صناعة الإعلام الملتزم الممكن والمرغوب 4/1- بكر ابو بكر
هناك مسيرة طويلة يجب أن تقطعها وصولا للإعلام المطلوب، وهذا الإعلام المطلوب سواء أسميناه حرا أو جادا أو ملتزما أو مسؤولا يحتاج لبلوغه طريقا وسبيلا أو سبلا نرتادها ونحن واعون مؤمنون مؤهلون للسير في هذا الطريق مع حسن إدراك مواضع أقدامنا.
فالإعلام اليوم بكافة أشكاله ومنها الإعلام الاتصالي المباشر، والإعلام الفضائي، والإعلام الاجتماعي أصبح من أهم وسائل التحكم أو التأثير بالعقول من حيث الرغبات والآراء والتفضيلات والاتجاهات سواء الاقتصادية أو الاجتماعية أو الاستهلاكية أو السياسية أو غيرها.
من خلال وسائل الإعلام الاتصالي المباشر والمرتبط بالندوات الجماهيرية والمهرجانات واللقاءات والمؤتمرات يستطيع الضليع لسانا وتعبيرا، الذي يحتفظ بهالة ما (كاريزما) دينية أو فكرية أو نضالية أو شعبية صنعت أو اكتسبها بعرقه ودأبه، أو جاءته من حيث قدّمه تنظيمه وفتح أمامه الأبواب على مساحات اللعب يستطيع أن يرشق الجماهير بسليم الكلم أو العفن منه دون وجل من رفض أو معارضة.
ويستطيع عبر التربع على عرش الغرفة (الأستوديو) في الرائي الفضائي (التلفزة) بشكل متكرر أن يتحول من ضيف ثقيل إلى أحد أفراد الأسرة أو ساحرها أو منجمها أو نبيها المعصوم.
وإذا تحركنا قليلا باتجاه الاعلام الاجتماعي المرتبط بمواقع التواصل الاجتماعي من مثل (فيسبوك وتويتر ولينكدان وغوغل وغيرها) فإن حسن استخدام أو صياغة الرسالة القصيرة المحكمة السبك والتوجيه تستطيع أن تصنع نجوما عجائبيين (العرب وعلى رأسهم أكثم بن صيفي، ثم علي بن أبي طالب أجادوا قول الحكمة والعبارات القصيرة المؤثرة كمثالين فقط)، وهم ليسوا بالضرورة ما يقولون أو يقال عنهم، ولكنهم يُصنعون، أوهم يَصنعون عقولا– لأنها تحسب نفسها تشارك – مقولبة كما يريدون مستغلين الفراغ الاجتماعي للمتلقين/المستقبلين والرغبات في التميز أو بناء العلاقات والصلات يدفع كثير منهم شعور خفي بأن لهم دور توطئة لموقع، وأن عبر جملة قصيرة تافهة، أو انهم ينتمون لهذا أو ذاك المجموع، ولكنهم في حقيقة الأمر يساقون سوق الإبل والبهائم بأمر عاطفة متجددة أو رغبة دفينة أو استغلال بشع للدين أو الضوء.
ان الاتصالات في العلم الحديث هي ما يقوم به الناس لأكثر من 90 ٪ من وقتهم، فهم يتكلمون ويثرثرون ويحركون أيديهم وعيونهم وأرجلهم، بل ويحلمون مستيقظين كانوا أو نياما... وهم في ذلك يتواصلون... ان الاتصالات فعل جمع والتقاء وتقارب ورغبة في نسج العلاقات والصلات بلوغا للمراد وتحقيقا للنتيجة المرجوة
ووسائل الإعلام الثلاثة التي ذكرتها (أي الاتصالي المباشر، والفضائي، والاجتماعي الالكتروني) كلها سبل أو طرق قد يحسن المرسل / المؤثر / المشارك استخدامها وقد يسيء ذلك عفوا أو قصدا، وما أكثر القاصدين السالكين لطريق الغواية والتفضّل على الناس على افتراض امتلاكهم وحدهم للحقيقة لسبب علمهم أو تديّنهم أو نضالهم أو قدرة ما من قدراتهم يطلّون بها من فتحة بالجدار (جدار العقل، عقلي وعقلك) مدعين أنهم الأقدر والأوسم والألمع والأكثر تدينا أو الأكثر فهما، وبالتالي هم الأولى بالاتباع.
وما يبدأ تشككا في عقل العالم قد يتحول ليقين، ولكن ما يبدأ انبهارا أو ولعا في عقل الجاهل يصبح تعصبا لسياق أو فكرة (صحيحة أو كاذبة) أو جملة يغلق فيها الشخص أثمن ما منحه الله سبحانه وتعالى إياه أي العقل لينساق سوق الشاه مقيد العقل واليدين فلا يتورع عن ارتكاب أفظع المنكرات تحت بند الدفاع عن الحق المطلق أو الصواب الأوحد أو المقدس فلا ينال رضا والديه...ويسبه الناس والملائكة.
إن الاتصالات علاقة غير حسابية فهي لا تعني قطعا أن واحدا مضافا اليه واحد يساوي اثنين لأنها بهذا الجمع قد تكون فيها النتيجة أربعة أو الفا أو مليونا.
لنفرض أن شيخا أو مفكرا أو رئيسا أو زعيما خطب في الناس وألهمهم، وبث فيهم اتجاها معينا (إن يكونوا ضد طائفة ما أو شريحة ما، أو ضد لباس ما او مع فئة محددة بعينها... الخ) واستخدم في خطابه كل ما يملك من أدوات التأثير والسحر (الكاريزما)، فكيف الظن بالنتيجة؟! والناس أشتات بين مثقف ومفكر وجاهل ومنساق؟!
إن ظواهر الارتباط والانسياق أو ظواهر إغماض العينين والاتباع أو الانقياد ظواهر قديمة طالما حذر منها الرسول محمد صلى الله عليه وسلم بصحيح الحديث بألا يكون الشخص إمّعة، وفي سياق الأمر الإلهي بالتفكر والتأمل الذي يعفي الكثيرين أنفسهم منه استسهالا لتأجير عقولهم والانقياد والاتباع دون عقل وبلا هدى.
إن الشيخ أو الزعيم الأوحد الذي يطلب طاعة الأتباع بالانغلاق والاستماع والامتثال والخضوع (في المنشط والمكره) لما يقول دون مرجعية فكرية أو قانونية أو ثقافية أو حتى إنسانية لهو شيخ كاذب أو أمام مضلل أو رئيس يقود مريديه أو أتباعه (من يقبل فيهم ان يكون كذلك) نحو قطع من الظلام مدلهمة... وفي كل ذلك هو يستخدم قدراته الفكرية والتنظيمية وأيضا الاتصالية -ما هي فن يحسن الكثيرون استخدامه ويسيء الآخرون استخدامه- بقدرته على حسن استخدامه، وهنا المقابلة بين حسن استخدام الوسيلة وسوء النية والنتيجة أو الأهداف.
الاتصال حيث الإعلام
ان الاتصالات علم قائم بذاته بدأ يوزع ذاته على علوم عدة، وهو وإن اختص بالإنسان وعلاقته بأخيه الإنسان (هناك اتصال مع الطبيعة وكل مكوناتها) فإن فهم العلاقات والاتصالات مربوط قطعا لمن يريد حسن استخدامه بالوعي المتحرر والوعي الشوروي أو الديمقراطي الذي يرتكز على أسس ثلاثة أولها الاعتراف وثانيها التقبل وثالثها المشاركة.
إن الاعتراف بالآخر من حيث هو مساوٍ لي في الحقوق والواجبات والفكر والتعبير والتمثيل وان خالفني كليا هو الأساس لتقبلي لما يقول ودفاعي عنه ليقوله، وخاصة متى ما خالفني وفي ذلك مدعاة الإيمان بتحقيق المصلحة عبر المشاركة.
إن الاتصالات هي عملية إرسال واستقبال معقدة، أو هي عملية مشاركة بين طرفين أو أطراف... حيث يتبادلون الرسائل (مضامين مرمّزه عبر عبارات أو جُمل أو حركات... ) ذات المقصد أو المعنى.
إن كانت في زمن مضى تعتبر الاتصالات مركّبة من 5 أركان هي (المرسل والمستقبل والرسالة ووسيلة الاتصال وإرجاع الأثر أو الاستجابة) فإنها اليوم في ظل خروج المارد من القمقم، وفي ظل الكم الهائل من الرسائل التي تصلنا يوميا في كل مكان ومن كل زمان، وفي كل ركن من بيتنا أو مكتبنا أو مدرستنا أو جامعتنا وحتى في يدنا أو جيوبنا أصبحت بتحرر المعلومات (قيدا) علينا (وسلبا) لتفكيرنا الخاص الذي لا يستطيع أن يظهر بأصالته بسهولة، حيث تكرار الدعوات ان أصالة المعلومة والفكرة والبحث والخبر هي بين الناس وأحضان الطبيعة وليست في محرك البحث (غوغل) أو في (الفيسبوك) أو عبر برنامج محمود سعد على قناة النهار.
إن الاتصالات فن القدرة على المشاركة، والاتصالات فن تحقيق التفاعل (الايجابي هو ما نريد) بين شركاء الاتصال، وهي حقيقة الرغبة بالتحرر والارتباط معا، ونظنها معادلة صعبة.
إن الإعلام بمعنى الإخبار (بكسر الألف) أو بمعنى نقل الحقائق هو أحد أهم أشكال الاتصالات، وما نبتغيه هنا هو الحديث في الاعلام الجاد أو الملتزم أو المسؤول كثمرة لفكرة نسعى لها أو نرغب ان تصل الآخرين بمودة ومحبة وحسن إدراك ليشاركوننا بها.
يتحدث الكثيرون عن الإعلام (الذي يريدونه) ما بين الإعلام الوطني مقابل اللاوطني، والإعلام الحر مقابل ذلك المتوحش أو المقيد، ويشيرون للفروقات بين الإعلام الرسمي وغير الرسمي والحزبي وغير الحزبي وفي الإعلامين الأخيرين (الرسمي والحزبي) قد يقابله عند البعض الإعلام المستقل وكأن هناك استقلالية حقيقية تلك (الموضوعية والمجردة والمثالية) ما لم توجد حتى الآن في أي وسيلة إعلامية على الإطلاق.
وتظهر مؤشرات عدة تتحدث عن الاعلام بمنطق النهج أو الصورة أو الصياغة أو بناء الشخص الإعلامي او بمنطق المصداقية والأخلاق أو الأهداف الحاكمة ما يمكن من خلالها ان ننظر في تعريف الاعلام والإعلام الجاد أو المسؤول أو الحر أو الملتزم.