واحد اسمه محمود- احمد دحبور
أحيت فلسطين، الخميس الماضي، ذكرى رحيل شاعرها الكبير محمود درويش، وأن تمر أربع سنوات كاملة على هذه الذكرى مع بقاء الأثر العميق للحدث، يعني أنه كان شاعراً عابراً للمناسبة، راسخاً في الأرض رسوخ فلسطين في الروح والقلب، وما علينا إلا أن نراجع تراثه شعراً وغير شعر، وكله شعر، حتى نكتشف ما عرفناه من قبل، وهو أننا أمام ظاهرة لا تستهلكها قراءة ولا يختزلها نقد.. فنحن في حضرة سيد الحضور الذي لم ينل منه الغياب.. وهو بيننا الآن.. وغدا.
تأخذني ذكرى محمود درويش إلى ذلك اليوم البهي من عام 1987 في دمشق، عندما أنفجر في الوسط الثقافي نبأ قدوم الشاعر بعد غياب عن قلب العروبة النابض، بسبب وعكة في العلاقات الفلسطينية السورية، وتدفقت الجموع إلى مدرج جامعة دمشق القديم، حيث كان مقرراً أن يحيي الشاعر أمسيته المنتظرة. وقبل الموعد بساعة أو بعض ساعة، غص المكان بالبشر، حتى تحطم سور المدرج، والباب، وتعرقل السير في وسط المدينة.. إلى أن أتى من يبشر تلك الجموع بأن أمراً رئاسياً قد صدر لفتح ملعب الفيحاء، وهو الملعب البلدي الرياضي الشهير الخاص بمسابقات كرة القدم، وذلك لاستدراك أزمة الزحام واستقبال الشاعر بما يليق به من حفاوة وتكريم.
ومن يعرف دمشق، يعرف أن المسافة بين المدرج القديم وقاعة الفيحاء تبلغ بضعة كيلومترات، وسرعان ما توجه الجمهور بالعربات والباصات ومشياً على الأقدام في الطريق إلى أمسية محمود درويش.
سأذكر ذلك دائماً، ولكل مناسبة، عندما شاهدت بضعة شباب فلسطينيين، يكاد يطير بهم الزهو حتى الفضاء، فيما يعلق أحدهم بلهجة شبه خطابية:
- كل هذا الزحام من أجل واحد.. واحد اسمه محمود طوله متر وثلاثة أرباع المتر؟ يا الله.. ما هذا المجد؟
ويعلق صديق آخر: واحد اسمه محمود.. من قرية عزلاء منسية.. اسمها البروة، من قضاء عكا..
وبمثل هذه الغبطة والفرح، والاشتباك مع السعادة كأنها صناعة فلسطينية.. صعد الشاعر إلى المنبر.. كان يغالب ألا يبكي، ويجاهد ليبدو عفوياً، وسرعان ما وجد نفسه يردد من قصيدة سابقة له:
هذا هو العرس الذي لا ينتهي،
في ساحة لا تنتهي،
في ليلة لا تنتهي،
هذا هو العرس الفلسطينيً..
فأي توفيق هذا في الاهتداء التلقائي إلى هذا الشعر ليكون مدخلاً إلى دمشق التي لم يكل يوماً من القول إنها أفضل مدينة عربية في فهم الشعر..!!
وفي مساء اليوم التالي، كان بيت المرحوم أبي منيف، عبد الله الحوراني يغص بالمحظيين الذين أتيح لهم أن يسهروا مع شاعر فلسطين، بعد أمسيته التاريخية تلك، وأرادت إحدى السيدات أن تداعب رنا قباني، قرينة محمود آنذاك، فقالت لها: ألست سعيدة بهذا النجاح؟ ولم تتأخر رنا، بسرعة بديهتها على ميلها غالباً إلى الصمت، فأجابت تلك السيدة على الفور: وأنت.. ألست سعيدة لمجرد أنك رأيت الشاعر شخصياً؟
الآن أجيب، نيابة عن تلك السيدة؛ ومن الذي لا يعتز بأنه عاش عصر محمود درويش؟.. إنه ليس هنا الآن حتى نجامله أو نتودد إليه.. إنه في مكانه الطبيعي من تاريخ الثقافة الفلسطينية بل العربية.. وقد كان له من قوة الحضور ما جعل قراءه جميعاً متساوين في الشعور بالاقتراب منه.. ولن أنسى مداعبة الأخ أبي عمار له عندما خاطبه في الجزائر، أمام المجلس الوطني الفلسطيني، قائلاً: إذا كنت أنا القائد العام.. فلك وحدك أنك الشاعر العام بلا منازع..
وفي هذا الأيام، في الذكرى الرابعة لرحيل الشاعر العام، أرى أن الأمر يستحق وقفة دراسة وتأمل.. ما الذي يجعل من شاعر شخصية عامة ساطعة الحضور إلى هذا الحد؟ لا شك أنها الموهبة والإشعاع من جهة الشاعر، والمحبة والوفاء من جهة الجمهور.. لكن ثمة سبباً أبعد من هذا يتألف من جدل سؤال الوطن بكينونة المواطن.. ولكن ثمة من يرد علي بأن الوطن أنجب شعراء كثيرين فلماذا حظي بهذا المجد واحد اسمه محمود؟ وساعتها لن أجد الجواب وإن كنت أتذكر باستمرار صرخته المبكرة: أنقذونا من هذا الحب القاسي.. ذلك أن هذا الحب القاسي كان يخلط المقاييس أحياناً فيستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون.. ولكن مع ذلك، وربما بسبب ذلك، فإن العين النفاذة قد رأت المشهد بما يستحق.. وميزت بين خلق كثير فاختارت واحداً اسمه محمود..