العودة كما رواها فيصل حوراني في كتابه «الحنين»- احمد دحبور
أخيراً، وكما كنت أتوقع، كتب فيصل حوراني ما كان علينا أن نكتبه، نحن معشر العائدين الى الجزء المتاح لنا من الوطن عام 1994، وهل فيصل إلا واحد منا؟ وهو - لمن لا يعرف التفاصيل - مولود عام 1939 في المسميّة من أعمال غزة، وقيل هي من قضاء الرملة. لجأ مع أهله الى سورية بعد نكبة 1948، وهناك درس وتخرج من جامعة دمشق، قسم الفلسفة، وقد شارك في تأسيس رابطة الطلاب الفلسطينيين وأصبح رئيساً لها فترة من الزمن عام 1964.
عمل فيصل في الصحافة مبكراً، وهو عضو مجلس وطني فلسطيني، وقد عين رئيساً لقسم الدراسات الفلسطينية في مركز الأبحاث عام 1979، أما الآن فيواصل مشروعه الكتابي في العاصمة النمسوية فيينا حيث اختارها مقاماً منذ سنوات.
أصدر ثلاث روايات، هي «المحاصرون» و«بير الشوم» التي تحولت الى مسلسل تلفزيوني، و«سمك اللجة»، وأصدر أربعة كتب فكرية سياسية، هي «الفكر السياسي الفلسطيني من 64 الى 74» و«عبد الناصر وقضية فلسطين» و«العمل العربي المشترك واسرائيل: الرفض والقبول» و«جذور الرفض الفلسطيني».. ويمكن القول إن أهم آثاره كانت خماسية دروب المنفى، وهي قراءة تحليلية تاريخية من خلال سيرة حياته، وقد وضع لكل جزء من هذه الخماسية الضخمة عنواناً مستقلاً، هي على التوالي: الوطن في الذاكرة - الصعود الى الصفر - زمن الأسئلة - الجري الى الهزيمة - أين بقية الحكاية؟..
ثم أصدر هذا الذي لا يتعب، كراسة بعنوان «معالجة الحزب الشيوعي السوري لمسائل فلسطينية».. اضافة الى هذا الكتاب الذي أمامي: «الحنين - حكاية عودة»..
وللتاريخ، نتذكر انه في عام 1968، عندما شارك الشاعران محمود درويش وسميح القاسم في مهرجان الشبيبة العالمي في العاصمة البلغارية، بادر الى الاتصال بهما ومصافحتهما، ما أغضب حزب البعث الذي كان ينتمي إليه، فتم فصله فوراً من غير محاكمة حزبية..
وللمفارقة نذكر أيضاً، انه في مهرجان الشبيبة العالمي الثاني، الذي جرى في برلين عام 1973، حضر من الأرض المحتلة الشاعران توفيق زياد وسالم جبران، رحمهما الله، فهرع كثير من العرب المشاركين الى مصافحتهما.. بمعنى أن رؤيا فيصل المتقدمة كانت صحيحة منذ البداية، وظل شعراؤنا في الداخل رمزاً رافعاً لأدب المقاومة.. أما لماذا كان التيار الرفضحي يرفض اللقاء بأهلنا هؤلاء، فلأنهم يحملون جوازات سفر اسرائيلية، وكأن الفلسطيني المغتصبة أرضه، يملك من أمره شيئاً في هذه المعادلة المعقدة!!
كلنا ذلك الرجل
شأن الكثير من الفلسطينيين الذين صدمهم اتفاق اوسلو، لأسباب مختلفة بطبيعة الحال، ثم صدمهم السؤال الأكبر حول العودة الى الجزء المتاح لنا من الوطن بموجب ذلك الاتفاق، لم يستطع فيصل حوراني غير ان يسعى الى الوطن، إلا أنه بما يشبه تبرئة الذمة، اشترط ان يوفر له الرئيس عرفات خلوة معه، ولو لساعة، حتى يطرح الأسئلة التي تؤرقه.
وهكذا وجد نفسه، بعد ست وأربعين سنة، او سبع وأربعين. في مواجهة غزة.. ولم يكن فيصل ضد الاتفاق مع العدو إلا «إذا وفر الاتفاق أسساً لحل عادل ومستقر».. فقد كان يدعو في كتابته صراحة الى مثل هذا الحل، لكنه بعد قراءته نص اتفاق اوسلو، وبعد أن قابل من قابل من الداعين الى الاتفاق، وجد أنه لا يلبي متطلباته الوطنية..
ثم عاد، وتحققت له الخلوة مع الرئيس.. وقد كان الانطباع الذي يتركه ما كتبه فيصل حول هذه الخلوة، هو أن أبا عمار نفسه كانت تراوده الهواجس ويقول: عدونا مخاتل فلماذا لا نأخذ بختله؟ وإذا اغتصب أرضنا قطعة قطعة فلماذا لا نعيدها بالأسلوب ذاته؟ وأضاف: «تعرف أنني سيد الحذرين».. وبعد أن عرض فيصل شكوكه في ظل التوازن المختل لصالح الاحتلال، خلص الى أن هذه مجازفة غير مضمونة العواقب.. «ومن أنا حتى أتمكن من إقناع عرفات بالتوقف؟». فكلنا يعرف أن هذا الرجل إذا صمم على أمر فإنه يمضي به الى آخر مدى. إلا أن هذا لا ينفي اعتراف فيصل للرجل بسعة الصدر، فقد تقبل نقده من غير مقاطعة، وهو الذي - كما نعرف - كان شغوفاً بمقاطعة محاوريه والمصادرة على أفكارهم ليؤكد ما يؤمن به. وانتهت الخلوة باتفاق ضمني: الحق في معارضة الاتفاق مكفول مبدئياً، لكن الاعلان عن ذلك مؤجل حتى يتأكد المعارض من صواب رأيه..؟
ويواصل فيصل: اتضح حتى للذين أعماهم تفاؤلهم أن العدو المسلح بتفوقه المادي هو الذي يرسم النتائج. «حصلت اسرائيل على ما توخته من الاتفاق ولم تف بما التزمته».. من جهة ثانية توقفت مرتبات معظم العاملين في مؤسسات م.ت.ف وقيل إن السبب هو شح الموارد المالية. وفي مراقبته لهذا الوضع، وفي ظل ما رشح عن أنباء تتعلق بالفساد، وجد فيصل نفسه يكتب رأيه صريحاً حاداً «ولماذا أحبس السخط، ولماذا يحبس سخطه أحد حين يكون واحداً من المكتوين بالنار؟».
ويورد فيصل في هذا السياق أسماء شخصيات أسهمت في تخفيف مأزق فيصل الذي لم يستطع العودة في تلك الظروف، فيعترف لأسعد عبد الرحمن ود. منير الحمارنة وحاكم الفايز بتسهيل ظروف اقامته في الأردن، كل منهم حسب موقعه وقدراته، فيما نصحه شخص، أطلق عليه الكاتب اسم عائد، بالمجاملة والمهادنة ولجم اللسان، فغضب فيصل ولم يلق بالاً لهذه النصيحة..
وفي لحظة يأس خاطب فيصل أمه هاتفياً: لن يرجعوني إليك يا أمي.. وتجيبه العجوز الحاذقة بعبارة تحمل معنى كبيراً جداً: أنت متأخر في كل حال.. الذين سبقوك لم يبقوا لك منصباً تشغله، او شيئاً تسرقه.. والواقع أن مثل هذا النقد الشعبي الشفوي كان كثيراً ما يقال في الأوساط الفلسطينية المتبرمة الحائرة أمام التحولات السريعة في المشهد الفلسطيني بما لا يسهل استيعابه عند الكثيرين.. وهو، ما يتيح لفيصل أن يعلق على رد أمه الحاد، بالقول: ما أشد اعتزازي بأن أكون ابن هذه الأم..
رحلة الآلام
«أيها الوطن الذي لا وطن لنا سواه، كان الخروج منك موجعاً، صارت العودة إليك موجعة، والسبب واحد في الحالتين والمسبب» بهذا الكلام يختم فيصل ذلك المقطع المثير من رحلة العودة، ملخصاً ما مر به من معاناة. وقد بدأ رحلة العودة هذه، بالعبور على جسر ألنبي الذي يسميه عامة الناس جسر اللمبي، أو جسر الملك حسين، وهو عبارة عن دفوف خشبية مقامة على نهر الشريعة لتصل بين فلسطين والأردن، وكان أول ما يعانيه العائدون، أو أبسط، هو الجو الخانق الحار، وكان حر الغور لاهباً، وغدت محدودة الجدوى قدرات المكيف الكليل الرديء. وكانت تعليمات الحافلة التي تقلهم واضحة صارمة: ممنوع الوقوف، ممنوع أن تتحركوا، ممنوع إسدال ستائر النوافذ.. وبعد سلسلة الممنوعات تبدأ سلسلة الوقفات، فجنود الاحتلال يوقفون الحافلة لغير سبب إلا انهاك الفلسطينيين العائدين او المغادرين.. ثم تبدأ محنة التفتيش، حيث تبرز قسمات المجندة الاستفزازية وهي تطفح بعدوانية مرسومة، هل كانت تلك الملامح «تعبيراً عن مشاعر عنصرية تبيح الوظيفة الافصاح عنها؟ تساءلت، ولم أصل الى اجابة» الى أن يظن الفلسطينيون ان الفرج قد جاء، فقد ظهرت لوحة مكتوب عليها: السلطة الفلسطينية، ولم تنس المجندة أن «تودع» الحافلة باحتقار: يللا..
وما بعد ذلك يعرفه كل فلسطيني وصل الى المعبر. كان رجال الشرطة الفلسطينية في الموقف الأضعف. وحين يأخذون منك جواز السفر، فإنهم يدخلونه في جارور لا يلبث أن يتم اغلاقه حتى يتكرم رجل الاحتلال فيفتح الجارور معيداً اليك الجواز.. وفي حالة فيصل ثمة عقبة تفصيلية، فقد توقفت آلة الأشعة التي يضعها المحتلون، عند خاتم الزواج في يده بوصفه قطعة معدنية، وأرغموه على خلع حذائه، ثم أمروه بخلع النظارة عن عينيه، وقد استوقفهم ان احدى عينيه زجاجية!! وكان لا بد من الاستدعاء والاستجواب مع اعتذار من الشرطي الفلسطيني: حسب الاتفاق.. هذا من حقهم؟؟..
وبلا طول سيرة يجد نفسه أمام محقق اسرائيلي يحمل اسم فريد. فيقول فيصل ساخراً: فريد، اسم مستعار بالطبع.. وهو بهذا يشير الى انه لا تنطلي عليه حركاتهم، اما هم فيواصلون التحقيق الذي يسمونه دردشة لتبادل الحديث. فما هو رأي الفلسطيني القادم هذا باتفاق اوسلو.. ويجيب بأنه لا صلاحية له للدخول في حديث سياسي مع محقق، فيحاول هذا أن يبدو ظريفاً عالماً بشخصية من «يحاوره» فيسأله: ألست كاتباً؟
وبعد هذا الموقف السمج، يبدأ التفتيش الحقيقي، فيسألونه ما إذا كان في حقيبته ممنوعات وما اذا كان هو الذي رزم حاجياته، ثم يطلبون منه أن يفتحها، وبعد فحص الحقيبة تسأله المجندة أي سؤال لتطيل وقوفه وانتظاره «وفي حيرتي، أنا الذي رأيت ما جعلني أستحضر أجواء روايات كافكا، لم أدر ما إذا كان من حقي أن أنبه الفتاة الى حاجتي للانصراف». ويمر الوقت مضبوطاً بايقاع الساعة في حساب الزمن العادي، لكنه كان دهوراً بالنسبة الى هذا الفلسطيني المرهق. المثقل بالهموم والانتظار العبثي. ولن يغير من الأمر شيئا أن ينفجر غضباً في وجه المجندة التي لا تتحمل وحدها مسؤولية هذا الوضع، بل هو الاحتلال أولاً وأخيراً.. الاحتلال سبب شقاء الفلسطيني، وها هو الفلسطيني العائد أمام ناسه..
في حضرة الوطن
- علينا أن نصبر. نحن على أول درب، والمشوار طويل يا أخي ومعقد، وليس لنا إلا الصبر..
بهذه الكلمات واساه الموظف في الجمرك الفلسطيني.. ولم يكن الموظف ولا فيصل ولا أي فلسطيني في هذا الموقف إلا الصبر. لقد غادر عمان في السابعة صباحاً، وها هو الآن، بعد أن ظن انه وصل، يتأمل أريحا والساعة في يده تشير الى الثانية بعد الظهر..
وتستأنف دورة الإزعاج سيرتها، فيبلغه السائق الريحاوي أن إذن الزيارة يجيز له زيارة غزة وحدها، وأن عليه بالتالي أن يصل الى قطاع غزة قبل السابعة مساء.. فكما تعلمون إن تصريح المرور مشهور بصيغة زمنية محددة، من السابعة الى السابعة أي من الصباح الى المساء، وإلا فالعودة وانتظار فرصة جديدة. وكان له أن يتأمل الطريق ومغزى علامات الأمكنة: مظاهر الخراب والعوز في الجهة المتاحة للفلسطينيين ومظاهر العمران والترف في الجهة المحتلة التي لا بد من عبورها حتى يصل الى قطاع غزة. اما المفارقة الدرامية ففي محاولة السائق ان يبطئ حتى يتمكن الراكب من رؤية ملامح وطنه، أما العائد الحزين المقهور فهو يريد منه أن يسرع فلعله يريحه من وطأة الذكريات ومشاهدة المعاناة..
«ما كان أوجع ما وقع نظري عليه، مدرستي، سنوات دراستي الثلاث..» إن كل ما يقع النظر عليه مؤلم. فوراء كل حجر فصل من ذكريات، والشريط البصري المديد، يقص تاريخ شعب معذب.. وعند مفرق بيت حانون، يوقف السائق الريحاوي سيارته: حضر اوراقك، فعند هذا الحد تنتهي صلاحية عبوري..
وأمام الشرطي الفلسطيني يبدو الراكب العائد المنهك عصبياً، وهو يسأل ما إذا كان هذا الشرطي يملك حقاً صلاحية ادخاله او اعادته الى حيث كان.. وبعد لحظة تأمل مع النفس، حيث الاحتلال لا هذا الشرطي المسكين هو المشكلة، يستدرك فيصل قائلاً للشرطي: اعذرني يا بني، أنا لم أقصد..
ثم كانت الاضاءة الاولى.. ظهر فتى فلسطيني ماداً ذراعيه وهو يهتف: عمي.. كان ذلك الفتى، هو ابن رباح، شقيق فيصل من أمه، وهو الذي ينتظره مع الأسرة على أحر من الجمر. أما كيف عرف الفتى عمه الذي لم يره من قبل، فبسبب الشبه الكبير الذي يجمع الأبوين: فيصل ورباح.. وها هو فيصل على شفا أن يرى أمه: «أمي والوطن في يوم واحد» أما الأم العجوز الصابرة المنتظرة فلها تعليق رددته أمهاتنا جميعاً لمناسبات كهذه: الآن أستطيع أن أموت وأنا مرتاحة البال..
وهكذا تكون رحلة العودة قد توجت باللقاء، ويبقى الفاصل الدراماتيكي، فأين سينزل الضيف العزيز؟ انه مشدود الى أمه في آل مهنا، ولكن عمومته آل الحوراني يرون أنهما أحق عشائرياً باستقباله. وتحل المشكلة ابنته لمى، فمن أحق من البنت بأبيها؟ وهكذا نزل فيصل عند صهره عدي.
«عاملني إخوة رباح لأبيه بوصفي أخاً لهم». فتلك هي تقاليد الأسر الفلسطينية المحروسة بشهامة زاد الاحتلال والرد عليه من حساسيتها، فهذا العائد بعد زهاء نصف قرن الى وطنه، سيجد بين أهله وذويه ان البيوت كلها بيوته. وله ان يتساءل: هل كنا في المنفى غرباء عن وطننا الواقعي أو عن الوطن الذي تصورناه؟ وهو تساؤل يستدعي حقيقة أن الحنين ظل قائماً، فالفلسطيني هو الكائن الذي يحن الى وطنه حتى وهو فيه.. «لن يبرح الوطن الجميل ذاكرة أي منا، ولن تصير البقايا المهشمة التي يعرضها اوسلو علينا بديلاً لأي وطن».
- هل هذا الخراب هو الوطن الذي كنت تعيش بهدف أن تراه؟.. ما أراه ليس خراباً كله. أن تتوفر الرغبة في الإصلاح فهذا عندي في حد ذاته عمار..
ثم ماذا؟
انه الى جانب فلسطينيته، يظل صحفياً وكاتباً، وسوسة السياسة لا تفارقه.. وهكذا كان من المسلم به أن يجتمع الى صاحب المشروع الملتبس الكبير.. فإلى ياسر عرفات.
مع القائد العام
يتبسط فيصل حوراني في وصف انطباعاته عن اللقاء الأول، في فلسطين، مع الأخ أبي عمار، حتى ليلاحظ فوراً فرقاً واضحاً بين مكتب القائد العام في بيروت أو دمشق، والأبهة التي باتت تشمل مكتبه وهو رئيس السلطة الوطنية في غزة، على أن فيصل يحاول أن يفهم، أو هو فهم أن هذه شخصية أبي عمار، فهذا الذي أخر مجيئه، يبادئه أول ما رآه بالعتاب لأنه تأخر عليه. وفي تلك الخلوة الحميمة، لم يقاطع أبو عمار هذا الذي أتاه بذاكرة وقلب مفتوحين، فهو يتذكر والرئيس يسمع قصة لقائه في دمشق، عندما كان أبو عمار يبحث عن موطئ قدم لقوات العاصفة في سورية. ويتذكر أيضاً وأيضاً - أي فيصل - كان من اوائل الواقفين الى جانب القيادة الشرعية الفلسطينية يوم الانشقاق.. ويؤكد له الآن: «عندي ما أملكه ويسعدني أنه أعظم من كل ما يتهافت عليه معظم المحيطين بك هذه الأيام، إني أملك استقلال الرأي، والقدرة على التفكير الحر، والجرأة على الجهر بقناعتي».. ويأنس فيصل من القائد العام رضا وتشجيعاً فيواصل معترفاً بامتنان: «لا أنسى انك حميتني في كل مرة تطاول علي فيها أي من الذين يلوذون بك.. حميتني فيما أنا أهاجم سياستك».. وكان ابو عمار واسع الصدر كما هو دائماً، خصوصاً لمن يعرضون آراءهم بشجاعة وهم حريصون على المسيرة، لهذا علق أبو عمار على كلام فيصل قائلاً: شيء واحد أطلبه منك، ألا تشترك في أي تآمر على قيادة شعبك الشرعية.. ولما كان هذا من تحصيل الحاصل، فإن المراقب المحايد يسجل أن هذا اللقاء كان ناجحاً الى حد كبير، وقد سويت خلال اللقاء مشكلات إدارية ومالية وشخصية «وفي الجو الذي نشأ عن المكاشفة، لم أجدني مستاء» والواقع أن في هذا الكلام بعض الدلال، ففي لقاء مثمر ناجح كهذا، نفترض منطقياً أن فيصل كان سعيداً، وليس مجرد غير مستاء! وبالصراحة التي سادت الجو يقول فيصل للقائد المتسامح: قالت لي أمي إني تأخرت فلم يبق منصب أشغله او شيء اسرقه.. ولا يبتسم عرفات لهذه الفكاهة بل يقول جاداً: الصحيح أنك تأخرت فعلاً، لكن مكانتك عندي محفوظة..
عند هذا الحد، أعتبر رسالة كتاب «الحنين» قد وصلت. فالمشهد السياسي لن يغيره فيصل او غيره، ولكن الساحة من التشابك والتعقيد بحيث يمكن للجاد الذي يعبر عن رأيه أن يمر بأقل قدرة من الخسائر، مع أن خسائر غير مرئية ظلت قائمة، وقوامها تربص المستفيدين من واقع الحال وضيقهم بمن يستجد، فما بالك إذا كان هذا المستجد على هذا المشهد، هو كادر قديم في صفوف منظمة التحرير الفلسطينية، والى ذلك، فهو سليط اللسان والقلم ومحمي بتسامح القائد العام الذي يعرف أن مثل هذا الفيصل لا يتآمر على شعبه.. وما بقي بات معروفاً لنا، نحن الأصدقاء وشهود المرحلة.. فقد حظي فيصل بحق التفرغ للكتابة والإقامة في النمسا بعيداً عن الضجيج والأضواء، وعميقاً في قراءة المشهد وإبداء الرأي مكتوباً ومنشوراً في الصحافة التي يريد والمنبر الذي يرتئي، فكما نقول في أمثالنا الشعبية: ابن بطنك يعرف رطنك.. وفيصل حوراني أحد ابناء بطن هذه التجربة فلم لا يعطيه أبو عمار الفرصة وهو المجرب غير المتطلب؟ كيف لا ولسان حال ياسر عرفات هو ما قاله لفيصل ولمعظم كوادر المنظمة لمناسبات مختلفة: «اعتراضاتك سمعتها، وأنت تعرف رهاننا، إن اتضح أننا على صواب وهو ما أرجو أن يتضح قريباً، فالربح للجميع، وإن فشل الرهان فأنا وحدي المسؤول.. حطوا المسؤولية علي، قولوا عني ما تشاؤون»..
وما أحسب أن كادراً من فتح، او من منظمة التحرير، بين الذين كانوا قريباً من هذا الرجل ألا أنه سمع منه هذا الكلام، وإن أنس لا أنس يوم شدني من ذراعي وهو يشير الى مجلة وصفته، على صفحة غلافها، بالمنبوذ. وقال لي يومها: إذا كانت مصلحة شعبنا تحتاج الى خائن فأنا مستعد أن أكون الخائن بنظركم.. لكنني باق على الثوابت..
ليس في هذا الكلام اضافة إلى ما نعرفه جميعاً عن خطورة الموقف وحساسيته.. ولهذا فإن تعليقات فيصل في ثنايا كتاباته وخاتمته، على الفساد ونقاط الضعف وضرورة مراجعة السلوك السياسي، هي تعليقات تشكل السبب الرئيس لكتابة فيصل في هذه الشهادة.
أما بقية التفاصيل، وبخاصة تلك المتعلقة بمتاعب فيصل مع الاحتلال، فكما بدأنا نواصل: كلنا ذلك الرجل، بمعنى أن الفلسطينيين خبروا حالات من الاستدعاء الأمني، والإبعاد، والقهر العام، ولكنهم متمسكون بالجزء المتاح لهم من الوطن، وكما قال أبو عمار لفيصل: أخذوا البلاد منا قطعة قطعة فلم لا نخاتلهم ونعمل على استعادتها كذلك؟
ويبقى المعنى غير المسكوت عنه في كتاب «الحنين» هذا، هو أن الكاتب قد اختار له هذا العنوان تحديداً. فالحنين يظل قائماً حتى لو كنا ندرج على بعض أرض الوطن، ويظل نداء تاريخي عميق يشغل كل واحد فينا وكأن السؤال هو: هل من مزيد؟
كان الشاعر ابن الرومي يقول في لحظة عاطفية:
اعانقها والنفس بعد مشوقة
اليها وهل بعد العناق تدانِ
وذلك هو لسان حالنا مع الوطن، الذي ننحني على ترابه، ونستنشق هواءه، ونشرب ماءه ونحن لا نزال نسأل عنه فلم ينقطع الحنين اليه، فإذا انتقلنا من نشيد الجماعة الذي يتضمن سؤال عمر الفلسطينيين، يظل من حق فيصل حوراني أن نختم هذه القراءة لكتابه بما ختمه هو به قائلاً: لئن رحلت أمي، وافتقدت الوطن الذي في الذاكرة، فقد بقي لي ناس ووطن. الناس المحيطون بي، والوطن الذي لا وطن لنا سواه..