مجدي الشوملي يعيد إنتاج طفولته في قصة «صيف 67»- احمد دحبور
لست أدري من هو صاحب المغامرة: أنا الذي أقترب من قصة للفتيان في زاوية مخصصة. في العادة، للكبار. أم هو مجدي الشوملي الذي كتب قصة الفتيان هذه وزينها بعنوان مثير قد لا يدرك الصغار محتواه لأول وهلة، فالعنوان «صيف 67» وهو يشير بالتأكيد إلى واحد من أخطر الأعوام التي عصفت بجيلنا.
ربما كان علي أن أتريث بعض الشيء فمجدي الشوملي حين كتب هذه القصة لم يكن يجترح مغامرة، بل كان يواصل مشروعاً ثقافياً اختطه لنفسه منذ وقت مبكر. فهذا الكاتب المولود في بيت ساحور عام 1953. قريباً من حقل الرعاة الراسخ في الذاكرة المسيحية، قد رفعه الإحساس ببراءة المكان إلى حالة تعيد إنتاج الطفولة. فراح يكتب لا ككاتب للأطفال، بل كراشد يخاطب الطفل الذي فيه حتى لتشعر أنه يصفي حساباً إيجابياً مع الطفولة، فكتب قصصاً للفتيان أرادها أن تكون ملونة زاهية لتسعد تلك الأعمار الغضة، فقرأنا له مثلاً قصة «عودة العزيز» وقصة «السر» وقصة «فارس الملاعب» وتابعناه وهو يشرف على «مجموعة لبنى» وهي اربع قصص كتبها معنيون بأدب الأطفال بهدف تقديم أحداث وظواهر علمية بقالب قصصي ممتع يراعي خيال الطفولة البريئة، فكانت هذه القصص حافزاً للأولاد على مزيد من البحث والاكتشاف، يزيدها إمتاعاً وإثارة أن تأتي شخصية الطفلة لبنى لتقود مخيلة الأطفال إلى التأمل والدهشة والتجريب، فلبنى هذه - كما يقول العنوان - في البيت تلعب وتتعلم.. وهي بهذا الدور إنما تقوم بدور تعليمي تجاه الملائكة الصغار.. ولأننا مع مجدي الشوملي إزاء مشروع متكامل، فإننا نتتبعه وهو يشرف على كتابة الأولاد أنفسهم، فثمة قصة طريفة بعنوان «حسون» من تأليف عامر شوملي وهو ابن مجدي وشريك في إنتاج قصص الفتيان بالرسم والتأليف في آن واحد..
ولا يقتصر جهد مجدي في هذا المجال على الكتابة والإشراف، بل إنه يختار بعضاً من القصص المنثورة في غير مكان من العالم، ويقدمها بإخراج يليق بأدب مقدم إلى الأطفال والفتيان. ومثل هذا المشروع لا يتطلب موهبة أدبية فقط. بل ينطلق من ثقافة تربوية تعرف كيف تقتاد الفتيان من خيالاتهم إلى فضاء الفرح الفني ولذة النص.
صيف 67
يشتق الكاتب عالم روايته من مهد طفولته، فهو ابن بلدة بيت ساحور المترعة بالتاريخ والمجاورة لكثير من المناطق التي تثير حنيناً إلى فجر المسيحية ومداها الجغرافي بين القدس وبيت لحم، حيث لا يجول الأطفال والفتيان فقط، بل إنها تستضيف مخيلة القارئ وتفتح الآفاق أمام الأحلام. يعتبر أول يوم أحد في أيلول موعداً مقدساً، كما هي الحال مع الأحد الأول من آذار، ففي هذين الأحدين ينظم الاستاذ غسان ابو بكر رحلتين للتلاميذ الى جبل الديك لمراقبة الطيور التي تستريح في جبل أبو غنيم، شمالي مدينتهم بيت لحم. ومع أن الرحلتين مقتصرتان على تلاميذ الثانوية. إلا أن خمسة طلاب من المرحلة الإعدادية يشاركون طلبة الثانوية، وهم نديم من بيت ساحور، وعامر من بيت صفافا، وحلمي من أرطاس، وجورج، ابن مدير المدرسة من بيت لحم، والياس من بيت جالا وقد أصبح مؤخراً يصحب أخته سمر ذات الصوت الجميل. وهي تصغره بسنة. وكانوا يصطادون العصافير فرحين بما يغنمون، لكن الأستاذ غسان اعتبر هذا العمل وحشياً. ولهذا ضمهم إلى تلاميذ الثانوية في الرحلتين، فتغيرت رؤيتهم للطبيعة وكفوا عن قتل الطيور أو اصطيادها. الأمر الذي أزعج والد نديم الذي كان يشجع ولده على صيد العصافير وبيعها، أما أم نديم فكانت ترفض مبدأ بيع العصافير إذ يكفي أن يراقبها الأولاد بسعادة. وهكذا أصبح اسم مجموعة الإعدادية هذه، شلة الخضر، بسبب حبها للطبيعة عصافير وأشجاراً، أما الأستاذ أبو فهد، فهو على خلاف الأستاذ غسان يشجع على الصيد وبيع الطيور. حتى انه اصطاد غزالة ذات يوم وكانت حاملاً، فتصدى له الأستاذ غسان وشلة الخضر مسببين له ما يشبه الفضيحة.
لم تواصل شلة الخضر رحلتيها عام 1967، فقد وقعت نكسة حزيران، وحلق الطيران الصهيوني في سماء القدس وبيت لحم، وأعلن المعلمون والطلاب إضراباً عن الدراسة احتجاجاً على وقوع الاحتلال، كما تدهور الوضع الاقتصادي في البلاد. وأخذ كل ولد من الشلة يتدبر أمره على طريقته فصار الياس يرسم ويتجمع السياح على ما يفعله الطفل الفنان، وعمل حلمي في المطبعة القريبة من ساحة المهد. ولم يكن عامر مضطراً للبحث عن عمل كأفراد الشلة فوالده الحاج عادل ميسور الحال وهو يملك معملاً للطوب في بيت صفافا. إلا أن التضامن الاجتماعي برز في الحياة الاجتماعية حتى أن أم محمد انتحلت شخصية أم الياس للتمويه على الاحتلال بمعرفة أهل البلد ورضاهم. وعادت أم الياس من عمان فلم يلحظ الاحتلال أنها كانت غائبة بسبب التدبير الذكي من أم محمد، مع أن المنطقة بدأت تشهد بوادر المقاومة، وظهر ذلك من خلال مقتل جندي إسرائيلي قرب مار الياس.
بالطبع يصعب أن أواصل تلخيص القصة، مع أنها ليست كبيرة، ولكن قصص الفتيان تكون ملأى بالتفاصيل التي يعز عليك ان تسقط أياً منها حتى لو كانت بسيطة، لهذا أنبه الىأن هذا العرض المبسط لا يغني عن قراءة القصة الأصلية لمن أراد التعرف على مجمل عالمها الغني البريء.
الوصول والإصرار
إذا كانت هذه القصة مؤلفة من خمسة فصول، وقد مر بنا اثنان منها، فإننا الآن أمام الفصول الثلاثة: الانطلاق، والوصول، والإصرار. فقد اصطحب الأستاذ غسان أربعة عشر طالباً في رحلة الاكتشاف والنزهة، وكان يمكن أن يكون العدد الأكبر لولا ظروف الاحتلال واستشهاد عبد الله إثر سقوط احدى القذائف عليه. نظر الأستاذ غسان الى الجبل فلم يجد أثراً للطيور. لكنهم حين واصلوا الطريق الوعرة ظهرت لهم طيور الحسون الذهبي والعصفور الخضري ترفرف، وقد كبرت أشجار السرو التي زرعها أهل البلد عام 1962 في عمل تطوعي.
فوجئت قافلة التلاميذ بعدد من جنود الاحتلال المسلحين. سألوا الأستاذ غسان عما إذا رأى رجلاً غريباً فنفى. لكنهم أبلغوه أنه شخصياً قد ارتكب مخالفة باصطحاب الأولاد إلى هذا الجبل الذي أصبح منطقة عسكرية، يرد عليهم الأستاذ غسان بشجاعة لا تشفع له، فقد اعتقله الجنود وأمروا التلاميذ بالانصراف، لكن الأولاد لم ينصرفوا آمنين فقد تعرضوا للضرب من الجنود بلا سبب.
ووسط حالة من غضب الأهالي بسبب تعرض أبنائهم للضرب، رآى الجميع أن اعتداء الجنود يجب ألا يؤخرهم عما عزموا عليه، وهو القيام بالرحلة التي أنكرها عليهم الاحتلال. وهكذا توجهت قافلة عفوية من الناس للمسيرة في الرحلة الموعودة وفي البال صورة الأستاذ غسان المعتقل.
فوجئ الأهالي بالطيور الكبيرة تحلق فوق رؤوسهم، لكن الكبار منهم طمأنوهم إلى أن هذه الطيور لا تعتدى إلا على من يؤذيها. وفجأة سمعوا صوت دبابة ثم لمحوها قادمة.
نزل الجنود من الدبابة وأطلقوا النار على الطيور. حلقت الطيور الكبيرة وانقضت على الجنود وحين ارتمى أربعة من الجنود أرضاً خوفاً من الطيور، توجهت القافلة إلى حيث كانوا، فأطلق الجنود الرصاص الحي مما تسبب بجرح في قدم المدير الذي كان يتقدم التلاميذ، فما كان من هؤلاء إلا أن أخذوا يرجمون الدبابة بالحجارة ثأراً لمديرهم. وقد لفت أنظارهم أن الأحواض الترابية مليئة بالماء. ظن حلمي أنه هو الذي ملأها لكن الآخرين قالوا له إن الماء لا يمكث طويلاً في الأحواض التي ملأتها أنت من قبل. وفجأة انتبهوا إلى رجل قادم. ظنوا أنه الأستاذ غسان وقد أفرج عنه، لكنه لم يكن هو وإن كان يعرفه ويعرف بعض الأولاد بأسمائهم التي عرفها من الأستاذ غسان.. وتواعد الرجل مع القافلة، أساتذة وتلاميذ، على اللقاء في العام القادم.. في ربيع 1968.. كان هذا الرجل هو الذي ملأ الأحواض بالماء.
ربيع 1968 سيكون هو عنوان القصة القادمة كما وعد مجدي الشوملي.. فإلى لقاء.
واقعية تربوية
يأخذ الجانب التربوي في هذه القصة، منحى واقعياً. فظاهرة شلة الخضر تبدو كاقتراح عملي يرأف بالطبيعة شجراً وطيراً، والتلاميذ الذين يشكلون هذه الظاهرة هم أولاد غادروا مرحلة الطفولة لتوهم. فهم طلبة في الصفوف الإعدادية بأعمار يانعة ومشاعر متفتحة، والأستاذ غسان الذي يرشدهم هو مدرس رياضة، مما يجعل من الطبيعي أن يقتادهم في مسيرات استطلاعية تنشيطية، وإذا كان من المتوقع أن ينزع بعض الأولاد إلى اصطياد الطيور، فإن هذا الأستاذ المربي يحذر من القسوة مع الطير والحيوان، ولأن منحى القصة واقعي فطبيعي أن يكون هناك شخص يرفق بالحيوان، وحتى يكتمل البناء التربوي يضع المؤلف أولاد هذه المنطقة ذات العقائد المتعايشة المتآخية، بين معلمين وشيخ وراهب.. وبين هؤلاء الأولاد فتاة هي شقيقة أحدهم. فكما أن بيت لحم وبيت ساحور والقدس بلاد منفتحة على الطبيعة النقية، فإنها منفتحة بالدرجة نفسها على التعدد الأليف بما لا يحتاج إلى وصايا تربوية لتأكيد التآخي. لقد كانت القصص غالباً تنأى عن الإشارة إلى التعددية، إلا بحدود الإشارات الوعظية حول أخوة الوطن، أما هنا فإن الحياة في القصة كما هي في المكان.. متعددة عفوية صحية.
وهي قصة مكتوبة بأناة وخبرة. فلسنا أمام خرافية تسرح بخيال الأطفال بعيداً عن الواقع، ولا حدوتة مثيرة محشوة بالمفاجآت، إنها تكاد تكون إخبارية تلقائية عن حكاية قابلة للحدوث، لكن الظرف الموضوعي المتمثل بوجود جنود الاحتلال، هو الذي يطرأ على عالم الأطفال فيروعهم ويعتقل معلمهم ويمنعهم من التمتع بطبيعة بلادهم الجميلة.. إن أدب الأطفال ومن في حكمهم، يحذر عادة من إيراد مشاهد العنف، ولكن ما الحيلة إذا كان وجود الجنود بحد ذاته هو عملية عنفية؟ ومع ذلك فإن القصة لا تجنح إلى التوتر وشد الأعصاب، فتحرص على تقديم القسوة بما هي خبر موضوعي تدينه الأخلاق والتربية، من اعتراض الأستاذ غسان على قتل الطيور والغزالة إلى استهجان فكرة العدوان على الطفولة واعتقال المربي.. صحيح أن أم عبد الله تتوعد المعتدين، ولكن بما يسمح به الإيقاع الواقعي المعقول. بحدود الانفعالات المشروعة، ومن غير أن يتصدر العنف قوام العمل. حتى ان الطيور، وبعضها شرس، لا تأكل الأولاد الصغار كما قد يتساءل أحدهم، لكنها تخيفهم فقط إذا أزعجوها. بل إن الشيخ إسماعيل يرفض الاعتراف بالورطة حين يسمع صوت الدبابة: لماذا ورطة؟ نحن لم نفعل شيئاً.. وليس معنى هذا أن التلاميذ محايدون تجاه الاحتلال، ولكن المقصود أنهم أبناء هذه الأرض، وهم لم يخطئوا حين توغلوا في بعض الأماكن.. أما الجنود فكما نتوقع منهم ذلك، كانوا يطلقون النار على الطيور ويعتدون على الطبيعة.. بل إن الطيور حين تنقض على الجنود في حركة دفاعية، إنما تخلق وضعاً درامياً جديداً، تجعل المدير ورجال الدين يسعفون الجنود الجرحى. وهي لحظة لا تتعلق بالعلاقة مع الاحتلال بقدر ما تتعلق بتربية الإنسان المتحضر الذي يرفق بأخيه الإنسان.. إنها لحظة درامية حساسية: فالعدو عدو.. ولكنه حين يكون في وضع يستدعي المساعدة الإنسانية بعيداً عن أي تأويل سياسي، تكون المساعدة ممكنة.. وهي ما دعوتها بالواقعية التربوية..
دائرة معارف؟
لم تغب عن مجدي الشوملي ملاحظة أنه يكتب لجيل في مقتبل العمر، وأن هذا الجيل يحتاج إلى الإحاطة بقدر من المعلومات والمعارف حتى يدرك سر المكان الذي هو جزء من بلاده. وهذه مهمة الكاتب التربوية بطبيعة الحال، وتتضاعف الحاجة إلى هذه المهمة عندما يتعلق الحدث بأرض مترعة بالتاريخ وأسرار الماضي.. ولهذا عمد إلى تثبيت هوامش في ثنايا القصة تضيء ما غمض على عالم الأولاد من معارف جغرافية أساساً.. ولأقل إن هذه المعلومات تغني عالم الأولاد والراشدين معاً.. فها أنا أعترف بأنني لم أكن على إحاطة كاملة بما قدمته القصة وشرحته في الهوامش، وقد عمل الكاتب بهدي الأمانة الموضوعية العلمية فأشار منذ البداية إلى أن المعلومات العلمية حول الطيور في هذه القصة مأخذوة من منشورات جمعية الحياة البرية في فلسطين. وهي معلومة إضافية بالنسبة إليّ، أن أعرف أن في حياتنا الثقافية مثل هذه الجمعية. وإلى ذلك تحتشد القصة بهوامش طريفة ذات أساس علمي، كالإشارة إلى أن فلسطين كانت تاريخياً ولا تزال محطة للطيور المهاجرة من أوروبا إلى أفريقيا في بداية الخريف من كل عام، ومن أفريقيا إلى أوروبا في فصول الربيع، وذلك عند اشتداد الحر في أفريقيا وهجرة الطيور من هناك إلى المناطق الملائمة لوضع البيوض، وعندما تفقس البيوض عن فراخ جديدة، تنتظر الطيور حتى يشتد عود الفراخ فتعود بها إلى موطنها الأصلي بعيداً عن برد أوروبا، ولأن القصة ليست مكتوبة للأطفال الصغار، فإن الكاتب لم يفتعل رحلة درامية للطيور مشوقة، بل إنه ثبت المعلومة في الهامش كحقيقة علمية تثري ثقافة الفتيان الذين تخاطبهم القصة، وفي الطريق إلى ذلك تسرد هذه الحقائق للراشدين الذين يطالعون غالباً قصص أبنائهم ليفسروها لهم، فيحصلوا بذلك على ما يسمى نشوة الفرح الفني أو لذة النص فيما هم يشاركون الجيل الجديد ثقافته التي هي، من حيث لا ينتبه الكبار، إعادة إنتاج لثقافتهم هم.
على أن هذا الرافد الثقافي لا يقتصر على درس التاريخ الذي يشير مثلاً، إلى هزيمة العرب في حزيران 1967، واحتلال الصهاينة لما بقي من أرض فلسطين، بل يشمل دروساً في الجغرافيا، كالتعريف ببرج اللقلق، وهو حسب أحد هوامش القصة، أحد الأبراج القديمة التي تتمركز في السور المحيط بالقدس وقد بني قبل خمسمئة عام، أو دير الجنة في أرطاس وهو يقع في منطقة الجبل الجنوبي، وقد بني عام 1901 وتسكنه الراهبات اللواتي يقدمن خدمات اجتماعية هناك بالإضافة طبعاً إلى قيامهن بالواجبات الدينية المطلوبة. ولا يقل لي أحد من خارج مناطق القدس وبيت لحم وبيت ساحور أنه يعرف هذه المعلومات ما لم يكن مختصاً بجغرافية فلسطين في مستواها الديني، أو قارئاً لقصة صيف 67 هذه أو غيرها من القصص ذات الاختصاص.
ويضاف إلى المعلومات الجغرافية المطعمة بنكهة التاريخ، تلك المعلومات الطبيعية التي تضيء جوانب من عالم الشجر والطير، كطائر العويسق الذي يفيدنا أحد هوامش القصة بأنه من أنواع الطيور قليلة العدد في فلسطين والعالم حتى أنها مهددة بالانقراض، ويطلق الفلاحون الفلسطينيون هناك على هذا الطائر اسم صقر الجراد أو الباز الأحمر، وتعتبر أسوار القدس من الأماكن المفضلة لفصيلة هذا الطائر حيث يبني أعشاشه بين حجارتها.
ولا يقاوم مجدي شوملي رغبته، المحببة على ما يبدو، في التعريف بطيور فلسطين - وقد تكون موجودة خارج فلسطين بطبيعة الحال، لكنه معني بقراءة المفردات الطبيعية لطبيعتنا المحلية الوطنية، فهو يشير، في أحد هوامشه مثلاً، إلى طائر الوروار، أو الشرقرق، الذي يسمى آكل النحل، ويمتاز بألوانه الزاهية وصوته الجميل ومنقاره الطويل.
هكذا تخرج القصة عن إطارها الطفولي، لتغوص وهي ضالعة في مخاطبة الأعمار الغضة. في مجال المعرفة المسلية. فتجمع الامتيازين، امتياز مخاطبة الأولاد والبنات في عمر الصبا، وامتياز الإحاطة العلمية بهذا العالم الجميل الذي تزهى به بلادنا.
لغة النص
طبيعي أن يتسم النص المكتوب للأولاد بالبساطة التي تتوخى الوضوح والتعليم، وإذا كان في قصتنا شيء من هذا، فإنه أبعد ما يكون عن افتعال البساطة أو التبسيط، إذ ان الكلام يجري تلقائياً كمن يسرد خبراً، بل إن وجود الهوامش التي أشرنا إليها، هو وجود لازم لأن الكاتب لم يسرف في الوضوح الذي يبسط النص حتى التسطيح، ولم يضطر بالتالي إلى استدراك المعاني التي قد تفوت القراء الصغار، فهو أكيد من أن البيان يجد طريقه إلى الفتيان بيسر. على أن ثمة سؤالاً لا يخلو من خفة دم، يتعلق بنا معشر الراشدين، وهو: هل نقرأ مثل هذا النص لنعين أبناءنا على فهمه، أم أنها ذريعة نتخذها لنسوغ فضولنا إلى معرفة ماهية هذا العالم البريء؟ لقد سبقت الإشارة إلى أن هذه القصة لا تتضمن سحر الأسلوب الذي يسرح بخيال الأولاد، بل هو أسلوب واقعي يجول بين تقديم الفكرة ومراعاة متطلبات الجيل الصاعد من لذة النص، وقد وجد الكاتب ضالته في المعلومة المثيرة غير المفارقة للواقع، وكما يتسلل صغارنا من وراء ظهورنا إلى كتبنا وأدواتنا المعرفية ليكتشفوا عالمنا، فإن القصة هذه تحاول استدراجنا إلى اكتشاف ما هو مكتوب لهم ومن أجلهم.. وهكذا تتداخل مهمة النص الأدبي في العملية التربوية التعليمية، بشفافية تستبعد الوعظ المباشر، وتحذر كما أشرنا، في شرك المشاهد العنيفة التي ينصح البيداغوجيون بتجنيب الأطفال أن يقعوا في إشكالياتها، وإذا كان من عنف موجود في الواقع، وهو موجود، فربما يلتزم الكاتب الحريص بحكمة تقول: استعينوا على قسوة الفكرة برقة الأسلوب.
لقد قالت مجرمة الحرب غولداماير ذات يوم إنها لن تغفر للعرب أنهم سلبوا الأطفال طفولتهم بتركيزهم على الحرب والدم. وواقع الحال أن هذا القول مردود عليها وعلى كل من سمموا طفولة الحياة بالاحتلال والعدوان، فليس الخوف من الوحش المفترس هو المشكلة التربوية، بل الوحش هو الذي أزاح الأمان وتسبب بإشاعة الخوف.
على أن هذه قصة مكتوبة أساساً للفتيان، وهؤلاء قد وصلوا إلىمرحلة من العمر تتيح لهم قدراً من الاستيعاب وفهم الحياة على حقيقتها. وقد كتب مجدي الشوملي قصته الناجحة هذه، على خلفية تراعي فهم الفتيان وأشكال استيعابهم لما يحدث، وترك لنا موعداً مع قصة لاحقة ستراعي ولا شك فهم التاريخ والجغرافيا و..التربية.