الاحتلال يشدد من إجراءاته العسكرية شمال القدس    تحقيق لـ"هآرتس": ربع الأسرى أصيبوا بمرض الجرب مؤخرا    الاحتلال يشدد إجراءاته العسكرية على حاجز تياسير شرق طوباس    شهداء ومصابون في قصف الاحتلال لمنزل في رفح جنوب قطاع غزة    الاحتلال يواصل اقتحام المغير شرق رام الله لليوم الثاني    جلسة لمجلس الأمن اليوم حول القضية الفلسطينية    شهيدان أحدهما طفل برصاص الاحتلال في بلدة يعبد    مستعمرون يقطعون عشرات الأشجار جنوب نابلس ويهاجمون منازل في بلدة بيت فوريك    نائب سويسري: جلسة مرتقبة للبرلمان للمطالبة بوقف الحرب على الشعب الفلسطيني    الأمم المتحدة: الاحتلال منع وصول ثلثي المساعدات الإنسانية لقطاع غزة الأسبوع الماضي    الاحتلال ينذر بإخلاء مناطق في ضاحية بيروت الجنوبية    بيروت: شهداء وجرحى في غارة إسرائيلية على عمارة سكنية    الاحتلال يقتحم عددا من قرى الكفريات جنوب طولكرم    شهداء ومصابون في قصف للاحتلال على مناطق متفرقة من قطاع غزة    "فتح" تنعى المناضل محمد صبري صيدم  

"فتح" تنعى المناضل محمد صبري صيدم

الآن

العراقي سامي مهدي يقرأ تجربة توفيق صايغ الشعرية-احمد دحبور

كانت هدية طيبة نوعية، تلك التي تلقيتها مؤخرا مع اهداء يقول كاتبه رشاد ابو شاور: انني احق منه بتلك الهدية، وذلك لما يعرفه من اهتمامي غير العادي بالشاعر الفلسطيني توفيق صايغ، إذ إن الهدية هي كتاب من تأليف الشاعر الباحث العراقي سامي مهدي، بعنوان «تجربة توفيق صايغ الشعرية - ومرجعياتها الفكرية والفنية».
ولعلي لا أبالغ او آتي بجديد إذا اعترفت للشاعر سامي مهدي بأنه أحد أهم الشعراء العراقيين المعاصرين، على ما عرف عنه من عزوف عن الإعلام والدعاوى، فمع انه اصدر ست عشرة مجموعة شعرية - آخرها: لا قمر بعد هذا المساء - ظلت شهرته محدودة بالعراق تقريبا ولدى زوار العراق من ضيوف مهرجان المربد تحديدا، اضافة الى اصدقاء الشاعر من المثقفين العرب الذين يكنون له كل تقدير وتثمين لتجربته الشعرية. وقد اصدر سامي عددا من الكتب النقدية الهامة، مثل «أفق الحداثة وحداثة النمط - وعي التجديد والريادة الشعرية في العراق - الثقافة العربية من المشافهة الى الكتابة - نظرات جديدة في أدب العراق القديم» اضافة الى عدد كبير من الدراسات التي تضمنتها مجلات ادبية ولما تصدر بعد في كتاب. وقد نقل الى العربية مختارات من الشعر الاسباني المعاصر، واصدر كتاباً بعنوان سنابل الليل وهو مختارات، ترجمها هو، من الشعر العالمي.
اما الشاعر الذي كان موضوع دراسته فهو توفيق صايغ (1922 - 1971) وقد اصدر في حياته ثلاث مجموعات شعرية، هي «ثلاثون قصيدة - القصيدة ك - معلقة توفيق صايغ» وجمع صديقه رياض نجيب الريس مجموعة مخطوطة بعد رحيله اعطاها عنوان احدى قصائد توفيق. وهي «صلاة جماعة ثم فرد» وكان قد نقل الى العربية خمسين قصيدة من الشعر الامريكي، واربع رباعيات من شعر إليوت، كما ترك مؤلفاً متميزاً فريداً في اختصاصه هو «اضواء جديدة على جبران» مع انه وضع مقدمة لهذا الكتاب يقول فيها: لست جبرانياً، بمعنى ان دراسته كانت موضوعية منزهة عن الهوى او الاعجاب الشخصي.
انا وتوفيق صايغ
لقد استدرجني هذا الشاعر المنبوذ من الثقافة السائدة، بإعلان طريف عن معلقته، إذ نشر آراء جارحة شديدة السلبية في شعره لكل من رئيف خوري وأمين نخلة ونازك الملائكة وانعام الجندي، وأثار فضولي هذا الذي يجمع آراء منتقديه بشكل احتفالي، فذهبت الى شعره العسير - لمجافاته للخطاب السائد - فوقعت في اسر جاذبيته الشعرية وسارعت الى اقتفاء مجموعاته التي يوحي، حسب عناوينها، بأنها شعرية مع انه كما قالت نازك لم يكتب بيتاً موزوناً واحداً.. ولقد راسلته في مقتبل عمري، وكانت رسائله مقتضبة مهذبة، لفتني منها تعليقه يوماً على ضياع مجموعته القصيدة ك التي ارسلها الي في البريد فقال: انا افهم ان يسرق ساعي البريد احد اعداء المجلة التي احررها، ولكنني ارثي لذلك الساعي المسكين الذي تورط بسرقة كتابي، فماذا سيرى فيه غير ما يقوله الاساتذة الكبار من انني ما تعلمت الشعر ولا ينبغي لي؟
وحين ارسلت اليه مجموعتي الشعرية الاولى، وكنت في الثامنة عشرة من عمري، كتبت له في الاهداء: اما أنا فقد عشت زمان توفيق صايغ، ولقد كان شاعراً عظيماً.. وشاعراً عظيماً حقاً.. يومها اجابني توفيق ببرقية بريدية مؤلفة من كلمتين: احمد.. ابكيتني، ولقد ابلغت هذه الواقعة الى الشاعرة سلمى ا لضخراء الجيوسي فثبتتها، بأمانة، في احد كتبها النقدية، مشيرة الى ان هذا الشاعر المتعالي المكابر كان يضمر حساً انسانياً متميزاً.
وها أنذا أفسر معنى كلام رشاد لي بأنني احق منه في كتاب عن توفيق صايغ، فقد كان يدرك، على امتداد صداقة العمر التي تجمعنا، ما الذي يعنيه توفيق صايغ لي، ويزيد الأمر اهمية بالنسبة الي ان الكتاب من تأليف الشاعر سامي مهدي الذي لا اكف عن محبتي وتقديري له شخصاً ونصاً. في بداياتي، والآن.. فالى توفيق صايغ بقلم سامي مهدي.
هو كتاب يقع في خمس وخمسين ومئتي صفحة من الحجم المتوسط، في خمسة فصول مسبوقة بتقديم ومتبوعة بخاتمة. وقد رأى ان يكون الفصل الاول بعنوان «شعر صايغ ونقاده».. وفيه يذكر مبدئيا اسماء مجموعات الشاعر مع تفسير قلة انتاجه، بأنه العسر او التأني او الحرص على مراجعة القصائد وتدقيقها قبل نشرها، او مشاغل الحياة ومصاعبها، وعندي أن ذلك يعود الى هذه الاسباب مجتمعة.
وبأداء موضوعي رزين يوضح سامي مهدي ان شعر صايغ شعر حر لا وزن فيه، ويأخذ عليه نزوعه احياناً الى القوافي المفتعلة، والواقع ان الانطباع الذي تتركه آراء سامي مهدي تشبه عالم توفيق صايغ نفسه من حيث التردد والاضطراب، فهو يعطيه حقه بكل دراية وأناة لكنه يفاجئك بالانقضاض على ما يعتبره مفتعلاً في بعض شعره، كأنما اشكالية اليسرة الشخصية تنال من الرؤيا الفنية. ومع ذلك فقد أورد سامي اشارات الى من كتبوا ايجابياً في شأن صايغ، فنوه بثلاثة شعراء هم جبرا ابراهيم جبرا وسلمى الخضراء الجيوسي وخليل الخوري، واذا كان الأخير أقربهم الى الموضوعية والنزاهة والعمق، فإن جبرا كان يستسلم لمشاعره الودية تجاه صديق العمر توفيق. ونحن لا نستطيع الا ان نقر سامي على هذا التقويم، ولكن مع التذكير بأن اسماء شديدة الأهمية قد انصفت هذا الشاعر ولم تتم الاشارة اليهم في كتاب سامي مهدي. من هؤلاء مثلاً، الشاعر خليل حاوي الذي قال في صايغ: لعله المجدد الوحيد بين مخضرمين، وبدر شاكر السياب الذي قال لو أن شعراء النثر يكتبون مثل توفيق صايغ لما اعترضنا عليهم ولا على الشعر المنثور، اما سلمى الجيوسي فقد وصفت قصيدته «من الأعماق صرخت اليك يا موت» بأنها قصيدة حب عربية كبيرة ونادرة، فيما وصفه سيد عقل بأنه اجرأ الاقلام المشرقية..
شاعر مسيحي بامتياز
في الفصل الثاني، وعنوانه «مشروع صايغ الشعري - مرجعياته وموجهاته»، يورد سامي مهدي هذه الفقرة حرفيا: «.. فتكاد كل قصيدة من قصائده تعبر عن رؤية مسيحية للكون والحياة والاشياء والعلاقات» «وأثر هذا العمل لم يقتصر على الرؤية فقط بل شمل شكل الكتابة الشعرية ومادتها». وقد يكون مفيداً في هذا السياق أن نتذكر بيئة توفيق صايغ من حيث انه ابن قس انجليكاني هو عبد الله صايغ، وقد تلقى تعاليم أبيه الدينية منذ الصبا، ولعلها التعاليم التي يلمح اليها في معلقته قائلا: «تعاليم تركتنا في الناس لا منهم» بمعنى انها وفرت له نشأة مختلفة نتج عنها اغترابه الاجتماعي والنفسي، ويتعقب سامي مهدي ثقافة صايغ المبكرة فيلفته اهتمامه بالكتاب المقدس وصدوره عنه لا كنص ديني يعني المسيحيين وحسب بل كأدب أيضاً، وأن أثر هذا الكتاب قد ظهر في الأدب العربي المعاصر، ويذكر صايغ ثلاثة شعراء عرب مسيحيين قد ظهر تأثير التوراة في نتاجهم، هم جبران وسعيد عقل والياس ابو شبكة. وقال ان ما قام به هؤلاء «هو الاتجاه الصحيح ولكنه ليس الخطوة الجريئة الحاسمة»، أما هذه الخطوة كما حددها صايغ فهي ثلاثية المراجع، التوراة، الأدب المسيحي، والأدب العربي وبصورة خاصة الانكليزية منه، وقد ظهر تأثير اليوت في بناء قصيدته وآخرين في لغته وايقاعه وقلقه الروحي ويستحضر سامي مهدي مقالة كتبها توفيق صايغ عام 1951، قال فيها ان الشاعر الاول هو رجل الدين الاول، ويقصد بطبيعة الحال رجل الدين المسيحي.
لقد بلغ التماهي بهذا الشاعر مع المرجعية المسيحية، حد انه وصف اعماله ذات يوم بأنها انجيل توفيق صايغ. وهو ما يستدعي ملاحظتين هامتين، اولاهما اشار اليها سامي وهي ان في هذا الشعر بعض التمرد والعتاب وحتى الغضب، لكنه ليس هرطقة او تجديفاً على المسيح، بل هو خطاب أيوبي، نسبة الى النبي ايوب الذي ابتلي بمعاناة الآلام، واشتكى منها احياناً، لكنه تغلب عليها بالصبر وطاعة الله. اما الملاحظة الثانية فهي ان مسيحية توفيق صايغ ليست طائفية للتميز عن العقائد الاخرى وليست ترفا بل هي نوع من تقمص السيد المسيح وآلامه مع استذكار فصول حياته وعظاته ورؤياه كما وردت في الأناجيل. وقد أخذ سامي على صايغ ان استغراق الأخير في الجو المسيحي احاطه بغموض قد يصعب استيعابه على القراء العرب ومعظمهم مسلمون: «خذ مثلاً قصيدة موعظة على الجبل، فالقارئ الذي لا يعرف ما هي الموعظة، ومن صاحبها، والظروف التي قيلت فيها، لا يستطيع فهم هذه القصيدة وتذوقها كما ينبغي التذوق». واذا كانت هذه ملاحظة صحيحة - وهي كذلك في رأيي - فان هاجس سامي مهدي في تتبع صايغ حسب النص ا لمسيحي، دفعه الى بعض التزيد احياناً عندما اعتبر ان اشارة صايغ الى سيفين في يدي أمه وحبيبته، انما جاءت من وحي قول السيد المسيح: ما جئت لألقي سلاماً بل سيفاً.. والواقع ان السيفين في هذه الصورة هما رمز للمحنة الاوديبية التي عاناها الشاعر، فشخصية امه تعذبه لهيمنتها عليه، واذا بحبيبته كاي تشكل تعذيبا موازياً فهو واقع بين سيفين. وكما نجح سامي مهدي في ضبط مسيحية الشاعر كنت اتمنى لو توسع في شرحه حتى وصل الى الركيزة الأوديبية التي تميز شخصيته الشعرية اضافة الى ركيزتيه المسيحية والفلسطينية.
التجربة اللغوية
اما الفصل الثالث في هذا الكتاب، وعنوانه «تجربة صايغ اللغوية»، فينتمي الى الفصل السابق من حيث هو توسع، ولكن على مستوى لغوي، في استخدام الشاعر لأدوات اللغة المسيحية، كما وردت في الكتاب المقدس، وينطلق من مقولة سليمة مفادها انه «ما من تحول شعري جدي إلا وكان، في صميمه، تحولاً في اللغة، وكان صايغ يدرك هذه الحقيقة، ولذلك عمل جاهداً على تحقيق تحول في لغته، حتى ليمكننا القول انه من الشعراء المحدثين القلائل من ذوي التجربة اللغوية».
والقارئ المخلص لا يستطيع الا تهنئة سامي مهدي على نجاحه في استقصاءات صايغ اللغوية وتعدادها بدءاً بتأثره بلغة التوراة حسب الترجمة الصادرة عن جمعية الكتاب المقدس في الشرق الأدنى، مروراً بظاهرة التقابل او الازدواج، او اسلوب التقديم والتأخير في الكلام، والاكثار من استخدام الافعال الثلاثية المزيدة بحرف واحد، بتشديد عين الفعل، زيادة على ما هو دارج في لغتنا، كأن يقول: ارتكضنا، او يستذنبك، او التبط، او التركيبات الوعرة غير المألوفة مثل أنت المحيري - بمعنى الذي تحيرني - اضافة الى شيوع مفردات لديه قد لا تجدها الا في الاناجيل.
والطريف ان الظواهر الشاذة التي يستغربها سامي مهدي قد تكون محط اعجاب كاتب فلسطيني كبير مثل جبرا ابراهيم جبرا الذي هو صديق عمر توفيق صايغ وتوأمه الثقافي، اذ يقول جبرا: «ان صايغ حاول ان يصهر اللغة، قديمها وحديثها، اليفها ووحشيها، في بوتقة صنعها بنفسه ليعيد سكبها في قوالب من خلقه» وتؤيد الشاعرة سلمى الجيوسي هذا الرأي مشيرة الى ان الشاعر قد يلجأ احياناً الى اللفظة العامية ليدرك اقصى ابعاد المعنى المنشود.
وإذا ظل سامي مهدي يندد بهذا النهج اللغوي ويعتبره نابياً حوشياً مليئاً بالأخطاء، فإنني أشير الى حيرتي الشخصية في بعض مفردات صايغ وعباراته، وقد حملت ذات مرة بعض ما استغلق علي فهمه الى الاستاذ جبرا لاستوضحه المعنى في كلام مثل «مزوخ اللجين - او اشرشق - او كالشامبليون سعت» وقد كان جبرا كريماً معي فشرح لي ما يقصد صايغ بتوسع ولكني - اعترف من جديد - تلقيت كلماته بأذن فخرجت من الأذن الثانية، الا انني استعضت عما لم افهم بالاحساس الذي استقيه من السياق العام.
ويخلص سامي مهدي من الجهد الشاق المتمثل في محاولة اختراق عالم صايغ اللغوي، الى «ان من حق الشاعر ان يسعى الى الكتابة بلغة جديدة، ومن حقه ان يجتهد ويتجوز ويبتكر، ويخرق القواعد في بعض الاحيان، ولكن ذلك لا يكون مقبولاً الا بشروط موضوعية تضع الاجتهاد في اطاره الصحيح» ولا يواظب سامي مهدي على هذه المناقشة الموضوعية، اذ لا يلبث ان يعيد مغامرات صايغ اللغوية الى اسباب سياسية كرفض الشاعر للثقافة العربية والانتماء، بسبب حزبي، الى ثقافة سورية مغلقة.. وفي هذا شطط واضح، لأن الهاجس الأول عند صايغ هو الابتكار والمفاجأة والاختلاف وليس نقض اللغة العربية.وصايغ هو الذي يسمي عمله معلقة توفيق صايغ، وفلسفته انجيل توفيق صايغ، بمعنى ا نه يميل الى تجربته اللغوية الشخصية لا الى تزود حزبي مفتعل.
إن آل صايغ، وهم الاشقاء فايز ويوسف وأنيس وفؤاد وتوفيق، فلسطينيون من طبريا، وقد مروا جميعاً، ربما بتأثير د. فايز صايغ، بتجربة الحزب السوري القومي الاجتماعي، بمن فيهم د. أنيس الذي تحول فيما بعد الى مفكر عربي مرموق، ولكن تجربتهم الحزبية كانت سريعة ولا أظنها تركت أثراً أيديولوجياً في شعر توفيق صايغ كما ذهب الى ذلك سامي مهدي.
بالشعر بالنثر
كان مأثوراً عن توفيق صايغ انه قال: ان نتاجي قائم على كتابة الشعر بالنثر، ويدعم سامي مهدي هذه المقولة، في فصله الرابع الذي جعل عنوانه «صايغ والبحث عن نظام ايقاعي بديل»، وهو يواصل نظريته الخاصة بتأثير التوراة في هذا الشاعر، فينقل عن توفيق صايغ قوله: «إن شعر التوراة وإن كان في أبياته إيقاع إلا أنه يخلو من الوزن ويندر ان نجد فيه قافية» ثم يضيف مهدي: يبدو أن صايغ قد اكتشف، بعد تجربة، ان تخليه الكلي عن الوزن والقافية سيلحق الضرر بشعره، ويهبط بقصائده الى مستوى الخواطر النثرية، فراح يبحث عن بدائل تمد شعره بايقاعات جديدة».. ويبدو انه لا مناص من تسجيل نقطة خلاف «او اختلاف» مع ما ذهب اليه سامي مهدي، فشاعرنا لم يجرب التخلي عن الوزن، بل انه تخلى عنه منذ البداية، حسب مجموعاته الشعرية المتوفرة للجميع، كما ان هذا المنهج لم يقتصر على ما جاء في ا لتوراة، إذ إن في الكثير الكثير من الشعر الاوروبي والامريكي نماذج ناجحة مكتوبة بلا وزن او قافية، فضلاً عن ان التوراة على ما فيها من مناخات شعرية كنشيد الانشاد او مراثي ارميا او المزامير، هي كتاب نثري اساساً، بل تكاد فصوله الاولى مثل سفر التكوين ان تكون مادة تاريخية. وللأمانة، نعترف لسامي مهدي بأنه لم يغفل عن هذه الحقيقة، ولكنه يتطرف حين يحيل مرجعية صايغ الايقاعية كلها الى التوراة.. وفي هذا شطط كبير.
فإذا انتقلنا الى الخطوة الاجرائية الخاصة، عند صايغ، بايجاد بدائل ايقاعية، يسرع سامي مهدي الى تذكيرنا بأن اشعار صايغ لا تخلو من اشطر موزونة، والواقع ان كلام العرب القائم صوتياً على جدل بين السكنات والحركات، كان يتسع دائماً الى نهج البلاغة، فوجود أسطر موزونة كان دائما أمراً ممكن الحدوث. صحيح ان في شعر توفيق صايغ جملاً ذات ايقاع، مثل: برقت إذ مرقت، حيث لا يتوقف الايقاع على الوزن، بل يشمل النغمات الصوتية والجناس، او انه يلجأ الى المفارقة، كأن يقول: كسيح ولا مسيح، وهي الجملة التي اقتبسها السياب في احدى قصائده مع الاشارة الى مصدرها، الا ان هذه العلامات يجب ان توضع - حسب رأيي المتواضع - في جملة مشروع توفيق صايغ الباحث عن لغة مختلفة وآفاق مختلفة. ولهذا الشاعر قصيدة لعلها الوحيدة التي لم تضمها اعماله الكاملة، وعنوانها «الكلمة الأخيرة هي دائما للحيوان» وفي هذا النص الطريف، يستحضر الشاعر شخصية مريم العذراء وهي تلد المسيح في مذود الحيوانات، ويترك مريم تقارن حالها بحالات الكائنات الحية كلها، فتقول والضمير في كلامها عائد الى الحيوانات:
فيها وفي سواي
دخول وخروج
ودخول ولا خروج
وفيّ أنا: خروج ولا دخول
وغني عن القول ان الدخول والخروج، في هذا السياق، حركتان تتعلقان بالفعل الجنسي والولادة، وترى مريم ان الخروج منها، قد تم بلا دخول عليها، في اشارة الى المعجزة المسيحية الشهيرة: الحبل بلا دنس.. ويترتب على ذلك في رأيها ان الوليد القادم، وهو المسيح:
سيكون آباً
ولن يكون قط أباً
وبهذه الرؤيا الأوروبية تكتمل صورة توفيق صايغ المركبة شعرياً من أبعاد ثلاثة متكاملة هي المسيحية والفلسطينية والأوروبية.. وما كان لهذه الصيغة ان تتضح، بسبب من الحاجة الى الشروح والتعليقات التي لا يحتملها الوزن، الا في النثر.. وعلى هذا فقد كان محقاً عندما ذهب الى انه يكتب الشعر بالنثر.
أما ما يتعلق بالقوافي فهو يستخدمها بوضوح، على أن نتذكر ان اشهر نص عربي تتوفر فيه القوافي هو القرآن الكريم وليس التوراة. ومع ذلك يجب ان نتفق مع سامي مهدي في متابعته لصايغ وهو يحاكي الشعر العربي فيستخدم احياناً اطلاق الروى، كأن يقول: اجوب الحنايا، افتش عن ردايا، ابحبش عن فدايا.. فإلى أي مرجع يعود هذا الكلام؟ هل هو خطاب مسيحي، أم وسطي، أم تركيب يجمع المتناقضات؟.. انه هذا كله.. شاعر بالنثر.
أثر الشعر الإنكليزي
عنوان الفصل الخامس والأخير من هذا الكتاب «شعر التجربة الدينية الانكليزي وتأثيره في شعر صايغ». وينطلق المؤلف في هذا الفصل من أن الصورة عماد قصيدة توفيق صايغ من اولها الى آخرها «فشعره شعر صور بصفة أساسية». ويؤكد المؤلف ما هو متعارف عليه من ان وعي صايغ يتدخل في انتقاء الصور واختيار موضعها «وهذا يعني انه كان يكتب القصيدة بناء على فكرة سابقة ومراجعة مستمرة» ولعل في هذا ما يفسّر قلة قصائد هذا الشاعر الذي كان ينفق الوقت الأكبر على اختيار موضوع القصيدة وهندستها. ويعيد سامي مهدي هذه الظاهرة الى ولع صايغ بالتوراة اولاً بالشعر الانكليزي، ويتوقف بصورة خاصة عند اهتمام صايغ بشعر ت. س. اليوت وقصائده الكبرى: الارض اليباب واربعاء الرماد والرحال الجوف والرباعيات الأربع. ومع ذلك يرى سامي مهدي فرقاً بين التجربتين إذ يرى ان شعر اليوت مبني على الصور التركيبية فيما يقف شعر صايغ عند النمط السردي التعاقبي وهي وجهة نظر قابلة للمراجعة، لأن مسار توفيق صايغ كما أراه، ذو طبيعة سيكولوجية تأملية غنائية، أما أن صوته فردي في قصيدته كما يذهب مهدي، فهذا صحيح مع الأخذ بعين الاعتبار أن هذا الصوت الفردي مركب، كما أشرت، من صيغة مسيحية اوديبية في اطار روحي فلسطيني.
ومن شعراء التجربة الدينية التي يفيدنا سامي مهدي بأن شعر صايغ متأثر بهم، الشاعر الانكليزي ريتشارد سيتوارت توماس الذي اعترف بأني لم أطلع على شعره، وإن كان سامي مهدي يورد بعض التناص - حتى لا يقول الاقتباس - عند صايغ المتأثر بتوماس.
على أنه يصل في نهاية المطاف الى ما نتفق عليه، وهو - وأنا أنقل كلام سامي مهدي حرفياً لأني اتبنى هذا الكلام: «إن تحدثنا عن شعر مسيحي في الشعر العربي، فلا بد لنا أن نعد صايغ الرائد الأول فيه، فقد كانت كتابة هذا الشعر قضيته الاولى التي حاول أن يكرس لها امكاناته الثقافية والفنية».
وأرجو ألا أتهم بالتكرار إذا ألححت على ان قراءة سامي مهدي المعمقة هذه لم تتوقف عند محنة توفيق صايغ الاوديبية، وهي مسألة تحتاج وقفة خاصة ربما تستحق مني كتاباً كاملاً وهذا ما أرجو أن أنجزه إن كان في العمر بقية من عزم وعزيمة.

 
 

إقرأ أيضاً

الأكثر زيارة

Developed by MONGID | Software House جميع الحقوق محفوظة لـمفوضية العلاقات الوطنية © 2024