محمد علي طه وقصصه القصيرة «في مديح الربيع».. - احمد دحبور
ما وقعت على أحد أعمال الكاتب الفلسطيني الجليلي محمد علي طه، إلا وكان رد فعلي الأول هو تهيئة النفس للكتابة على هذا العمل، لا لعمق الصداقة والمحبة بيننا وحسب، بل لأن هذا الأدب يعيد انتاج فلسطين في مخيلتي وذائقتي معاً، فهذا الكاتب المنذور لوطنه، انما يجسد حضوره الانساني من خلال الشخصيات التي يبتكرها ويستدعيها، حتى لأشعر وأنا أطالعه أنني في حضرة أبي وأمي وهما يقصان علي ما تيسر من حيفا بتلقائية وعفوية كأنهما مراسلان ميدانيان يرويان ما يريان من طقطق حتى سلام عليكم.. وكذلك قصص محمد طه!
ومحمد علي طه هو ابن موقعين جليليين وليس واحدا.. لقد ترعرع في كابول التي لجأ اليها من ميعار بلده الأول، وفي قرية ميعار، من قضاء صفد، فتح كاتبنا عينيه على النور عام 1941، وعلى مقاعد الثانوية تلقى دروسه التعليمية، المركزية، وكان إلى جانبه الطفل الذي سيصبح فيما بعد أبرز الشعراء الفلسطينيين محمود درويش، ولأن الديك الفصيح من البيضة يصيح، كما يقولون في أمثالنا، فقد أصدر محمد كتابه الأول وهو في الثالثة والعشرين من العمر، كان ذلك الكتاب هو مجموعته القصصية الأولى «لكي تشرق الشمس» التي صدرت سنة 1964، ثم تدفقت مجموعاته وكتاباته حتى ملأت رفوف المكتبات، فظهرت مجموعاته القصصية: سلاما وتحية - جسر على النهر الحزين - عائد الميعاري يبيع المناقيش في تل الزعتر - وردة لعيني حفيظة: وقد قامت دائرة الثقافة الفلسطينية بنشر المجموعتين الأخيرتين تحت عنوان جامع «عائد وحفيظة» ليستمر نتاجه القصصي على النحو التالي: «ويكون في الزمن الآتي - النخلة المائلة - الولد الذي قطف الشمس - بير الصفا - العسل البري».
وقد أصدر محمد علي طه احدى عشرة مجموعة قصصية للأطفال، كما أصدر خمسة كتب تتضمن بعضا من مقالاته وخواطره الصحفية الأدبية التي نشرها في صحيفة الاتحاد الحيفاوية وفي مجلة الجديد، أما أعماله المسرحية المنشورة فقد بلغت خمساً، هي على التوالي: «حوض النعنع - اضراب مفتوح - يا هيك.. يا بلاش - فساتين»، وله رواية واحدة نشرها في العاصمة الأردنية عن طريق دار الشروق، وعنوانها «سيرة بني بلوط»، ولا يزال الحبل على الجرار -، ولا تزال قصصه تصدر في كتب يتسابق اليها القراء، ولسان حاله يقول: نعم لا يزال هناك المزيد..
حتى نأخذ فكرة خاطفة عن طريقة هذا الكاتب المطبوع في اصطياد موضوعاته وتحويلها إلى قصص، أذكر أن لقاءنا الأول كان في هافانا - العاصمة الكوبية - خلال مهرجان الشبيبة العالمي عام 1989، وقد بدأ حديثنا كأننا نكمل حوارا سابقا، وكان مدار الحديث طبعا حول حيفا وكيف تلقنت معلوماتي عنها من جدتي وأمي، لأفاجأ بعد بضعة أشهر من هذا اللقاء بقصة لمحمد علي طه بعنوان «خريطة جديدة لوادي النسناس» ووادي النسناس هو الحي الذي رأيت فيه النور، ولم تكن القصة إلا تنويعات فنية وجدانية على الحوار الذي دار بيننا.. كأنما كان من أقدارنا أن يجمعنا ذلك الحوار العفوي في قاسم مشترك هو الذي تأسست عليه صداقتنا الأدبية والانسانية الحميمة.
في مديح الربيع
هي سبع عشرة قصة، وقصص محمد علي طه ليست مقتصدة كثيرا في عدد الصفحات، فالبيئة الريفية التي ينهل منها الكاتب تغري بالتوسع والاستطراد، ولولا أسلوبه الذكي القائم على المفارقة والتعليق والملاحظة الماكرة، لكانت هذه القصص أشبه بالروايات المختصرة. لكننا ازاء كاتب حاذق متمرس يعرف كيف يحافظ على رواء القصة القصيرة حتى وهو يوغل في السرد.
استوقفتني القصة الأولى بعنوانها الطريف «الشتيمة»، لما فيها من شبه تأصيل فلكلوري لطريقة القرويين في صياغة شتائمهم، وقدرتهم على التأويل وقراءة خفايا المعاني، فهذا شعبان يجن جنونه حين يقول أبو دبوس شيئا يتعلق بأخته. لأن مجرد ايراد سيرة النساء في معرض الشتائم هو من الكبائر. وهكذا تنتهي المشادة بجريمة قتل. وحجة شعبان في طعنه أبا دبوس ان هذا شتم أخته، ويقول الشهود: لكنك يا شعبان لا أخت لك، فيجيب شعبان بلا تردد: صحيح ولكن الناس لا يعرفون ذلك.. أي أن الجريمة التي ذهب ضحيتها أبو دبوس لا تتعدى شبهة الاساءة.. فاللغة لها سلطان وتقاليد تبدأ باللغو العابر وتنتهي بالدم.. إنها ثقافة الشرف البدائية.
أما قصة «كرم النخلة» فإنها تنساب متسلسلة مثل مجرى ساقية في بستان. الأب يوصي بأن يدفنوه في كرم النخلة، والبغي تتعاطف مع الشاب الذي فقد أباه فتخفض له أجرها، والأولاد الزعران يسابقون بنات آوى على التهام عنب كرم النخلة. والمجلس البلدي لا يجد حلا للمشكلة.
سلسلة من التفاصيل البسيطة المتلاحقة..
وهكذا تتبلور القصة في غياب حدث مركزي، لصالح اشارة سياسية غير مباشرة، فقد تدخل رجال الشرطة ليمنعوا ترخيص بناء القبر في كرم النخلة.. فأنت في الجليل الفلسطيني لست حرا في اختيار قبر أبيك، وتلخص الأم هذا اللفظ بهذه الحكمة: الحياة صعبة يا بني، لا يفوز بها الا الصابر الصامد.. وهكذا بين الضحك والجد يقدم الكاتب قصة تمس جوهر علاقة الجليلي بالأرض..
فاذا قفزت إلى قصة «طفل الجزيرة»، طالعك الولد السارح في الشوارع يبيع العلكة وحجاب الحصن الحصين، مزودا بمكر الأولاد الشاطرين في تسويق بضاعتهم، ونعرف من السياق انه يعمل لدى رجل كبير يستغله ويعطيه الفتات، ومرة ثانية لا يوجد حدث في القصة، بل لا ضرورة للحدث، انها قصة المقطع الاجتماعي المعتمد على الجو السردي باللهجة الشعبية المحببة، حيث يتراكم هذا النص مع سواه لتشكيل مناخ الربيع وتستمر الحياة.
فإذا عدنا إلى قصة أيام العدة، في بداية المجموعة واجهتنا صبية ترملت حديثا بعد ان تعرض زوجها لحادث أليم، ويحاول الرجل الوقور ادعاء مواساتها بينما يفكر في الحقيقة أن ينال منها وطرا.. وبلا طول سيرة تقتل المرأة ذلك الوقور المفتري الذي كان يوصيها باعتزال الرجال حتى تنتهي مدة العدة بعد وفاة زوجها، متجاهلا بنفاقه وادعائه انه شخصيا يعتدي على حرمة العدة عندما ينفرد بالأرملة فيما كان يوصيها ألا تلامس شيئا له صفة ذكورية ولو باللغة فلا الحرام ولا المقص ولا الابريق من المسموحات، واذا أوصاها باغلاق بابها فانه كان قد اغلق الباب عندما دخل بيتها.. لكنها قتلته ودخلت إلى بيتها.. ونسيت أن تقفل الباب.
إن الجريمة البريئة التي ارتكبتها هذه الأرملة، بمثابة ثورة صغيرة شبه صامتة على القهر الاجتماعي الذي يمر بحياتنا اليومية ولا نعيه، وكان لا بد من مثل هذه الجريمة حتى تنطلق صرخة الاحتجاج كفضيحة مدوية للنفاق والمنافقين.
صباح تلك المرأة
ولسوف تظهر أمامنا أرملة جديدة غير أرملة أيام العدة، ففي قصة «صباح تلك المرأة»، يموت عبد الله شابا، ويترك أرملته صباح للوحدة والعناد، فهي ترفض خاطبيها وتصد طالبيها، وتيأس النساء من ادارة رأسها، بينما تكبر طفلتها أمامها ولا اشارة للأمل أو الخلاص، فقد فاتها القطار والمأذون لا يطرق باب الأرملة مرتين، فليس أمام صباح إلا الكبت وانتظار ما لا يأتي ولن يأتي.. اللهم إلا من شائعة حول حملها وهي التي لم يمسها ذكر، وتنتهي القصة بما أنهى السياب احدى أشهر قصائده: الباب أوصد.. ذلك ليل مر، فانتظري سواه..
انها صورة جديدة من صور تعاسة المرأة الشرقية المستوحدة، حيث لا تحمد العيون شرفها، ولكنها تنكل بها لمجرد شائعة قائمة على سوء الظن والتخمين ليس إلا..
ثم نصل إلى القصة التي تشكل ذروة المجموعة، وهي «الطريق إلى واحة سعد الله» وكانت تستحق أن يفرد لها الكاتب مساحة رواية، فهي رحلة رمزية شفافة إلى واحة سعد الله، التي ذكرتني بقصة عاموس كينان «الطريق إلى عين حارود»، مع فارق أن أبطال هذه القصة ليسوا هاربين من جنون التعصب، بل هم يضربون في الأرض بحثا عن ملاذ ورزق وخير، وتكشف الرحلة طباع كل منهم، كما تكشف عن قصة حب بين زينة وأبي الخيل اللذين لم يصبرا فقررا أن يعلنا زواجهما فورا، وتخرب السيارات وتموت الجمال التي تقلهم، لكنهم واصلون لا محالة، وان لم تصرح القصة بهذه النهاية السعيدة المنشودة..
إن حنينا موجعا يكمن فينا، نحن أهل الشرق، إذ نستشرف مكانا مجهولا باستمرار، ولسان حالنا ما قاله ناظم حكمت ذات يوم: أجمل البلاد هي التي لم نصلها بعد..
قوس قزح
أما قصة «هي كبيرة» فتؤكد ظاهرة القصة - الرواية في هذه المجموعة، من حيث إنها مشاعر وتفاصيل وجزيئات مضغوطة في نص واحد وزعه الكاتب على ستة مقاطع وجعل لكل مقطع عنوانا خاصا به، فنحن أمام الطاهر عفيف ذي الخمسين عاما، وقد قضاها ورعا لم يعاشر غير امرأته، وان لاحت في ذاكرته البعيدة محاولة عاثرة من محاولات الشباب، وها هو في سن الكهولة يتأثر بثرثرة أحد أصدقائه، والنفس أمارة بالسوء، فيحاول وهو في هذا العمر أن يقارب غير امرأته فتنفجر الفضيحة.. ان هذه القصة، شأن الكثير من قصص محمد علي طه، تحيلنا إلى ما يسمى بالأدب الريفي، حيث تكون الغلبة للسرد الشفوي الشعبي، وتمتلئ الاستطرادات بالاشارات والتعابير الشعبية الخارجة لتوها من أفواه المسنين والمجربين.
وتنحني قصة «البيت الآخر» على العجوز التسعينية التي تشعر بالوحدة في بيت ابنها الذي لم يقصر في حقها، لكن طفلته ندى تشاكس الجدة وتنفر منها أحيانا، لعدم تلاؤم عمر الطفلة الطري مع العجوز التي شارفت على الخرف.. وهكذا يغيب الحدث من جديد، ليتقدم المناخ القصصي الدافئ فيثير فينا الشجن، وأذكر لهذه المناسبة مقطعا من شعر الراحل فؤاد رفقة، يقول: «ومن هنا - ما يفعل الشيوخ إن هوت بهم سدودهم؟ - لا حجر لا ضوء من عالمنا - أحزانهم تظل في الجذور» فليس في الأمر عقوق، ولكن دورة الحياة القاسية فرضت هذه المفارقة بين الحفيدة والجدة.. وبينهما يقف الأب عاجزا عن التصرف.
ولكن قصة «قوس قزح» تحاكي الشعر في عذوبتها وخيالاتها، فالطفل هشام يتأمل قوس القزح ويسحره جمال الطبيعة الأخاذ، ويكبر ويصبح جدا ولا يزال متعلقا بتلك القوس الفضائية الملونة، ولسوف تمر السنوات، ويظل حلم هشام في أن يلمس قوس القزح يملأ عليه حياته. والطريف أن هشاما هذا في عشقه لقوس القزح يؤنثها لغويا، وهذا هو الصحيح فالقوس مؤنثة على غير ما هو شائع لكن تأنيثها في عالم هشام يتعدى اللغة ويدخل في منطقة الهيام والحب.. أليس لكل منا قوسه المتمناة؟
أو ليست قوس القزح هي صورة المعادل الموضوعي لكل ما نحلم به ونسعى اليه؟ فلم لا يتزوج الشعر من القصة في هذا النص الجميل؟
ويبرز «اليوم الثامن والعشرون» بوصفه قصة جديدة تمجد موضوعا قديما، هو الحنين إلى عهد الشباب والترحم على عمر الصبي الذي كان له غزوات في سالف الأيام، أما الوقت الراهن فيضم خمسة من كبار السن أصبحوا شيوخا يتمازحون ويتذكرون الذي مضى.. واليوم الذي ذهب لا يعود.. ومع ذلك فهي دائرة.. الحياة تدور وتطوي من ينتهي أجله، وتستمر الحركة ولو من باب الشوق إلى عهد الصبي المنسي، ومن ينسى؟
ومع قصة «ريمة والسكين» تلوح ظاهرة أسماء الأعلام في عناوين القصص، فهذه ريمة، وسيخلفها يونس ثم غزالة العلي، وترديد الأسماء يتضمن بالضرورة معنى الذكرى، فالربيع هو الحنين إلى الربيع في هذا العمر الذي جاوز السبعين ولا يزال محمد علي طه في شبابه الروحي، أما ريمة في هذه القصة فهي شابة تذهب مع رفيقاتها إلى عين الماء، وتسمح لنفسها، بينهن، بالكلام الطريف الفاحش، فهو عالم نسوي مغلق يسمح بكل شيء ما دام الرجال غائبين، إلا أن كلب نبهان، واسمه غندور، يظهر فيدركن أن نبهان قادم، وهو لا يتورع عن كشف عورته، فتتصارخ النساء ويتباعدن، أما ريمة فتشهر السكين في حركة رمزية تقول إن للمرأة سلاحها الذي يهدد سلاح الذكر..؟.
بهذا الايقاع العفوي تلامس القصة عالما مسكوتا عنه يتعلق بالرغبات الدفينة المشروعة، حيث يهفو الانسان، رجلا أو امرأة، إلى التصريح بالمكبوت، مع مراعاة الحذر الشرقي المحسوب.. أما التعبير غير الملائم فهو ما يشير إلى المفاحشة، للمرة الثانية في هذه المجموعة، مع أن المفاحشة مرتبطة لغة بالعلاقة غير المشروعة بين الرجل والمرأة خلافا للزوجين الشرعيين في هذه القصة.
يونس لا يبلعه الحوت
ويونس، في قصة دير بالك يا يونس موظف محترم، يخاف الفضيحة ويحسب حسابا للمكائد، وها هو في مواجهة التجربة، ففي الباص الذي يقله إلى عمله في المدينة التالية، يجد مقعدا شاغرا لراكبين فيستخدمه، ولا تلبث أن تجاوره فتاة حاذقة، لا تلبث ان تفتح معه حديثا، كان خفيفا في البداية، ثم كما في كرشندو الموسيقى تتصاعد الأمور تتلامس الأيدي، وكانت الفتاة وقد أطلقت على نفسها اسم نانا، هي البادئة، أخذت يد يونس لتقرأ حظه، وتسأله عن اسمه فيجيبها: أمير، ولم يكن ينقص إلا المواعدة والسؤال أين سيقيم؟ وهي توحي بأنها ذاهبة معه.. وهات يا حيرة، هل يستجيب أم أن هذا كمين دبره أحد زملائه الحاسدين في العمل؟ انه سعيد وراض بما يجري، لكن الحذر واجب، وبنات هذه الأيام لا أمان لهن.. ثم يصل الباص إلى المحطة الأخيرة، ولم يبق على يونس - عفوا: أمير - الا ان يحسم أمره ويخطو خطوته الأولى فهل يفعل؟.. في الصلاة المسيحية يقول المؤمنون: ولا تدخلنا في تجربة. ولكن نجنا من الشرير.. فمن هو الشرير الذي يخشاه يونس أمير؟ الخطيئة أم الفضيحة والوقوع في كمين؟ لا جواب يريح البال في مجتمع يخنقه المكبوت والمسكوت عنه، واذا نجا يونس من جوف الحوت فهل سيكون من الفرقة المؤمنة الناجية أم يكون قد أضاع فرصة العمر؟
أسئلة ليست عابرة، بل إن أمثال يونس الذين يمرون بهذه المحنة كثار؟ فهل سيهنئهم المخلصون بالسلامة، أم سيشفق عليه المجربون الدهاة؟ وتظل الأسئلة مفتوحة على الاحتمالات كلها.
وللفانتازيا نصيب في هذه المجموعة، فهذه قصة «عربي شاكر مولاه» تروي جانبا من عذابات المواطن عربي مع اسمه، فقد ضبطه الشرطي يحمل اسم عربي العريان وأمره بتغيير اسمه، وبعد معاناة ووساطة جعل كنيته الحافي فلم يرض الشرطي بذلك، وعاد عربي لتغيير اسمه فهو الآن «عربي شاكر مولاه».. ويحسبه الشرطي بلا ذنب جناه، فيجيبه الشرطي بآية كريمة من القرآن: لئن شكرتم لأزيدنكم..
وما دام اسمه شاكر مولاه فليتحمل زيادة الهموم التي قد لا يكون الحبس الا أحدها..
ان رسالة هذه القصة تفصح عن نفسها، وتسجل في سياق القهر الذي أصبح مادة يومية للمواطن عربي.. فما عليه إلا أن يتحمل الافتراء، ويشكر مولاه الشرطي أو المدير أو الأب أو الحاكم، والحبل على الجرار حيث لا نهاية للقهر عندما يغيب العدل والمساواة والمنطق.. فيونس المعاصر قد لا يبلعه الحوت، ولكنه حتما يغرق في بحر المعاناة والشقاء اليومي..
وتبدو قصة «طيور وقطط وبشر» كفضاء من الاستيهامات الجنسية، من القطة الهائجة في شباط إلى طيور الحب التي يتساءل صبري عن الذكر من الأنثى بينها، إلى الحيفاوية فيولا التي مرت بشبابه، إلى امرأته الحالية زهيرة التي يناديها لأمر ما، ثم ينكص عما يريده منها، ولا يلبث أن يذكرها بأنهما في شباط الذي ما عليه رباط، والذي هو شهر الحب عند القطط.. والبشر على ما يبدو!
تبدو هذه القصة وكأنها تحية للحب واحتفال به، حيث يشارك فيه البشر وكذلك الطيور والقطط والأحياء جميعا، وطرافة القصة انها بلا مشكلة، ولكنها دعوة حارة للخروج من المأزق الانساني بتجديد الحب واختراعه على كل مستوى..
أما قصة «تميمة والشيطان» فتعيد انتاج مأساة العقم وتحميل المرأة وحدها مسؤولية ذلك فتميمة شابة جميلة وزوجها صدقي شاب فحل لكنهما لا ينجبان، ولا ترى الحماة مشكلة الا في عقم الكنة، ويدار على الأطباء في حيفا والقاهرة وعمان، وتتم زيارات للشيوخ والمشعوذين، والحماة تصر أن العقم من تميمة لا من ابنها، حتى اذا وصلت إلى نصاب محترف، طلب منها مبلغا كبيرا بالدولار، مقابل ان يكلف خادمه بالمهمة على أساس أن الجن داخل الرحم لأن الزوج لم يبسمل ليلة الدخلة، وفيما وصلت عملية النصب إلى محاولة اغتصاب المرأة المسكينة، تفقد تميمة أعصابها وتستل سكينا وقعت عيناها عليها فتطعن الخادم، وتنتهي أو لا تنتهي الحدوتة..
والواقع أن هذه المأساة كثيرا ما توجد في الأرياف الفقيرة الجاهلة، والغريق يتعلق بحبال الهواء، ما يذكرني بقصة قديمة جدا جدا لميخائيل نعيمة تنتهي المأساة فيها على نحو آخر، فقد حملت العاقر في تلك القصة - التي اسمها هو «العاقر» - وحين يفرح الزوج والأهل بالحدث السعيد، تفاجئهم المرأة بأن تنتحر بعد أن تبلغهم باطلاعها على الحقيقة، وهي أن الزوج هو العقيم، لكن المجتمع يلوم المرأة أولاً.
فكان الموت ضريبة كشف الحقيقة الفاضحة الجارحة.. لكن قصة محمد علي طه آثرت أن تنهي المأساة بقتل المشعوذ.. وفي الحالتين تتأكد الصورة الذكورية الظالمة للمرأة في مجتمع الجهل والسذاجة.
لقد اضطرت المرأة المسكينة إلى مفاحشة رجل غريب، حتى تحمل وتكشف الحقيقة: فأي ثمن هذا.. لكننا نتذكر أن زهاء تسعين سنة مرت على قصة ميخائيل نعيمة، لتظهر قصة محمد علي طه الآن.. والمظلمة هي هي فلا عزاء للنساء الكسيرات، وليس الانتحار أو القتل بالجواب الملائم، فما العمل؟
حتى يأتي الربيع
ثم نصل إلى قصة «غزالة العلي» وهي جدة الراوي التي تعيش على ذكرى زوجها الفحل، الحنون، الشهم، مما يفسح للمقارنة بين والد الراوي وجده، فالأول مرسوم بالاتيكيت، فيما كان الجد مليئا بالحياة وقد زرع زيتونة كانت معادلا موضوعيا لامرأته، أي لجدة الراوي، وحين مات.. صبرت الجدة فترة قصيرة ولحقت به، ليظل الراوي يناجي زيتونة جده وكأنها تذكار من الحياة لتلك الفترة المترعة بالحب والعطاء والعفوية.
وهكذا تطل من جديد قصة الريف بتفاصيلها وتقاليدها واستطراداتها التي يستطيع كاتب متمرس مثل محمد علي طه أن يطورها ويطوعها حتى تكون قصة قديمة تدغدغ فكرة الحداثة وتعبر الزمن..
ويختم الكاتب مجموعته بالقصة التي تحمل عنوان المجموعة «في مديح الربيع»، وهي ثلاثة مقاطع يجمع بينها شريط خفي من النوستاليجا في استذكار الشباب والحيوية والألفة الانسانية بين الرجل والمرأة، فالربيع هو ربيع العمر الذي يظل ماكثا في صاحبه بمرور السنوات.. وما مديح الربيع إلا الاعتراف بوجود هذا الربيع في الحياة، وانه لاعتراف جدير بمرافقة صاحب الذكرى حتى الرمق الأخير...
وبعد،
هي ذي مجموعة محمد علي طه الأخيرة، بتنقلاتها بين القصة الواقعية، والخيالية، وتقنية المقاطع المترابطة، واسترجاع الذاكرة، والرمزية على غير ابهام، بل هو الغموض الموحي الذي يحرض القارئ المتلقي على اعادة انتاج العمل الفني في الذاكرة والمخيلة.. واذا كانت هذه القصص مديحا للربيع، فإنها بالضرورة مديح للمرأة في بلادنا من حيث عنفوانها وجسارتها ومبادراتها، ومديح لبلادنا كلها من حيث هي وعاء للفعل والأحلام والتمسك بالجذور.