الشريعة في الدستور تناقض مع الدولة الحديثة
بقلم: د. خالد الحروب
هناك سطحية بالغة في النقاش والحملة الهائلة التي يتزعمها الاسلاميون، وخاصة سلفييهم، إزاء فكرة فرض الشريعة في الدساتير الحديثة بكونها المصدر الاساس للتشريع. هذه القضية برمتها مفتعلة ولا أساس موضوعيا لها.
المجتمعات العربية والاسلامية تدير طرائق معيشتها وحيواتها منذ قرون من دون دساتير ومن دون نصوص علوية تفرض على الناس كيف تفكر وكيف تعيش، افتعال هذه القضية من قبل التيارات الاسلاموية فيه ادعاء باحتكار النطق باسم الدين، اي سحب للدين من واقع الناس الاعتيادي ليكون في يد الاحزاب والحركات السياسية وبدعوى الدفاع عنه، وافتعال هذه القضية يعكس توترا وعدم ثقة في النفس وكأن حماية الدين لا تتأتى إلا عن طريق فرض النصوص الدستورية والقانونية.
قوة اي دين او عقيدة او ايديولوجيا تنبع من اعتمادها على الاختيار المحض، وليس الفرض القسري كل ايديولوجيا ترافقها ادوات الحكم والسلطة والقانون لفرضها تعمل على هزيمة نفسها بنفسها، وعلى تنفير الناس منها، وحتى لو كانوا اكثرهم قربا واتباعا لها. المجتمعات العربية الحديثة التي نشأت في سياقات الدول الوطنية في حقبة ما بعد الاستقلال ظلت مجتمعات متدينة الى هذه الدرجة او تلك، لكن تدينها كان سمحاً وتعايشياً وعفويا ومن دون اي تنظيرات ادعائية عن التعايش والتسامح كما هي الادعاءات التي نسمعها اليوم.
تكرار الحديث الادعائي والتظاهري عن التعايش والتسامح من قبل اي حزب او حكومة او جماعة يكشف غياب التعايش والتسامح اكثر مما يؤكد حضورهما. كيف نصدق الادعاءات السلفية عن "التسامح الديني" مع المسيحيين ثم نقرأ تحريمهم المتكرر لرد السلام على المسيحيين، او تهنئتهم في اعيادهم، او مشاركتهم في مناسباتهم. كيف نصدق اي ادعاءت حول عدم الرغبة في فرض اية ممارسة دينية على الناس، وحكايات الفرض واقامة لجان الردع الديني تنتشر هنا وهناك، فتقفل محلاً، وتمنع قيام عرس، وتحبط اجتماعا، او تقص شعر طالبة مدرسة ابتدائية لأنها غير محجبة، والى آخر الحكايات التي لا آخر لها.
كل ذلك جديد على مزاج مجتمعات المنطقة وغريب عليها لكنه يصبح يوما بعد يوم الاطار الذي مع الاسف يصوغ ثقافة الاجيال الجديدة، كبار السن في المنطقة من مشرقها الى مغربها وهم المؤرخون الحقيقيون للتعايش الشعبي العفوي والبعيد عن الادعائية والتظاهرية، ينقلون لنا صورا أخرى لهذه المجتمعات كانت تخلو من كل الممارسات السلفوية التي ذكرت اعلاه وغيرها كثير.
الحياة الاجتماعية التي عاشها هؤلاء "المؤرخون" كان ينخرط فيها المسلمون والمسيحيون واليهود (قبل قيام اسرائيل) في الشرق، والسنة والشيعة حيثما تواجدوا، وكذا ينخرط فيها اليهود في دول المغرب العربي، ناهيك عن الامازيغ والعرب. ذلك كله اصبح الآن من الماضي ويتحمل التيار الاسلامي بحركاته المختلفة المسؤولية التاريخية ازاء القضاء على هذا التعايش العفوي، وقولبته في إطار الادعائية الحزبية. اصبحت الحدود المعرفة لـ "المسلم" أو "المسيحي"، أو "الشيعي"، أو "السني"، أو "اليهودي" بطبيعة الحال عميقة وسميكة، وانحدر جزء كبير من مجتمعاتنا الراهنة الى مستنقعات طائفية في نظرتها للآخر، وسيطر على العقل الجمعي التفكير الاقصائي والتحوصلي، وشطر كبير من هذا التحول كان نتيجة الحزبية الاسلاموية الآن تريد هذه الحزبية الاسلاموية نقل الدمار الذي احدثته في المجتمع خلال العقود القليلة الماضية الى سدة الدستور لشرعنة كل التقسيمات الطائفية، وكل النظرة التجزيئية والانشطارية تجاه مكونات المجتمعات.
على ذلك فإن الدعوة الى فرض الشريعة على اي دستور معاصر لا تتوقف عند كونها فكرة سطحية ومناقضة جوهريا لمعنى الدولة الحديثة، بل وتمتد الى ما هو ابعد من ذلك وهو ان تعمل على المدى المتوسط والطويل على تدمير هذه المجتمعات والدول واقحامها في صراعات داخلية ودينية وطائفية لا يمكن ان تنتهي.
الدستور لائحة تنظم طبيعة علاقة الافراد الموجودين في بقعة جغرافية معينة مع بعضهم البعض، وتنظم كيفية ادارتهم السياسية والقانونية لبعضهم البعض، وبحيث يتساوون في الحقوق والواجبات، ويقف كل منهم على قدم المساواة مع الآخر في الانتماء الى الوطن والدولة التي يعيشون فيها. اقحام الشريعة لا يعني فقط ان المواطنين غير متساوين امام القانون وان كل من هو غير مسلم يعتبر مواطنا من الدرجة الثانية، بل يخلق درجات متفاوتة بين المسلمين انفسهم. كيف ستنظر التطبيقات القانونية للدستور المستند إلى الشريعة الى المسلم غير المتدين، أو العلماني، أو حتى الملحد؟ هؤلاء جميعا سوف يكونون مواطنين درجة ثانية ايضا، إن لم يكن أسوأ. يصبح الدستور في هذه الحالة محكمة قيمية واخلاقية بل ومحاسبية، بدل ان يكون اداة تنظيمية وقانونية همها الاكبر حماية حريات الافراد وحماية حقوقهم.
والسؤال الكبير والخطير الذي يرتبط دوما بهذا النقاش هو من هو صاحب السلطة الدينية او السياسية الذي سوف يقوم بتعريف الشريعة، ويحسم بين الآراء المختلفة إزاء كل قضية من القضايا. العبقرية التاريخية للشريعة كانت في تعدديتها الواسعة التي اتاحت للشعوب والمجتمعات والافراد فضاءات الابداع والانطلاق مع الانتماء والبقاء في الفضاء الذي يمنحهم المعنى والهوية. اي محاولة قسرية لإنهاء تلك التعددية، وهو المسار المحتوم لأية عملية لفرض الشريعة في الدستور، معناه إقامة سجون التكلس والجمود وحشر المجتمعات والافراد فيها، وينحط الدستور والسياسة والقائمون على الاثنين الى استنساخ تجربة اللاهوت المسيحي في قرون اوروبا المظلمة عندما زاحمت الكنيسة الخالق في منح العفو والغفران او الطرد من الرحمة للافراد والجماعات.
الاجابة التي يقدمها كثير من الاسلاميين هو ان الشريعة سوف تعتمد على "الاسلام الصحيح والنقي"، وان اصول الدين والمستندة الى علوم السنة والجماعة هي المحددة لمعنى الشريعة وسوى ذلك. لكن هذه الاجابة وهذه التعريفات تظل فضفاضة وليس عليها توافق. حتى في داخل الصف السلفي هناك جماعات وشرائح مختلفة وكل منها يستند الى تفسيرات فقهية ويعتقد ان رأيه هو الاسلم. معنى ذلك ان الاختلاف في التفسيرات هو الاصل بينما الاتفاق هو المخالف للقاعدة، وهذا ما يتناسب مع البشر في نظرتهم لكل نص، وهذا هو اصل التعددية التي وسمت التاريخ والتجربة الانسانية وأنجحتهما، وهو ما تريد الاسلاموية المعاصرة القضاء عليها.