريخ والحصار والتهديد دون أن تلين له قناة، ودون أن تنحني قامته الكفاحية والإنسانية.
ولقد عرفت ياسر عرفات عن قرب، وعملت معه، عرفت فيه القائد، وعرفت فيه الإنسان، وكنت على وفاق معه تارة، وعلى خلاف تارة أخرى، وكنت قريباً منه في أغلب الأحيان، وبعيداً فترات قصيرة.وفي ومجمل التجربة، ظل بالنسبة لي قائداً وسيداً ورمزاً، وظل يمتلك أعلى السجايا الإنسانية، وتعامل معي حتى في فترات الخلاف بكرامة واحترام، ولم يحقد عليّ يوماً، فليس رئيس القوم من يحمل الحقد.
وأذكر أنني عندما التقيته لأول مرة بعد خلاف دام سنتين، أيام محنة الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين، والتي انتهت بتوحيد الاتحاد، وإجراء مصالحة عامة في صفوفه في الجزائر عام 1987، أنني عندما التقيته وعانقني وأجلسني في مكتبه لساعات طويلة استقبل خلالها مبعوثين دوليين،وسفراء، وشخصيات وطنية، وبعد أن فرغ من عمله، وبقينا وحدنا، حاولت أن أفتح معه موضوع الخلاف، وأشرح له موقفي، وأستمع منه إلى ملاحظاته.. أذكر أنه ابتسم، وقال لماذا نتحدث عن الماضي، لماذا لا نتحدث عن المستقبل.. وقرأ لي سورة من القرآن الكريم(وأذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم، فأصبحتم بنعمته إخواناً).
ولا أريد هنا، أن استطرد في وصف طريقته في إدارته سلطاته، ونجاحه في حشد القوى السياسية إلى جانبه، ومهارته في إدارة الصراع مع خصومه، وقدرته الفذة على النفاذ إلى قلوب الشخصيات العالمية التي يقابلها، والتي يعقد صداقات معها.
لقد عرفت الرئيس عرفات منذ سبع وثلاثون سنة، قابلته في الأغوار، وفي جبال السلط، وقواعد الفدائيين في شمال الأردن، وقابلته في درعا ومكتب 23بدمشق، وقواعد الفدائيين في سوريا، وعشت معه في الفاكهاني في بيروت، وفي تونس، ورافقته في مهمات عديدة، وعملت معه عن بعد، كما عملت معه عن قرب، وكنت مستشاره الثقافي لسنوات، وسافرت معه عدة مرات، وفي احدى السفرات(عام81)، وكنا على متن طائرة (الأيروفلوت) الروسية التي توجهت إلى موسكو من بيروت، وكان الرئيس أو القائد العام آنذاك أبو عمار يجلس على مقعد في الدرجة الأولى، وبجانبه الخ فاروق القدومي(أبو اللطف)، وكنت اجلس على المقعد المحاذي في الجانب الآخر، يفصلني عن الممر..
ظل أبو عمار يتصفح الجرائد اللبنانية منذ بداية الرحلة، وعندما فرغ من قراءتها، أخذ يتسلى بحل(الكلمات المتقاطعة) التي تشغل ركناً ثانوياً في الجرائد، وكان كلما استعصى عليه الحل يسألني عن الحل المحتمل، أو عن المترادفات، أو عن اسم الفاعل او المصدر ومعنى آخر لكلمة من خمسة حروف..الخ.
وكان أبو اللطف يبتسم، ويقول له: يا ختيار لازم تعتمد على معلوماتك! فيرد عليه أبو عمار بمداعبة طريفة، ونضحك جميعاً..
كان أبو عمار يتصرف كإنسان عادي، كرفيق سفر رائع، ويذكرني ذلك بموقف إنساني آخر، عندما كان على متن الطائرة التي سقطت به في الصحراء الليبية، فقد جاءه قائد الطائرة قبل سقوطها بوقت قصير، عندما أغلقت كل الآفاق، وحجبت العاصفة الرملية الرؤية تماماً، ولم يعد ثمة من خيار سوى الهبوط الاضطراري.. جاءه العقيد طيار محمد درويش إلى حيث يجلس في الطائرة، وخاطبه: سيدي الرئيس.. لم نستطع رؤية المدرج والعاصفة تحجب كل شيء.. ماذا نعمل؟؟
فأجابه الرئيس في تلك اللحظة: يا بني أنت الان القائد في هذه الطائرة، وأنا قائدك على الأرض.. تصرف وخذ القرار الذي يمليه عليك واجبك كقائد.
كان يحب مساعديه المميزين القادرين على اتخاذ القرار، وكان يحب المثقفين المميزين الذين يرفعون اسم فلسطين عالياً، وكان فخوراً بمحمود درويش، ومعين بسيسو، وسميح القاسم، واسماعيل شموطوغيرهم من الأدباء والشعراء والروائيين والفنانين.
لم يكن أبو عمار قارئاً للأدب، فاهتماماته سياسية بالدرجة الأولى، لكنه يدرك أهمية الأدب والفنون في الحياة الفلسطينية، فكان يقول:الثورة ليست بندقية ثائر فحسب، بل هي أيضاً قلم أديب، وخيال شاعر، وريشة فنان.
وكان اهتمامه بالإعلام يطغى دائماً على اهتماماته الأدبية أو الفنية، وهو كأي زعيم آخر يدرك أنه يستطيع أن يوظف الإعلام أكثر من إمكانية توظيف الأدب والأدباء.
لذا، عندما كنت أميناً عاماً للاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين، اقترحت على إخواني في الأمانة العامة إقامة ملتقى شعري فلسطيني عربي، وبعد ان تمت الموافقة، بدأت أبحث عن تمويل، وطرقت باب القائد العام أبو عمار، وحاولت أن أشرح له أهمية الفكرة، وربطتها باحتفالات فلسطين بذكرى انطلاقة الثورة، فأصبحت الفكرة ثقافية إعلامية، مما جعله يوافق على صرف تذاكر السفر للمشاركين، وتغطية جزء من نفقات الإقامة لهم.
أطلقنا ذلك الحدث(ملتقى قلعة الشقيف الشعري)، وقد شارك فيه أكبر الشعراء الفلسطينيين والعرب، من محمود درويش، ومعين بسيسو، وأحمد دحبور، ومريد البرغوثي إلى أمل دنقل، وأدونيس، وممدوح عدوان، وشوقي بزيع، وسعدي يوسف، ونزيه أبو عفش، وسليمان العيسى. وغيرهم.
وكان واحداً من أهم الملتقيات الشعرية العربية.
وعشية افتتاح الملتقى، استدعاني القائد العام ياسر عرفات إلى مكتبه، فذهبت على الفور، ووجدت عنده وفداً من الحركة الوطنية المصرية. ومن بين الحضور على ما أذكر، كان لطفي الخولي والبابا شنودة.. حدث شيء من الوجوم عندما دخلت، وبادرني القائد العام قائلا:هل دعوت شاعراً مؤيداً لكامب ديفيد؟؟ نفيت على الفور، فقد كان الموقف الوطني الفلسطيني والعربي آنذاك، مناهضاً لسياسات الرئيس السادات واتفاقيات كامب ديفيد المصرية الإسرائيلية.
التفت القائد العام إلى لطفي الخولي وقال له: تكلم يا لطفي!
شعرت أن لطفي الخولي قد أصيب بشيء من الحرج، فقال بارتباك:أن الشاعر امل دنقل مصنف على أنه من جماعة كامب ديفيد.
دافعت بالطبع عن أمل دنقل، وأثناء الحوار فهمت أن السيدة جيهان السادات كانت قد توسطت لمعالجة أمل الذي كان مصاباً بمرض السرطان، ويبدو أن القائد العام قد تفهم المسألة، ولم يشأ أن يحرج ضيوفه، فغيّر الموضوع، وأدار الحوار مع ضيوفه حول قضايا أخرى.
وفي مساء اليوم التالي، كان الافتتاح الكبير للملتقى في قاعة اليونسكو في بيروت.وقد حضر القائد العام وضيوفه الافتتاح، وتعمدت ان أقدم في الافتتاح الشاعر أمل دنقل.
لم أنقل لأمل دنقل ما حدث وما قيل عنه من تحفظات، لقد كان في بيروت مفعماً بحب الحياة على الرغم من مرضه، فوقف على المنصة بكبريائه وهيئته الصعيدية المصرية الأصيلة، وبصوته الواثق ألقى قصيدته (لا تصالح).. وقد هزت القصيدة الحضور الذين قاطعوه بالتصفيق، وكنت أجلس إلى جانب أبو عمار، فالتفت إلىّ وقال: كلام لطفي غير صحيح.
وقد كرمه القائد العام في اليوم التالي، وأصدر أمراً بتغطية نفقات علاجه، ومن اللمسات الأخرى التي أذكرها، رعايته للكاتب السوداني الرائع جيلي عبد الرحمن، فقد مرض جيلي وأصيب بالفشل الكلوي، وفقد وظيفته كأستاذ جامعي، وفقد تقاعدع لأن النظام في بلده السودان، أوقف صرف راتبه التقاعدي بسبب انتمائه إلى الحزب الشيوعي السوداني... وجد جيلي عبد الرحمن نفسه ضائعاً، مريضاً، فقيراً، لا يملك ثمن وجبة الطعام أو ثمن الدواء.. قابل جيلي عبد الرحمن الأخ عباس زكي عضو اللجنة المركزية لحركة فتح، فأرسل لي رسالة معه يشرح فيها أوضاعه.
رفعت طلبه للرئيس ياسر عرفات بصرف راتب شهري لصديقنا الشاعر، فأصدر الرئيس قراراً بالموافقة على صرف الراتب الشهري، وزاد من عنده أمراً إلى الهلال الأحمر الفلسطيني بشراء جهاز تنقية الكلى، لكي يتم علاجه في منزله، ولا يتحمل عناء ومشقة الخروج إلى المستشفيات.
لم تكن تلك اللمسات الإنسانية غريبة عن سلوك ياسر عرفات، فلقد كان بابه مفتوحاً أمام جميع المثقفين الذين تغلق في وجوههم الأبواب، ومن ذلك أنه كان قد أصدر قراراً بتوظيف جميع المثقفين العراقيين الذين تعرضوا للبطش على أيدي النظام العراقي، والذين وصلوا إلى بيروت، وحمايتهم واستيعابهم في مؤسسات منظمة التحرير.
ومن أبرز هؤلاء الذين عاشوا معنا، تحت سقف الثورة الفلسطينية، سعدي يوسف، وفخري كريم، ولميعة عباس عمارة، وخالد العرافي، والكاتب الأردني مؤنس الرزاز، وعشرات وغيرهم.
ومن اللفتات الكريمة التي أذكرها تلك التي حدثت يوم أن أقمنا احتفالاً ثقافياً تكريماً للشهداء عام 1980 حضره أبو عمار، خرجنا مع القائد العام لوداعه، فالتفت حوله وسأل: أين فخري كريم؟
كان فخري كريم قد ابتعد حتى لا يظهر في الصورة مع أبو عمار، تقديراً منه لموقف أبو عمار، وحتى يبعد عن الحرج، خاصة وأن علاقة منظمة التحرير آنذاك كانت على وفاق مع النظام العراقي. ولم يشأ فخري كريم أن يسبب لأبي عمار متاعب جديدة مع العراق.
وعندما عرف أبو عمار بالأمر، ظل واقفاً إلى أن حضر فخري كريم، وطلب من المصورين التقاط الصور، وأوعز بنشرها، وطلب مني ومن محمود درويش أن نصطحب فخري كريم، ونلتحق به في مكتبه.
مثل هذه اللفتات الكريمة، كانت تقابل بالحب والوفاء من قبل المثقفين، وخاصة ضيوف الثورة الفلسطينية الذين وجدوا الدفء والتقدير والأمن والأمان، وكانوا في صدارة المشهد الثقافي الفلسطيني واللبناني. ومن بين هؤلاء كانت الشاعرة لميعة عباس عمارة، المرأة الجميلة والأنيقة، وصاحبة القامة الممشوقة والعالية.
لم تكن لميعة تعمل بالسياسة، كانت تقول: أما السياسة فإنني أرقبها ولا أقربها. ولا أدري أن كانت هناك أسباب سياسية جعلتها تغادر بغداد إلى بيروت، لكنها كانت معنا، وبيننا.
كانت تزورني في مكتبي وتقول لي: أرجو أن تدعوني على أي لقاء يكون به القائد ياسر عرفات..
كانت لميعة تحب أبو عمار، وتشيد به. وذات يوم كتبت له قصيدة مطولة لم تنشرها، ولكنها كانت تقرؤها في الصالونات الأدبية وفي سهرات الأصدقاء.
كما أنها أرسلت لي نسخة عنها، ويبدو أن بعض السياسيين اللبنانيين قد ذكروا للقائد أبو عمار أخبار تلك القصيدة، وما تلقاه من اهتمام في الأوساط الأدبية، فطلب مني ذات ليلة ومن محمود درويش، الحضور إلى مكتبه، وقد نبهني مدير مكتب القائد العام د. رمزي خوري إلى أن القائد العام سيسأل عن القصيدة، فأحضرتها معي.
كان أبو عمار ينتظر سماع القصيدة، وبحضور محمود درويش قرأتها له. ومن أبياتها التي ما زلت أحفظها:
صنو الملوك ويطلبون رضاه يختال من زهد على دنياه
لا بيت، سرجٌ داره، ومروره حلم، وبغتة ضيغم مسراه
كل الشعوب توحدت في شعبه وحدوده، أني تشير يداه
يدعونه الختيار ذاك لحكمة وأنا كما الطفل النقي أراه
وتختتم القصيدة بالبيت التالي:
لولا جلالة قدره، ولكونه رمز الفداء، لخلتني أهواه
فانفرجت أسارير أبو عمار، وابتسم، وقال مشيراً إلى البيت الأخير: هذا هو بيت القصيد.
كان في لحظات الصفاء، وبعيداً عن الاجتماعات الرسمية، والزيارات الميدانية، يتصرف كإنسان بسيط وعادي، يحادثنا كأصدقاء، ويستمع إلى آرائنا وأفكارنا، ويستمع حتى إلى آخر النكات والطرف، وكان يتابع أخبار الأدباء والكتاب والفنانين وأخبار الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين، وحتى آخر أخبار الشعراء الذين أطلقوا على أنفسهم "شعراء الرصيف"، وأصدروا مجلة "الرصيف" التي كان ينشر فيها الشعر الناقد، المتمرد على القوافي والمألوف، ولا يأبه بالوقاؤ، بل وينزع إلى العبث
كان شعراء الرصيف يرفعون شعار التمرد على المؤسسة وعلى اتحاد الكتاب، ولكنهم كانوا يحبون القائد العام. وفي لقاء جمعهم به وكنت حاضراً، شكوا له من إهمال الاتحاد لهم وعدم إشراكهم في ملتقى قلعة شقيف الشعري. فطلب مني أن أقيم لهم أمسية في قاعة عبد الناصر في جامعة بيروت العربية. وقد أقمنا الأمسية بالفعل وحضرها القائد العام، وشارك بها نخبة منهم، ومن بين المشاركين كان علي فودة، ورسمي أبو علي، وآخرون، وألقوا أمام أبو عمار قصائدهم العجيبة، القصيدة المائية، وقصائد تحمل عناوين طريفة، وكان أبو عمار يبتسم، بل ويضحك ويصفق لهم.
وأحدهم قرأ قصيدة عن رأسه المحشو بالفاليوم، وكيف أنه زهق من رأسه، فخلعه ووضعه على الطاولة.
وعند ذلك صفق أبو عمار ضاحكاً وقال له: أعد..أعد..
لقد اعتبر أبو عمار تلك الظاهرة المتمردة على الوقار ظاهرة إنسانية، ورأى فيها تياراً يحاول أن يصنع الحداثة على طريقته الخاصة، وكان يريد من حضوره الأمسية أن يؤكد لهم اعترافه بظاهرتهم.
ذلك هو وجه من وجوه ياسر عرفات الإيجابية، لكنه كزعيم وقائد لهم لم يكن يتسامح مع أولئك الذين يهددون سلطاته، حتى لو كان بعضهم يحتذي بحذاء الثقافة والفكر.
والواقع أن هناك عشرات الحكايا والقصص والتفاصيل حول سجايا أبو عمار الإنسانية، وقد حرصت على التوقف عند بعضها، آملاً أن يأتي الوقت لكتابة المزيد باعتبار هذه التفاصيل تمثل إضاءات على شخصية رجل ملأ الدنيا، وشغل الناس.
ولا بد قبل أن أنهي حديثي أن أتوقف عند مرحلة هامة من مراحل القضية الفلسطينية وأعني مرحلة أوسلو، ففي البداية كان اتفاق أوسلو يمثل صدمة لأنه جاء انحناءة مفاجئة في مسار العمل الفلسطيني، وأقول: لقد صدمتنا هذه الواقعية السياسية وفاجأتنا، وعبر بعضنا عن مواقف معارضة لهذا الاتفاق، وكنت من بين الذين عارضوا، وكتبت مقالة ضد أوسلو نشرت في صحيفة "الحياة اللندنية".
بعد نشر المقالة استدعاني الرئيس عرفات إلى مكتبه، وناقشني، قال لي: إذا كان عندك عشر ملاحظات على الاتفاق فإن لديّ مائة ملاحظة، وأعرف أنني جئت لكم بحل أعرف أنكم تستطيعون أن تحولوه بالممارسة والقراءة الفلسطينية إلى دولة مستقلة.. وقال: أن من لا يكون على الخارطة الآن، لن يكون على الخارطة في القرن القادم (كان ذلك عام1993).. وقال: لست الزعيم الذي يضيع فرصة، وهناك قضايا عديدة عادلة لا تجد حلاً، والعالم يتعايش مع عدم حلها، لكننا نريد أن نلزم المجتمع الدولي بالضغط من أجل حل عادل للقضية الفلسطينية.
وفي نهاية حديثه سألني أن كنت سأعود معه إلى أرض الوطن على الرغم من موقفي من الاتفاق، فأكدت له أنني أول من يعود إلى أرض الوطن، والعودة إلى أرض الوطن كان حلماً من أحلامي.
وبالفعل، عدت إلى أرض الوطن قبل أن يعود الرئيس عرفات نفسه. كنت من أوائل المدنيين الذين دخلوا بعد وصول قوات الأمن الوطني إلى قطاع غزة، وإلى مدينة أريحا. وكان الرئيس عرفات قد كلفني مع بعض الأخوة بالدخول لترتيب بعض الأمور قبل وصوله.
ولقد حفلت السنوات العشر التي رافقنا من خلالها الرئيس عرفات في تجربة السلطة الوطنية الفلسطينية، بالوقائع والأحداث، والصراع، والانتفاضة وإعادة الاحتلال، والحصار، لكن الضغط، العسكري الإسرائيلي لم يتحول إلى هزائم سياسية بسبب إدارة الرئيس عرفات للصراع، وتمسكه بالثوابت الوطنية، وصموده أمام الضغط السياسي في محادثات كامب ديفيد، والضغط العسكري على المقاطعة.
ملاحظة: نشرت هذه المادة في مجلة "الكرمل" ـ العدد 82 رام الله 2005.
ولا تستطيع كلمات تقال في ذكرى رحيله، تكتب على عجل، أن تلم بكل تفاصيل هذا التاريخ، او تحيط بحياة حافلة وغنية بالإنجازات ومواكبة التحولات، والتطورات السياسية في الوضع الداخلي والدولي، خاصة أن رياح التغيير في العالم أطاحت بالعديد من الإيدولوجيات يميناً ويساراً، واستطاع ياسر عرفات أن يقود الدفة، ويصارع الموج وأن يتكيّف مع المستجدات، وأن يصمد في معركة الصراع من أجل البقاء، وأن يطوع الفكر السياسي نحو الواقعية السياسية، وأن يقدم أحياناً بعض التنازلات، ولكن دون أن يفرط بالحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني كما أقرتها الشرعية الدولية.
وظل ياسر عرفات قائداً استثنائياً وتاريخياً فيه مزايا وعنده أخطاء، لكنه يمتلك حصانة خاصة، تستمد خصوصيتها من غبار معارك مرحلة الكفاح المسلح ومن انعكاس ظلال الأمجاد التي حققها للقضية الفلسطينية على امتداد الساحة الدولية، ومن وهج الانتفاضة الأولى والثانية وكان الرمز الدائم للانتفاضتين، ومن صموده الأسطوري في المقاطعة عندما تعرض لقصف المدافع والصواريخ والحصار والتهديد دون أن تلين له قناة، ودون أن تنحني قامته الكفاحية والإنسانية.
ولقد عرفت ياسر عرفات عن قرب، وعملت معه، عرفت فيه القائد، وعرفت فيه الإنسان، وكنت على وفاق معه تارة، وعلى خلاف تارة أخرى، وكنت قريباً منه في أغلب الأحيان، وبعيداً فترات قصيرة.وفي ومجمل التجربة، ظل بالنسبة لي قائداً وسيداً ورمزاً، وظل يمتلك أعلى السجايا الإنسانية، وتعامل معي حتى في فترات الخلاف بكرامة واحترام، ولم يحقد عليّ يوماً، فليس رئيس القوم من يحمل الحقد.
وأذكر أنني عندما التقيته لأول مرة بعد خلاف دام سنتين، أيام محنة الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين، والتي انتهت بتوحيد الاتحاد، وإجراء مصالحة عامة في صفوفه في الجزائر عام 1987، أنني عندما التقيته وعانقني وأجلسني في مكتبه لساعات طويلة استقبل خلالها مبعوثين دوليين،وسفراء، وشخصيات وطنية، وبعد أن فرغ من عمله، وبقينا وحدنا، حاولت أن أفتح معه موضوع الخلاف، وأشرح له موقفي، وأستمع منه إلى ملاحظاته.. أذكر أنه ابتسم، وقال لماذا نتحدث عن الماضي، لماذا لا نتحدث عن المستقبل.. وقرأ لي سورة من القرآن الكريم(وأذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم، فأصبحتم بنعمته إخواناً).
ولا أريد هنا، أن استطرد في وصف طريقته في إدارته سلطاته، ونجاحه في حشد القوى السياسية إلى جانبه، ومهارته في إدارة الصراع مع خصومه، وقدرته الفذة على النفاذ إلى قلوب الشخصيات العالمية التي يقابلها، والتي يعقد صداقات معها.
لقد عرفت الرئيس عرفات منذ سبع وثلاثون سنة، قابلته في الأغوار، وفي جبال السلط، وقواعد الفدائيين في شمال الأردن، وقابلته في درعا ومكتب 23بدمشق، وقواعد الفدائيين في سوريا، وعشت معه في الفاكهاني في بيروت، وفي تونس، ورافقته في مهمات عديدة، وعملت معه عن بعد، كما عملت معه عن قرب، وكنت مستشاره الثقافي لسنوات، وسافرت معه عدة مرات، وفي احدى السفرات(عام81)، وكنا على متن طائرة (الأيروفلوت) الروسية التي توجهت إلى موسكو من بيروت، وكان الرئيس أو القائد العام آنذاك أبو عمار يجلس على مقعد في الدرجة الأولى، وبجانبه الخ فاروق القدومي(أبو اللطف)، وكنت اجلس على المقعد المحاذي في الجانب الآخر، يفصلني عن الممر..
ظل أبو عمار يتصفح الجرائد اللبنانية منذ بداية الرحلة، وعندما فرغ من قراءتها، أخذ يتسلى بحل(الكلمات المتقاطعة) التي تشغل ركناً ثانوياً في الجرائد، وكان كلما استعصى عليه الحل يسألني عن الحل المحتمل، أو عن المترادفات، أو عن اسم الفاعل او المصدر ومعنى آخر لكلمة من خمسة حروف..الخ.
وكان أبو اللطف يبتسم، ويقول له: يا ختيار لازم تعتمد على معلوماتك! فيرد عليه أبو عمار بمداعبة طريفة، ونضحك جميعاً..
كان أبو عمار يتصرف كإنسان عادي، كرفيق سفر رائع، ويذكرني ذلك بموقف إنساني آخر، عندما كان على متن الطائرة التي سقطت به في الصحراء الليبية، فقد جاءه قائد الطائرة قبل سقوطها بوقت قصير، عندما أغلقت كل الآفاق، وحجبت العاصفة الرملية الرؤية تماماً، ولم يعد ثمة من خيار سوى الهبوط الاضطراري.. جاءه العقيد طيار محمد درويش إلى حيث يجلس في الطائرة، وخاطبه: سيدي الرئيس.. لم نستطع رؤية المدرج والعاصفة تحجب كل شيء.. ماذا نعمل؟؟
فأجابه الرئيس في تلك اللحظة: يا بني أنت الان القائد في هذه الطائرة، وأنا قائدك على الأرض.. تصرف وخذ القرار الذي يمليه عليك واجبك كقائد.
كان يحب مساعديه المميزين القادرين على اتخاذ القرار، وكان يحب المثقفين المميزين الذين يرفعون اسم فلسطين عالياً، وكان فخوراً بمحمود درويش، ومعين بسيسو، وسميح القاسم، واسماعيل شموطوغيرهم من الأدباء والشعراء والروائيين والفنانين.
لم يكن أبو عمار قارئاً للأدب، فاهتماماته سياسية بالدرجة الأولى، لكنه يدرك أهمية الأدب والفنون في الحياة الفلسطينية، فكان يقول:الثورة ليست بندقية ثائر فحسب، بل هي أيضاً قلم أديب، وخيال شاعر، وريشة فنان.
وكان اهتمامه بالإعلام يطغى دائماً على اهتماماته الأدبية أو الفنية، وهو كأي زعيم آخر يدرك أنه يستطيع أن يوظف الإعلام أكثر من إمكانية توظيف الأدب والأدباء.
لذا، عندما كنت أميناً عاماً للاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين، اقترحت على إخواني في الأمانة العامة إقامة ملتقى شعري فلسطيني عربي، وبعد ان تمت الموافقة، بدأت أبحث عن تمويل، وطرقت باب القائد العام أبو عمار، وحاولت أن أشرح له أهمية الفكرة، وربطتها باحتفالات فلسطين بذكرى انطلاقة الثورة، فأصبحت الفكرة ثقافية إعلامية، مما جعله يوافق على صرف تذاكر السفر للمشاركين، وتغطية جزء من نفقات الإقامة لهم.
أطلقنا ذلك الحدث(ملتقى قلعة الشقيف الشعري)، وقد شارك فيه أكبر الشعراء الفلسطينيين والعرب، من محمود درويش، ومعين بسيسو، وأحمد دحبور، ومريد البرغوثي إلى أمل دنقل، وأدونيس، وممدوح عدوان، وشوقي بزيع، وسعدي يوسف، ونزيه أبو عفش، وسليمان العيسى. وغيرهم.
وكان واحداً من أهم الملتقيات الشعرية العربية.
وعشية افتتاح الملتقى، استدعاني القائد العام ياسر عرفات إلى مكتبه، فذهبت على الفور، ووجدت عنده وفداً من الحركة الوطنية المصرية. ومن بين الحضور على ما أذكر، كان لطفي الخولي والبابا شنودة.. حدث شيء من الوجوم عندما دخلت، وبادرني القائد العام قائلا:هل دعوت شاعراً مؤيداً لكامب ديفيد؟؟ نفيت على الفور، فقد كان الموقف الوطني الفلسطيني والعربي آنذاك، مناهضاً لسياسات الرئيس السادات واتفاقيات كامب ديفيد المصرية الإسرائيلية.
التفت القائد العام إلى لطفي الخولي وقال له: تكلم يا لطفي!
شعرت أن لطفي الخولي قد أصيب بشيء من الحرج، فقال بارتباك:أن الشاعر امل دنقل مصنف على أنه من جماعة كامب ديفيد.
دافعت بالطبع عن أمل دنقل، وأثناء الحوار فهمت أن السيدة جيهان السادات كانت قد توسطت لمعالجة أمل الذي كان مصاباً بمرض السرطان، ويبدو أن القائد العام قد تفهم المسألة، ولم يشأ أن يحرج ضيوفه، فغيّر الموضوع، وأدار الحوار مع ضيوفه حول قضايا أخرى.
وفي مساء اليوم التالي، كان الافتتاح الكبير للملتقى في قاعة اليونسكو في بيروت.وقد حضر القائد العام وضيوفه الافتتاح، وتعمدت ان أقدم في الافتتاح الشاعر أمل دنقل.
لم أنقل لأمل دنقل ما حدث وما قيل عنه من تحفظات، لقد كان في بيروت مفعماً بحب الحياة على الرغم من مرضه، فوقف على المنصة بكبريائه وهيئته الصعيدية المصرية الأصيلة، وبصوته الواثق ألقى قصيدته (لا تصالح).. وقد هزت القصيدة الحضور الذين قاطعوه بالتصفيق، وكنت أجلس إلى جانب أبو عمار، فالتفت إلىّ وقال: كلام لطفي غير صحيح.
وقد كرمه القائد العام في اليوم التالي، وأصدر أمراً بتغطية نفقات علاجه، ومن اللمسات الأخرى التي أذكرها، رعايته للكاتب السوداني الرائع جيلي عبد الرحمن، فقد مرض جيلي وأصيب بالفشل الكلوي، وفقد وظيفته كأستاذ جامعي، وفقد تقاعدع لأن النظام في بلده السودان، أوقف صرف راتبه التقاعدي بسبب انتمائه إلى الحزب الشيوعي السوداني... وجد جيلي عبد الرحمن نفسه ضائعاً، مريضاً، فقيراً، لا يملك ثمن وجبة الطعام أو ثمن الدواء.. قابل جيلي عبد الرحمن الأخ عباس زكي عضو اللجنة المركزية لحركة فتح، فأرسل لي رسالة معه يشرح فيها أوضاعه.
رفعت طلبه للرئيس ياسر عرفات بصرف راتب شهري لصديقنا الشاعر، فأصدر الرئيس قراراً بالموافقة على صرف الراتب الشهري، وزاد من عنده أمراً إلى الهلال الأحمر الفلسطيني بشراء جهاز تنقية الكلى، لكي يتم علاجه في منزله، ولا يتحمل عناء ومشقة الخروج إلى المستشفيات.
لم تكن تلك اللمسات الإنسانية غريبة عن سلوك ياسر عرفات، فلقد كان بابه مفتوحاً أمام جميع المثقفين الذين تغلق في وجوههم الأبواب، ومن ذلك أنه كان قد أصدر قراراً بتوظيف جميع المثقفين العراقيين الذين تعرضوا للبطش على أيدي النظام العراقي، والذين وصلوا إلى بيروت، وحمايتهم واستيعابهم في مؤسسات منظمة التحرير.
ومن أبرز هؤلاء الذين عاشوا معنا، تحت سقف الثورة الفلسطينية، سعدي يوسف، وفخري كريم، ولميعة عباس عمارة، وخالد العرافي، والكاتب الأردني مؤنس الرزاز، وعشرات وغيرهم.
ومن اللفتات الكريمة التي أذكرها تلك التي حدثت يوم أن أقمنا احتفالاً ثقافياً تكريماً للشهداء عام 1980 حضره أبو عمار، خرجنا مع القائد العام لوداعه، فالتفت حوله وسأل: أين فخري كريم؟
كان فخري كريم قد ابتعد حتى لا يظهر في الصورة مع أبو عمار، تقديراً منه لموقف أبو عمار، وحتى يبعد عن الحرج، خاصة وأن علاقة منظمة التحرير آنذاك كانت على وفاق مع النظام العراقي. ولم يشأ فخري كريم أن يسبب لأبي عمار متاعب جديدة مع العراق.
وعندما عرف أبو عمار بالأمر، ظل واقفاً إلى أن حضر فخري كريم، وطلب من المصورين التقاط الصور، وأوعز بنشرها، وطلب مني ومن محمود درويش أن نصطحب فخري كريم، ونلتحق به في مكتبه.
مثل هذه اللفتات الكريمة، كانت تقابل بالحب والوفاء من قبل المثقفين، وخاصة ضيوف الثورة الفلسطينية الذين وجدوا الدفء والتقدير والأمن والأمان، وكانوا في صدارة المشهد الثقافي الفلسطيني واللبناني. ومن بين هؤلاء كانت الشاعرة لميعة عباس عمارة، المرأة الجميلة والأنيقة، وصاحبة القامة الممشوقة والعالية.
لم تكن لميعة تعمل بالسياسة، كانت تقول: أما السياسة فإنني أرقبها ولا أقربها. ولا أدري أن كانت هناك أسباب سياسية جعلتها تغادر بغداد إلى بيروت، لكنها كانت معنا، وبيننا.
كانت تزورني في مكتبي وتقول لي: أرجو أن تدعوني على أي لقاء يكون به القائد ياسر عرفات..
كانت لميعة تحب أبو عمار، وتشيد به. وذات يوم كتبت له قصيدة مطولة لم تنشرها، ولكنها كانت تقرؤها في الصالونات الأدبية وفي سهرات الأصدقاء.
كما أنها أرسلت لي نسخة عنها، ويبدو أن بعض السياسيين اللبنانيين قد ذكروا للقائد أبو عمار أخبار تلك القصيدة، وما تلقاه من اهتمام في الأوساط الأدبية، فطلب مني ذات ليلة ومن محمود درويش، الحضور إلى مكتبه، وقد نبهني مدير مكتب القائد العام د. رمزي خوري إلى أن القائد العام سيسأل عن القصيدة، فأحضرتها معي.
كان أبو عمار ينتظر سماع القصيدة، وبحضور محمود درويش قرأتها له. ومن أبياتها التي ما زلت أحفظها:
صنو الملوك ويطلبون رضاه يختال من زهد على دنياه
لا بيت، سرجٌ داره، ومروره حلم، وبغتة ضيغم مسراه
كل الشعوب توحدت في شعبه وحدوده، أني تشير يداه
يدعونه الختيار ذاك لحكمة وأنا كما الطفل النقي أراه
وتختتم القصيدة بالبيت التالي:
لولا جلالة قدره، ولكونه رمز الفداء، لخلتني أهواه
فانفرجت أسارير أبو عمار، وابتسم، وقال مشيراً إلى البيت الأخير: هذا هو بيت القصيد.
كان في لحظات الصفاء، وبعيداً عن الاجتماعات الرسمية، والزيارات الميدانية، يتصرف كإنسان بسيط وعادي، يحادثنا كأصدقاء، ويستمع إلى آرائنا وأفكارنا، ويستمع حتى إلى آخر النكات والطرف، وكان يتابع أخبار الأدباء والكتاب والفنانين وأخبار الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين، وحتى آخر أخبار الشعراء الذين أطلقوا على أنفسهم "شعراء الرصيف"، وأصدروا مجلة "الرصيف" التي كان ينشر فيها الشعر الناقد، المتمرد على القوافي والمألوف، ولا يأبه بالوقاؤ، بل وينزع إلى العبث
كان شعراء الرصيف يرفعون شعار التمرد على المؤسسة وعلى اتحاد الكتاب، ولكنهم كانوا يحبون القائد العام. وفي لقاء جمعهم به وكنت حاضراً، شكوا له من إهمال الاتحاد لهم وعدم إشراكهم في ملتقى قلعة شقيف الشعري. فطلب مني أن أقيم لهم أمسية في قاعة عبد الناصر في جامعة بيروت العربية. وقد أقمنا الأمسية بالفعل وحضرها القائد العام، وشارك بها نخبة منهم، ومن بين المشاركين كان علي فودة، ورسمي أبو علي، وآخرون، وألقوا أمام أبو عمار قصائدهم العجيبة، القصيدة المائية، وقصائد تحمل عناوين طريفة، وكان أبو عمار يبتسم، بل ويضحك ويصفق لهم.
وأحدهم قرأ قصيدة عن رأسه المحشو بالفاليوم، وكيف أنه زهق من رأسه، فخلعه ووضعه على الطاولة.
وعند ذلك صفق أبو عمار ضاحكاً وقال له: أعد..أعد..
لقد اعتبر أبو عمار تلك الظاهرة المتمردة على الوقار ظاهرة إنسانية، ورأى فيها تياراً يحاول أن يصنع الحداثة على طريقته الخاصة، وكان يريد من حضوره الأمسية أن يؤكد لهم اعترافه بظاهرتهم.
ذلك هو وجه من وجوه ياسر عرفات الإيجابية، لكنه كزعيم وقائد لهم لم يكن يتسامح مع أولئك الذين يهددون سلطاته، حتى لو كان بعضهم يحتذي بحذاء الثقافة والفكر.
والواقع أن هناك عشرات الحكايا والقصص والتفاصيل حول سجايا أبو عمار الإنسانية، وقد حرصت على التوقف عند بعضها، آملاً أن يأتي الوقت لكتابة المزيد باعتبار هذه التفاصيل تمثل إضاءات على شخصية رجل ملأ الدنيا، وشغل الناس.
ولا بد قبل أن أنهي حديثي أن أتوقف عند مرحلة هامة من مراحل القضية الفلسطينية وأعني مرحلة أوسلو، ففي البداية كان اتفاق أوسلو يمثل صدمة لأنه جاء انحناءة مفاجئة في مسار العمل الفلسطيني، وأقول: لقد صدمتنا هذه الواقعية السياسية وفاجأتنا، وعبر بعضنا عن مواقف معارضة لهذا الاتفاق، وكنت من بين الذين عارضوا، وكتبت مقالة ضد أوسلو نشرت في صحيفة "الحياة اللندنية".
بعد نشر المقالة استدعاني الرئيس عرفات إلى مكتبه، وناقشني، قال لي: إذا كان عندك عشر ملاحظات على الاتفاق فإن لديّ مائة ملاحظة، وأعرف أنني جئت لكم بحل أعرف أنكم تستطيعون أن تحولوه بالممارسة والقراءة الفلسطينية إلى دولة مستقلة.. وقال: أن من لا يكون على الخارطة الآن، لن يكون على الخارطة في القرن القادم (كان ذلك عام1993).. وقال: لست الزعيم الذي يضيع فرصة، وهناك قضايا عديدة عادلة لا تجد حلاً، والعالم يتعايش مع عدم حلها، لكننا نريد أن نلزم المجتمع الدولي بالضغط من أجل حل عادل للقضية الفلسطينية.
وفي نهاية حديثه سألني أن كنت سأعود معه إلى أرض الوطن على الرغم من موقفي من الاتفاق، فأكدت له أنني أول من يعود إلى أرض الوطن، والعودة إلى أرض الوطن كان حلماً من أحلامي.
وبالفعل، عدت إلى أرض الوطن قبل أن يعود الرئيس عرفات نفسه. كنت من أوائل المدنيين الذين دخلوا بعد وصول قوات الأمن الوطني إلى قطاع غزة، وإلى مدينة أريحا. وكان الرئيس عرفات قد كلفني مع بعض الأخوة بالدخول لترتيب بعض الأمور قبل وصوله.
ولقد حفلت السنوات العشر التي رافقنا من خلالها الرئيس عرفات في تجربة السلطة الوطنية الفلسطينية، بالوقائع والأحداث، والصراع، والانتفاضة وإعادة الاحتلال، والحصار، لكن الضغط، العسكري الإسرائيلي لم يتحول إلى هزائم سياسية بسبب إدارة الرئيس عرفات للصراع، وتمسكه بالثوابت الوطنية، وصموده أمام الضغط السياسي في محادثات كامب ديفيد، والضغط العسكري على المقاطعة.
ملاحظة: نشرت هذه المادة في مجلة "الكرمل" ـ العدد 82 رام الله 2005.