لا بد من القصيدة - محمود ابو الهيجاء
سنة وراء سنة، والغائب لا يبتعد في حضرة الغياب، برغم ان مكان البعد مكانه، جريا وراء مالك بن الريب، وسنة وراء سنة لا يتضح الغياب في حضرة الغائب، ولا يصيبه الغموض ايضا، يظل على حاله بين الواقع والخيال، يأخذ من هذا وذاك، ليظل وحيدا في المعنى البعيد، غير اننا ما زلنا نكتوي بجمرة الخسران العظيم، والذاكرة ما زالت تعج بالقصيدة وصاحبها ولهذا لم نعرف طريقنا للرثاء بعد، والرثاء اساسا لايصلح لغير النسيان، وكيف ننسى من صار حديقة على تلة المدينة ومن بات كتابا مفتوحا على دفتيه لأبنائها، وفضاء لتحلق الطيور الجديدة، ثم اي نسيان بوسعه ان يطال القصيدة الخضراء بارضها وروحها ..؟؟
سنة وراء سنة، نلوذ بالورد اكاليل على الضريح، كي يبكي بدلا منا، ولعله يعيد لنا بعض ما قاله الشاعر لنا : ( ليس المكان هو الفخ / ما دمت تبتسمين ولا تأبهين / بطول الطريق .. خذيني كما تشتهين / يدا بيد او صدى للصدى ، او سدى / لا اريد لهذي القصيدة ان تنهي ابدا / لا اريد لها هدفا واضحا / لا اريد لها ان تكون خريطة منفى / ولا بلدا / لا أريد لهذي القصيدة ان تنتهي / بالختام السعيد، ولا بالردى / أريد لها ان تكون كما تشتهي ان تكون : قصيدة غيري. قصيدة ضدي . قصيدة ندي / أريد لها ان تكون صلاة أخي وعدوي / كأن المخاطب فيها أنا الغائب المتكلم فيها /كأن الصدى جسدي . وكأني أنا / أنت اوغيرنا .وكأني أنا اخري ) وبلى لا نريد لهذي القصيدة ان تنتهي، و" خضراء " ما زالت تبتسم ولا تأبه بطول الطريق، لكن على الورد ان لايكون بنفسجيا، وعلى شقائق النعمان ان تكف عن حمرة الدم في المعنى والقصيدة، وتستبدلها بحمرة الخجل لصبية تفك خطوط الحب لأول مرة بالاشارات السعيدة .
ولا نريد لهذي القصيدة ان تنتهي حتى حين نرفع علمنا "عاليا فوق سطوح النهار"، فلنا في القصيدة كما في ارضنا ما نفعل، لنا المجاز ان ينتبه لضرورات الروح ومكابداته الشخصية في الليل الطويل، لنا التوريات التي تدل على طريق الاسئلة، ولنا الطرق الجميل على بوابة الحرية حتى تفتح على مصراعيها .
سنة وراء سنة لا ننسى شيئا ولا نتذكر ايضا، لأن الذكريات حديث الحنين للحنين "والحنين مسامرة الغياب للغياب "، ولا غياب يكبر او يتضح، ولا غائب يبتعد، لكنها جمرة الخسران العظيم التي تسكن القلب، فلابد من القصيدة اذا، محمود درويش لا بد من القصيدة .