الاحتلال يشدد من إجراءاته العسكرية شمال القدس    تحقيق لـ"هآرتس": ربع الأسرى أصيبوا بمرض الجرب مؤخرا    الاحتلال يشدد إجراءاته العسكرية على حاجز تياسير شرق طوباس    شهداء ومصابون في قصف الاحتلال لمنزل في رفح جنوب قطاع غزة    الاحتلال يواصل اقتحام المغير شرق رام الله لليوم الثاني    جلسة لمجلس الأمن اليوم حول القضية الفلسطينية    شهيدان أحدهما طفل برصاص الاحتلال في بلدة يعبد    مستعمرون يقطعون عشرات الأشجار جنوب نابلس ويهاجمون منازل في بلدة بيت فوريك    نائب سويسري: جلسة مرتقبة للبرلمان للمطالبة بوقف الحرب على الشعب الفلسطيني    الأمم المتحدة: الاحتلال منع وصول ثلثي المساعدات الإنسانية لقطاع غزة الأسبوع الماضي    الاحتلال ينذر بإخلاء مناطق في ضاحية بيروت الجنوبية    بيروت: شهداء وجرحى في غارة إسرائيلية على عمارة سكنية    الاحتلال يقتحم عددا من قرى الكفريات جنوب طولكرم    شهداء ومصابون في قصف للاحتلال على مناطق متفرقة من قطاع غزة    "فتح" تنعى المناضل محمد صبري صيدم  

"فتح" تنعى المناضل محمد صبري صيدم

الآن

البرتغالي خوسيه ساراماغو يعيد انتاج قصة قايين- احمد دحبور


بانفعال أشبه بالاحتفال، أكرس عيد الاربعاء هذا الاسبوع، للكاتب البرتغالي العالمي خوسيه ساراماغو، الفائز بجائزة نوبل للآداب، والذي زار بلادنا ضيفا على شاعرنا محمود درويش، وساراماغو المولود عام 1922، فاجأنا بحيويته وكأنه في عز الشباب. وقد كتب حين عاد الى بلاده، يحيي قامة محمود درويش الشعرية، قائلا ان كثيرين في العالم لا يعرفون ان هذا الشاعر الفلسطيني، هو من وزن بابلو نيرودا، وان القاعات الفسيحة كانت تغص بجمهوره الغفير. ولم ينس هذا الكاتب الكبير الذي زار غزة ورام الله، ان يثير السؤال الفلسطيني العادل، مما دفع الصحافة الصهيونية ان تشن عليه حملة منكرة وان تطالب منع كتبه، فازداد عنادا في الحق مؤكدا موقفه المبدئي في دعم الشعب الفلسطيني.
ولهذا الكاتب الفذ عدد من الروايات المترجم بعضها الى العربية، أذكر منها (العمى - كل الأسماء - الرجل المزدوج - الكهف - قصة حصار لشبونة - رحلة الفيل - موت ريكاردو رييس) ورييس هذا هو شاعر برتغالي معروف. أما رواية سارماغو التي أمامي الآن، فهي «قايين» من ترجمة الصديق صالح علماني الذي زودني بهذه المعلومات عن ساراماغو. وصالح يقوم الآن بترجمة رواية « عشر نساء» للكاتبة مرسيلا سرانو، وحين تصدر هذه الرواية، خلال اسبوعين على الأرجح، ستكون الكتاب المترجم رقم مئة في سجل ترجمات صالح علماني الذي يمكن وصفه بأنه أبرز كاتب عربي يترجم عن اللغة الاسبانية.
والآن ماذا عن قايين ساراماغو؟
قراءة موازية
في مروره على قصة أحد آباء البشرية، قايين - او قابيل حسب التسمية العربية الاسلامية - يتخيل ساراماغو قراءة موازية لما ورد في التوراة، فيقرّ بأن قايين فجع والديه بقتل أخيه هابيل، لكن روايته سرعان ما تتخذ مساراً آخر، لن نتعامل معه بالطبع كنص ديني، ولكنه رواية متخيلة بيانها كالآتي:
بلغة حديثة، أشبه بلغة التقرير الصحفي، تحلم حواء بالحية التي تغريها بأكل ثمرة المعرفة، فتأكل وتطعم آدم، ويكتشفان بعدها انهما عاريان، وسرعان ما يأتي «السيد» فيؤنبهما على فعلتهما، ويحكم عليهما بمغادرة الجنة او النزول الى الأرض، ويحكم على حواء بالتعرض لآلام المخاض كلما تلد. ثم انه أعطاهما جلوداً كريهة الرائحة ليستعملاها كثياب فيسترا عريهما. وتشعر حواء بلسعة الجوع، اذ لم يكن في الأرض ما يؤكل، فتقرر التوجه الى جنة عدن لاحضار بعض الطعام، يعترض آدم الذي يؤكد انه الرئيس في علاقتهما. ثم يسمح لها بالذهاب. وعلى أبواب جنة عدن رأت حواء ملاكاً - كروبيم، واسمه آزائل - فأقنعته بدهاء الأنثى ان يجلب لها ثمارا. ثم ان الملاك هذا طلب من آدم وحواء اشعال نار لتهتدي اليهما القوافل. وقد أتت اليهما قافلة على ضوء اللهب. وقدمت لهما حماراً يركبانه، وبعد ذلك تمنى لهما الكروبيم رحلة موفقة .. ومضى!.
أنجب آدم وحواء ابنهما الأول قايين، ثم أنجبا هابيل الأبيض كأنه ملاك، وبعد مئة وثلاثين عاماً أنجبا شيث الذي لن يكون له دور في الرواية، فهو مجرد اسم، أما السنوات الطويلة التي تمر عليهما فهي منسجمة مع خصوبة الحياة وقدرة آدم وحواء على الانجاب في هذا العمر .. وهو ما يمنح العمل الروائي بعداً فانتازياً مفارقاً لما حفظناه عن الكتب المقدسة.
كان لقايين حقل، ولهابيل بعض المواشي، وحين قدم كل منهما أعطية مما يملكان للسيد، لم يقبل السيد أعطية قايين وقبلها من هابيل. فطلب قايين ان يعيدا المحاولة، ولكن النتيجة كانت دائماً لصالح هابيل. غضب قايين من أخيه الذي تشفى به وسخر منه، فما كان منه الا ان تناول فك حمار وضرب أخاه، فمات هابيل، وعلى الفور ظهر السيد معلناً غضبه على قايين، واسماً إياه بعلامة في الجبين، خاف قايين ان يقتله الرعاة لأنه مغضوب عليه، مؤكدا ان السيد هو المسؤول عن مقتل هابيل لأنه كان قادراً على منع ذلك، لم يهتم السيد بهذا الكلام، وأكد لقايين انه لن يتعرض للقتل، بل سيكون منبوذاً طيلة حياته ولا يمكن التنبؤ بشيء جيد في الحياة المقبلة لهذا الانسان.
نلاحظ الى الآن ان رواية ساراماغو لا تختلف في كثير عن رواية التوراة، اللهم الا من حيث الآراء الهرطوقية التي وضعها المؤلف على لسان قايين في دفاعه عن نفسه، على ان السياق الروائي يسوغ نبذ قايين ووقوعه تحت طائلة غضب السيد، ولكن الرواية بعد هذا الحد لن تكون مكملة لما ورد في التوراة، بل اننا أمام تجربة خاصة يعيشها قايين، او أبو الانسان المعاصر حسب تصور ساراماغو روائياً.
شأن عظيم
في نوبة زهو وسعادة، يتنبأ آدم لابنه قايين بشأن عظيم، فهو يبدو مختلفاً عن سواه من حيث التأمل وسرعة البديهة، انه يذهب بعيداً ولكن في غير اتجاه الأب .. صحيح انه سبب لوالديه ألماً غير محدود. أليس هذا هو الانسان بما هو مصدر فرح لأمه وأبيه، ولكنه في الوقت ذاته مصدر قلق وخوف؟ وما يقلق أبويه ويخيفهما أكثر هو مصير الولد الذي وجد نفسه مشرداً باحثاً لا يقر له قرار.
في رحلته الى المجهول يصادف قايين رجلا يجر نعجتين، ويعجب الرجل من العلامة في جبين قايين الذي يزعم انها دمغة موجودة منذ الولادة - أهي اشارة رمزية الى ان لعنة قتل الأخ مكتوبة عليه بوصفها من علامات القدر؟ ان ساراماغو لا يولي اهتماماً للغيبيات، ولكن القدر يمكن ان يرمز للخط البياني الذي يرافق الانسان صعوداً وهبوطاً في مسيرة الوجود. وضمن هذه المسيرة يصل الى ارض نود - او الهرب - ويجتمع الى ليليث، سيدة تلك البلاد النهمة الى الرجال والحياة، تسأله عن اسمه فيقول انه هابيل.
لنا ان نفترض ان قايين الذي أطلق على نفسه اسم أخيه، انما يحمل عقدة الذنب، او ان أخاه القتيل، أصبح جزءاً من تاريخه، او انه - أخيراً - يضلل سائليه حتى لا يعرفوه فيؤذوه. مع ذلك فقد وجد غريماً له في شخص «نوا» ونوا هو ملك البلاد وزوج ليليث وقد اصبحت خليلة قايين، فأرسل عبداً، جاسوساً له، وأغراه بقتل قايين، فما كان من العبد الا ان نسق مع بعض قطاع الطرق ليتخلصوا من هذا الضيف الطارئ، لكن قايين تخلص منهم، وكان على ليليث ان تفكر في الانتقام من العبد، وان تزدري زوجها الذي لم يكن يملك الا الابقاء على غريمه قايين.
ماذا يعني هذا؟
ان قايين، هو المزارع الذي غار من أخيه فقتله، وها هو يقتل الملك نوا معنوياً، ويحتل فراش قرينته ليليث، انه الانسان الخاطئ، وما نحن الا من سلالته، بمعنى ان في إهابنا ميلاً الى الخطيئة التي اصبحت، مع الزمن، من سمات البشر. أما على مستوى النص كما دونه ساراماغو فان البشر كانوا موجودين دائما بدليل ان قايين كان يراهم في كل مكان ولسوف يرى قايين، وهو في تشرده الدائم، رجلا يقتاد صبيا، إنهما ابراهام وابنه اسحاق، وقد استسلم الأول لأمر السيد الذي قضى بأن يذبح الأب ابنه، واستعد لذلك، فثار قايين وصرخ .. ثم تدخل ملاك فأنقذ الولد ..
خروج على النص
ليس كتاب ساراماغو هذا كتابا دينيا، وان كان يستلهم كثيرا من العهد القديم ليقص نبأ قايين على طريقته. ولهذا فهو لا يفاجئنا بالخروج عن النص، لسبب بسيط، هو انه ليس داخل النص تماما، وهو وان يوافق العهد القديم في ان الملاك قد انقذ ابن ابراهيم، الا انه يعطي فرصة لقايين حتى يعترض على عملية ذبح الابن، في اشارة منه الى ان الانسان، ولو أخطأ، فانه محكوم بقيم وأخلاق، أبسطها عدم تفريط الوالد بالولد. وهو حين يهرطق مستغربا تعريض الأب لمحنة ان يذبح ابنه، زلفى للسيد الذي يأمره بذلك، يسمح للابن بأن يحاكم الأب ويناقش طاعته العمياء، لينتهي بهذه الجملة الصارخة: ان تاريخ البشر هو تاريخ خلافاتهم مع الإله ..! وقبل ان تصدمنا هذه الجملة، علينا ان نتذكر من جهة ثانية، ان هذا الخلاف هو الذي أدى الى نشوء الأديان، فالأنبياء لم يأتوا الا ليصالحوا بين البشر وخالقهم، وذلك هو الهدى حسب التعبير الاسلامي.
عند هذا الحد يستقل الكاتب برؤيته وروايته، ويكف عن المحاكاة الحرفية للكتاب المقدس، ليصوغ روايته الأرضية، من غير ان يفارق الشخصيات المقدسة المعروفة، ولكن بعد ان يجعلها شخصيات دنيوية تتعرض للشر والخير معاً، والتعرض لهذه الشخصيات في هذا السياق المستقل لا يعني الاجتراء على المقدس لأنها من صنع الخيال، وان كان الخيال ليس مجرداً، فالذاكرة البشرية تغص بما نحفظه من تاريخ وأسطورة على حد سواء.
ويواصل ساراماغو سرده حتى يصل الى حوار بين ابراهام والسيد الذي كان سيخسف سدوم وعمورة عقاباً للفحش الذي فيهما، فيتساءل ابراهام عما اذا كان وجود أبرياء حتى لو كان عددهم قليلا جدا، يشفع حتى لا يقع الدمار، ولأن السيد رحيم في أحد وجوهه فهو يؤكد ان وجود عشرة أبرياء كاف للعفو عن سدوم وعمورة، ولا سيما الأطفال، فالأطفال أبرياء ..
وهكذا يظهر قايين، على ما يبدو في تجربته من مرارة وغرابة، رفيقا بالناس، حنوناً، حتى ليمكن القول ان السيد الرحمة هو سيد قايين، وهو ما يدفعنا الى جرعة التفاؤل حين يتعلق الأمر بالمصير الانساني. فالخطأ موجود، والعقاب موجود، ولكن الرحمة موجودة ايضا بما يميز بين الخطيئة والفضيلة، أما قايين فهو حامل الميزتين معا الخير والشر، والا لكان ملاكاً صافياً في حالة الخير، او شريراً كاملاً في حالة الشر. ولذلك نستحضر، من خارج هذا النص تماما، مقولة أحد القديسين: لا تحزنوا كثيرا فإن أحد الاثنين قد نجا، ولا تتفاءلوا كثيراً فإن أحدهما قد هلك.
الحرب تجارة
سيقفز ساراماغو في روايته الاشكالية هذه، حتى يصل الى موسى، لأن قايين لم يطلق على نفسه اسم هابيل كما فعل في السابق، وهو لا يريد الاعتراف بأنه قايين، فانتحل اسم موسى، وهذه اشارة الىان الأنبياء جميعا هم امتداد لقايين، بمعنى انهم بشر. لكن الكاتب يمعن في سرد تفاصيل الحروب التي مرت بالبشرية، ولا يغفل عن تحميل اليهود، بوصفهم قوم موسى، مسؤولية الحروب والقتل حتى ان قايين فكر في نفسه ان الحرب هي تجارة من الطراز الأول، وربما هي أفضل تجارة على الاطلاق بالنظر الى السهولة التي تكتسب بها. وهكذا فان اسم السيد قد اصبح، بعد انفجار ظاهرة اليهود، إله الجيوش.
ويستطيع الكاتب الذي يستعير شخصية المحقق التاريخي، ان يرى علاقة بين قتل هابيل، وهو فرد وبين ضحايا الحروب وحالة أطفال سدوم الذين أحرقتهم النار.
ان ساراماغو لم يورد النظريات المادية مثل النشوء والارتقاء لداروين او اعتماد الحرب كوسيلة لتقليص الفائض من الجنس البشري كما يقول مالتوس، ولكنه لا يتوانى عن اشهار نظريته النقدية وعقله المتشكك في ادارة السيد. انه طرح مادي بامتياز ولكنه طرح انتقائي ايضا. ما دامت خطته في سرد الاحداث هي تأكيد اجتماع الخير والشر - مع الصراع بينهما - داخل نفس الانسان الذي هو في هذا السياق ابن قايين، أما لماذا هو انتقائي فلأنه لا يتقيد بالنص حرفياً ولا يتوقف كثيرا عند علامات التطور وصولاً الى الحداثة.
وأمام تشابك الأحداث وظاهرة الحروب، يتدخل قايين - او بالأحرى هو المؤلف ساراماغو الذي يجعل قايين يتدخل - موضحا انه ليس من بني اسرائيل، فعند ولادة قايين كان بنو اسرائيل شيئا لم يوجد بعد. لم يكن اسرائيليا، ولكنه لم يكن كذلك حثياً او أمورياً او يبوسياً ولا من أي جنسية اخرى، وفي ذلك دحض حازم حاسم للنظريات العنصرية التي تزعم ان شعباً من الشعوب هو ابن الله بينما الحقيقة ان الجميع من تراب الأرض واليها يعودون وان من يحاربون لفرض هذه النظرية او تلك، انما يتاجرون بدماء البشر، فكما تقدم على لسان قايين نفسه: ليست الحرب الا تجارة من الطراز الأول.
الأرض تدور
لا تطمع هذه الرواية في سرد قصة الحياة على الأرض، لكنها تشير الى الانسان المنكود بالحروب والدمار، وحين تمر بالاشارة الى بعض العلامات الفارقة الواردة في العهد القديم، فان ساراماغو يخضعها على طريقته الى رؤية الانسان المعاصر للتاريخ، فهذا يوشع الذي يطلب من السيد ان يوقف له الشمس حتى يتمكن من اجتياح أريحا، يصدمه ان السيد لا يفعل ذلك، وحين تبرز أفكار هرطوقية في رأس يوشع حول عدم قدرة السيد على ايقاف الشمس، يشرح له السيد انه لا داعي لذلك لأن الشمس واقفة أصلا، وان الأرض هي التي تدور حول نفسها وحول الشمس. ولكن يوشع يتواطأ مستأذناً في تعميم قصة ان الشمس هي التي توقفت استجابة لرغبته. وحتى نصوغ هذه الواقعة بلغة العصر الحديث، نقول ان يوشع قد دمر أريحا، بقوة البطش، زاعماً ان الله أعانه على ذلك بتوقيف مسار الشمس، بينما الحقيقة الكونية تقول ان الأرض هي التي تدور. وعلى ما يبدو ان الأرض تأخذ أحيانا شكل الزمن، فكما انها تحملنا وهي تدور بنا صانعة دورة الليل والنهار وتوالي السنين، فان الزمن، بما هو وجه آخر للأرض يدور بنا، واذا كان آدم أباً للبشرية، مع انه صادف خلال هذه الرواية بشراً آخرين ليسوا من صلبه، الا ان ابنه قايين هو الأب التالي للبشر، لأنه سيبدأ تاريخ آخر بأن تحمل ليليث وتنجب ولدا ليس من صلب زوجها نوا، بل هو ابن قايين. على ان هذه اللغة العجيبة ليست مجرد حذلقة من المؤلف البرتغالي ساراماغو، بقدر ما هي اشارة الى ان الحياة قد أوجدت البشر، لكن التاريخ المعتمد هو تاريخ الولادات اللاحقة الناتجة عن لقاء قايين وليليث.
حين يعرض الكاتب لمأساة أيوب، فانه يسرد كيف مات أبناؤه وبناته، وكيف احترقت محاصيله، وكيف دب الجذام في جسده بتدبير من الشيطان الذي كان يرسل باستمرار الى أيوب من يبلغ اليه بكل ذلك بوصفه الشاهد الوحيد الباقي، وكما نعلم جميعا من المصادر الدينية، صبر أيوب علىالبلوى، تبرم وتمنى لو لم يولد، لكنه لم يكفر ولم يحتج، وانتصرت بذلك ارادة السيد الذي تحدى الشيطان بتقوى أيوب. واذا كان لي ان أتزيد في شرح هذا الفصل من رواية ساراماغو، أكاد أقول انه لا يعتبر أيوب مجرد بشر، بل هو فكرة نورانية مثالية، أما قايين، البشري، فقد وضع الكاتب ساراماغو على لسانه جملة اعتراضات شبيهة بما قاله في معرض محنة ابراهام الذي كان مأموراً بذبح ابنه، ان مراجعة ساراماغو لهذه الأحداث، انما تصدر عن ذهنية مادية حسية، بل انه يقول بالحرف الواحد: ان قايين نزيه في جوهره. وذلكم هو ايمان كاتب هذه الرواية بالعدالة الانسانية التي لا تتطابق دائما مع أوامر السيد، وما قراءته لمحنة ابراهام ثم لمحنة أيوب الا بمثابة التأكيد على ثبات فكرة العدل، حيث تدور الأرض وتتطور الوقائع، لكن جوهر الانسان - وهوالخاطئ - لا يتغير من حيث العدل حتى لو أدى هذا العدل الى التجديف والهرطقة. وتنتهي الرواية بقصة نوح، الأب الأخير للبشرية، لكن من غير بشر، فقد غرق ركاب السفينة جميعاً بتدبير من قايين حيناً وبالانتحار حيناً آخر، ومن ساعتها لم يبق الا الجدل السرمدي بين قايين والسيد.
لا تشاؤم ولا تفاؤل
تعطي نهاية الرواية هذه، انطباعاً بالتشاؤم .. لكن الأمر ليس كذلك تماماً، فكما تمت الاشارة غير مرة، ليست هذه قصة البشرية وفق ما جاء في الأسفار المعروفة، بل هي قراءة رمزية لحيرة الانسان وتناقضاته وقلقه بين المعرفة والعماء، بين التفاؤل والتشاؤم، وبين الخير والشر .. ليست هذه الرواية لتنقض ما نعرف او ما نعتقد، بل قراءة لدواخل البشرية التي تحمل الإثم الأول، لكنها - كما قال ساراماغو في الفصل الأخير من هذه الرواية - تحمل قدراً من النزاهة والشرف.
بهذا التصور يتوجه الانسان الى مصيره، ربما يخاف من المجهول، ولكنه غير متشائم بشأن مستقبله، وهو، ايضا، أبعد ما يكون عن التفاؤل الساذج .. وهكذا يمكن الخروج من قطبي التفاؤل والتشاؤم، بشرط ألا يكف الانسان عن الحياة ما دام العيش ممكناً.

 
 

za

إقرأ أيضاً

الأكثر زيارة

Developed by MONGID | Software House جميع الحقوق محفوظة لـمفوضية العلاقات الوطنية © 2024