من أين نبدأ النعي يا علي؟ - تامر المصري
على غير العادة، طلب مني عند مدخل السفارة، قبل وفاته بأيام أربعة؛ لا أكثر، وهو بكامل بشاشته وأناقته المتواضعة، في جو ربيعي ماطر، أن التقط له صورة لأرسلها له، فأجبته؛ لك أكثر من واحدة. ثم جاءني صباحا في اليوم التالي، ليخبرني بأن الطبيب قد نصحه بإجازة لمدة عشرين يوما سائلا: هل أطلبها وفقا لمسودة النص هذا؟ فأجبته: إن كنت ستأخذها وتلتزم الراحة فلمَ لا تطلبها، فرد قائلا: انسَ الأمر إذن. وقبل ذلك بأشهر، كانت لا تزال تحتفظ سفارة دولة فلسطين لدى جنوب إفريقيا، بأكبر علم فلسطيني، تم رفعه في مباريات كأس العالم عام 2010م، فطلب مني الاحتفاظ به وعدم إنهاكه في الفعاليات؛ مبررا ذلك؛ جادا ومازحا في آن واحد بقوله: قد نحتاجه يوما لنلف به تابوتا ما.
وذات مرة؛ خطر له أنه يفضفض عن نفسه، مستشيرا إياي في مسألة كتابة سيرته الذاتية، بما لا يتجاوز الصفحة الواحدة، ففعلت ذلك، وقدمتها له بنسختيها العربية والإنكليزية، دون أن يسألني عنها لاحقا، بعد أن اطمأن إلى أنني أحتفظ بها لدي. ثم أحضر لي في غيرة مرة أخرى، صورة شخصية بخلفية خضراء، يظهر فيها شبابه وشيبه معا، وقال إن هذه أحب الصور إلي، وأودع نسخة الكترونية منها طرفي. وفي مناسبة مفجعة بوفاة صديق تنزاني له، قال لي: قد تصحو ذات صباح، وتجدني ميتا.. وأنا أتساءل الآن؛ لماذا أعطاني علي حليمة كل هذه الإشارات، حول إحساسه بدنو الأجل، دون أن أنتبه إلى أنه قد يفاجئنا برحيله على هذا النحو، الذي اعتصرنا حزنا وألما وتعبا ..؟؟
أعترفُ أن رحيل سفير دولة فلسطين لدى جمهورية جنوب إفريقيا علي حليمة، من أكثر الهزائم النفسية التي تعرضت لها في حياتي، وأفدح الخسارات المعنوية التي تهون بعدها أي خسارة. وأعترف أيضا أن هذا الرجل قد أبكاني حيا وميتا، وشدني إليه في وقت كنت أعتبر فيه أن تحرير العاطفة من أي أسر، سمة من سمات النضج المبكر، للتحلل من أي ضغط نفسي، في حياتنا الفلسطينية المليئة بالمطبات والأحزان. كما أعترف بأنني مدين لهذا السيد النبيل كما أراه دائما، بالكثير مما لا ينبغي التنكر فيه إليه، على المستويين الشخصي والمهني، وذلك في أوقات التناغم والتباين معه.. وأشهد بأن الشهم علي حليمة من خيرة السفراء، وأكرم الناس، وأكثرهم عملا وتفانيا وتواضعا، وحبا للوطن والأمة والإنسان.
كثيرون من يمتدحون الموتى، من باب اذكروا محاسن موتاكم، ولكن ماذا لو لم يستطع هاو مثلي أن يعدد محاسن فقيده في مقالة أو اثنتين أو عشرة أو عشرين.. لقد صار الذكر منقوصا في هذا المقام. ولكني أجتهد لاستنهاض فكرة مفادها أن السفير علي حليمة، كان أنموذجا قائما بذاته، يصعب عليه القياس، ولا يخضع للمقارنة، وكان مدرسة أعتز بأنني أحد تلامذتها المقربين منه.
يراودني شعور بالتمني، منذ أول ساعة، شهدت أولى ردات الفعل على وفاته، في فلسطين وجنوب إفريقيا وزيمبابوي على وجه التحديد، والدول الإفريقية عموما، على المستويات السياسية والدبلوماسية والإعلامية، لأقول له كم كان رحيلك حدثا. وأخبره أن موته قد أفسد إجازة نهاية الأسبوع لدى الكثيرين، من سفراء ونواب وزراء ووزراء ورؤساء أيضا، خرجوا ليؤبنوك ويعلنوا أنهم قد خسروك، كما خسرتك القضية الفلسطينية، في ظرف لا يحتمل الخسارات.. أريد أن أقول له؛ أنت كبير يا أبا أحمد، وكبير جدا أيضا، وأنت رقم فلسطيني مهم، في الدبلوماسية والكرامة والانتماء.
ما أضيق الحياة، وأسوأ المرحلة، وأقبح الظرف، وأشد البلاء، حينما يولد من هو مثل هذا الرجل لاجئا، ويربو يتيما، ويعيش غريبا، ويموت في بلد، لينقل فيدفن في بلد آخر، دون أن يكون له قبر في ترشيحا التي كان يفاخر أنها آخر أرض فلسطينية سقطت عام 1948م، من غير أن أعرف من أين يبدأ النعي لوريد القلب؛ علي حليمة، بعد قراءة الفاتحة وأداء التحية على روحه بالسلام والرحمة والغفران!