مروان البرغوثي وألف يوم في زنزانة العزل الانفرادي- احمد دحبور
أعترف، من أولها، بأنه لم يحرجني كتاب من الكتب التي أعرضها في هذه الزاوية، مثلما أحرجني كتاب مروان البرغوثي هذا، لا لأسرار فيه، بل لما فيه من تحدي الوضوح وجسارة الحقيقة. فالمسألة ساطعة كالشمس، وما عليك إلا أن تخوض غمارها متلافياً ان تقع في التكرار وتعريف المعرف.. لكننا بشر، وأن نكون كذلك لا يعني انه ليس في هذا التعريف مستويات متراكمة من الخبرة والضعف والقوة والحيرة وما الى ذلك من علامات الهوية البشرية. وعلى هذا القياس يمكن الحديث عن قضية الأسر والنضال والحرية، فالموضوع معروف، لكن كل خلجة فيه تضيف شيئاً الى المركب الانساني القائم على الشعور والوعي والاحساس بالمسؤولية.
وبطبيعة الحال تستقبلنا في مطلع هذا الكتاب، مقدمة احتفالية حارة كتبها اللبناني زاهي وهبي، مشيرا الى موعد في برنامجه المشهور «خليك في البيت» مع مروان البرغوثي سبقته لقاءات مع السيدة الصابرة المثابرة فدوى عقيلة مروان ورفيقة دربه. وهذه المقدمة، على زخمها العاطفي، لا تجافي الخطاب الموضوعي ذا النبرة المتفائلة، فهي نص قوي واثق لمذيع ناجح وأسير سابق ومتابع دؤوب لمعركة الحرية التي لا بد أن تتكلل بالنجاح.
«اذا كان ثمن حرية شعبي هو فقداني لحريتي.. فسأدفع هذا الثمن».. بهذا الشعار الثمين يفتتح ابو القسام مروان البرغوثي كتابه الشاهد على الف يوم من المعاناة والمواجهة في زنزانة العزل الانفرادي.. ذلك ان تاريخ التحقيق الاول الذي تعرض له، كما ينبئنا هو، كان عصر الاثنين، الخامس عشر، من نيسان 2002، اي ان ما يزيد على عشر دورات شمسية قد عبرت، ولا يزال مروان البرغوثي أسير ملحمة الحرية في المعتقل الصهيوني.
لقد خصص مروان لانجاز كتابه - الشهادة سبعة فصول تتناول - كما تقول عناوينها - لحظة المواجهة، ومملكة المجهول والحرب الخفية، والمحاكمة، والعزل الانفرادي، والحياة في زنزانة العزل الانفرادي، مع فصل خاص برفيقة عمره ونضاله فدوى بعنوان حارسة حلمي.. ويختتم شهادته بملحق تتضح دلالته من عنوانه، فهو: التاريخ يشهد..
لم أر مروان البرغوثي إلا مرتين، احداهما في ندوة له برام الله، والثانية حين أتى ليحضر امسية شعرية، في رام الله ايضا، لقريبه الشاعر مريد البرغوثي ولي، واعجبني ابو القسام، للوهلة الاولى، بتعففه في المرتين عن استعراض تاريخه ومواجهته للاحتلال.. انما عندما كتب شهادته هذه، لم يكن الا شاهدا امينا على تجربة فذة بقدر وحشية الجلادين وصمود المناضلين، وسأظل أذكر تلك الجملة العفوية التي كان يبدأ بها الجواب عن اي سوال: دعني اقول.. وكان ما يقول خلاصة رؤيته ورؤياه لمعركة المصير، فلندعه يقول..
من المواجهة الى المحاكمة
بتلقائية متدفقة، يسرد مروان البرغوثي وقائع الجلد والشبح والتعذيب في احد سجون الاحتلال، ويذكر ما قاله المحقق الصهيوني غزال بعد ضربه اياه على اعضائه الحساسة: لن تنجب بعد اليوم، فمثلك لا ينجب الا المخربين، وكأن هذا البطش الذي يقوم به غزال وأضرابه ضرب من خدمة البشرية لتخليصها من سلالة المخربين، لكن ارادة الحياة تجيب هذا الفاشي بلسان مروان، ابني قسام صار رجلا الآن، لم تمت الفكرة وفلسطين ليست بعاقر كما توهمتم.. وغزال هذا، هو الجنرال عوفر ديكل الذي ادمن تعذيب المناضلين الاسرى منذ ربع قرن ولم تكن جولة التعذيب الجديدة الا استئنافا لما بدأ به عندمنا كان يحرص على منعه من النوم اياما، من غير ان يكف عن حربه النفسية البائسة بالنيل من القيادة الفلسطينية والايحاء بأن بعض المناضلين قد اعترفوا بكل شيء - واذا كان حصل على اعترافاتهم فلماذا ينكل بمروان ليعترف؟ - ولم يكتف غزال بهذا، بل دس ثلاثة من العملاء يدعون انهم فدائيون اسرى.. لكن المناضلين بالخبرة والغريزة فوتوا على العملاء فرصتهم، ولم يمنحوهم غبطة الحصول على أي خبر او معلومة.
اما مسار التحقيق، فقد دار حول كتائب الاقصى وتسليحها وعملياتها وعما اذا كان مروان مسؤولا عنها، كما ركز على كشف علاقته بالرئيس أبي عمار.. وخلال هذا كان يطيل التحقيق ويتناوب المحققون على ابي القسام فلا يسمحون له بالنوم، عسى ان ينهكه التعب والنعاس، وهذا ما كانوا يتبعونه في التحقيق مع المناضلين، فلم يأخذوا منهم، في الغالب، حقا وظل لهم الباطل.. ومما يثير السخرية انهم سألوه عن سر تسمية ابنه بالقسام، فالشيخ القسام في دعواهم، قاطع طريق وهو ليس من البلاد!! اضافة الى ان حماس هي التي تتبنى اسم القسام وتطلقه على كتائبها، فما علاقتك يا برغوثي يا فتحاوي بهذا؟
يضيف مروان ان الجلادين لم يكتفوا، بل نقلوه بعد اربعين يوما من العزل الانفرادي الى معسكر سري رقم 1391 ليجد نفسه وسط مجموعة جنود مزودين بالهراوات في ايديهم، والشتائم في افواههم وكان شعارهم أن لا حدود ولا رقابة ولا قيود على التعذيب. وبدأ التحقيق العقيم مرفقا بالنعوت البذيئة والتعنيف والتهديد، فيما كانت العمليات الفدائية، خارج السجن وداخل الارض المحتلة، تنشط وتتسع، فتزيد الجلادين غيظا وغلظة.. اما هو، فكان مملوءاً بالكبرياء والثقة بأنه يمثل شعبا وليس مجرد معتقل. وكانت تصريحات العدو، للمفارقة، تفيد هذا المعنى من حيث لا تدري ولا تريد، فالجنرال موفاز مثلا كان يقول ان اعتقال البرغوثي هو هدية الجيش لاسرائيل في عيد الاستقلال، وتروج الصحف الصهيونية ترهات عن شبكة نشاط مزعوم، وتدعي انتصارا على احد رؤوس المخربين، مع انهم لم يفعلوا غير ان قاموا باعتقال مواطن فلسطيني من الشارع. ولم يكن امامه الا ان يهزأ بهذه الجعجعة، وان يشد من أزر نفسه: النصر صبر ساعة.. والصمود انتصار.
لائحتا اتهام
عند هذا الحد من كتاب مروان البرغوثي، اتوقف عن المتابعة التفصيلية، واكتفي بما استطيع استخلاصه من عبر هذه التجربة المرة، نظرا لاستحالة نقل كل شيء في هذه المساحة المحدودة، مع الأخذ بعين الاعتبار ان كتاب مروان ذاته يقع في خمسين ومئتي صفحة، ومن نافل القول ان هذه الصفحات لا يمكن ان تتسع للأيام الألف التي قضاها في زنزانة العزل الانفرادي.
لقد اعد المحتلون ملفا للائحة الاتهام يشمل اثنين وخمسين بنداً من الجرائم التي الحقوها بمروان، منها تأسيس كتائب الاقصى وقيادتها والمسؤولية عن مقتل مئة واربعة اسرائيليين بين جنود ومستوطنين ومدنيين مع تمويل عشرات المجموعات المقاتلة، بالتعاون مع المناضلين ناصر عويص وناصر ابو حميد.
ويرى مروان «ان حكومة الاحتلال بهذا القرار تريد ان تدين الانتفاضة والمقاومة»، وانها ترمي ضمنا الى ادانة الرئيس الشهيد ياسر عرفات ومجمل النضال الفلسطيني. وبحسبة مدروسة يرى ان هذه المحاكمات الصورية قد شملت ربع الشعب الفلسطيني الرازح تحت الاحتلال، بما يشكل اعلى نسبة معتقلين في تاريخ الاستعمار العالمي، اما آلية التشريع القضائي لدى الاحتلال فهي قوانين الطوارئ التي لا تعترف عمليا بأي مرجع قانوني انساني. مع رفض اعتبار المعتقلين اسرى حرب، وبالتالي عدم سريان اتفاقيات جنيف المعمول بها دوليا في محاكمة الاسرى. وغني عن القول ان لائحة اتهام كهذه هي لائحة سياسية بامتياز رغم ان المحكمة جنائية!! «وهو ما املى علي رفض التعامل مع هذه المحكمة وعدم الاعتراف بها» ولا يعدم مروان حجة في موقفه هذا فهو نائب منتخب شعبيا في مجلس مشهود بقانونيته واحترامه للنظام العام، اما المحكمة فهي كيدية وهي من وجهة نظر الاحتلال لا المواطنين الفلسطينيين.
عقدت هذه المحكمة الصورية يوم 14/8/2002، ولم ينتدب مروان محاميا، بل ا نه اقتيد مجبراً بالقوة الى المحكمة وسط هوبرة اعلامية تحريضية. فحضر الصهاينة المتطرفون ولم يسمحوا لذوي المتهم بالحضور.. ولم يكن امامه الا ان يرفع يديه المقيدتين هاتفا بالعربية والانكليزية والعبرية: الانتفاضة ستنتصر.. وعلى امتداد ثلاثين جلسة قام ثلاثون ضابطا من الشاباك بكل ما لديهم من اتهامات وافتراءات وما يسمى شهادات، فضلا عن 41 مناضلا طلبوا منهم الشهادة ضده فرفضوا.. وباختصار شديد، قدم المناضل مطالعته عن جرائم الاحتلال ضد شعبه والاذى الذي لحق به، فكانت تلك بحق محاكمة للاحتلال لا للمناضل الموقوف.
حكموه بستة وعشرين مؤبدا مبدئيا، على ان تنظر المحكمة في الاعتراضات المقدمة بعد ان يقضي المتهم محكوميته البالغة اربعين وخمسمئة عام!! ليست هذه نكتة، بل واقعة مسجلة؟؟
من موقع آخر، قدم مروان البرغوثي لائحة اتهام ضد الاحتلال، لم تسمعها المحكمة طبعا بل امكن تسريبها الى الصحافة، وفيها «ان الاحتلال اعلى مراحل الارهاب»، وان المقاومة حق مشروع لكل مواطن حريص على حريته واستقلال بلاده، وقد نجم عن لائحة الاتهام المضادة التي تقدم بها ابو القسام، شعار تحول من صرخة فردية الى هتاف للمقاومة: قاطعوا محاكم الاحتلال..
وهكذا نجحت هذه التجربة النضالية موضوعيا في ان تكون ثمة لائحتان للاتهام لا واحدة!!
العزل الانفرادي
تسهب شهادة مروان البرغوثي في تعداد اشكال التعذيب التي يمارسها السجانون الصهاينة على المعتقلين الاسرى، ويتوقف بخاصة عند سياسة العزل الانفرادي، حيث يوضع الأسير وحيدا في زنزانة ضيقة ليعاني ما يسميه بالموت البطيء. ويعزز جهاز الشاباك سياسة العزل الانفرادي بادعاء ان المناضلين قد اعترفوا بما نسب اليهم «مع ان جزءا كبيرا من الاسرى الذين يتم عزلهم توجه اليهم اتهامات لا اساس لها من الصحة» وبعض الأسرى يقبعون في هذا العزل سنوات طويلة.
بالنسبة الى مروان فقد تم نقله في مطلع سنة 2003 الى زنزانة رقم واحد في معزل سجن الرملة. وكان لا بد من الصراخ وما من مجيب او سامع في سجن ايالون الموحش البارد، ثم كان الانتقال الى سجن شطة الذي هو «من اسوأ اقسام العزل في السجون الاسرائيلية واكثرها مرارة وقسوة» حيث لا يسمعك احد حتى لو طرقت الابواب. وبعد ذلك يأتي دور الزنزانة رقم 5 في عزل بئر السبع وهي الزنزانة الاصغر والاكثر ضيقا مما سبقها، وقد زج في هذا المعزل عدد من الاسرى مثل عبد الله البرغوثي ونزار رمضان ومحمد الرشق ومحمد حمادة واحمد المغربي الذي استشهد شقيقه محمود في احدى العمليات الفدائية خلال فترة سجن أخيه.
كان الوقت المخصص لكل اسير في العزل الانفرادي ساعة من الزمن فقط تسمى الفورة، حيث يجول الاسير في ساحة ضيقة تبعد ستة امتار فقد عن زنزانته وهي ساحة طولها عشرون مترا وعرضها عشرة امتار ويراها الاسير مع ذلك فضاء واسعا قياسا الى قبره المسمى زنزانة. وفي هذه الظروف غير الانسانية تعلم ذاتيا لغة العدو العبرية مع معرفته الانكليزية.
كان الاسير يهتم بزيارة المحامي، لأنه محروم من رؤية اهله الممنوعين من زيارته، وحتى زيارات المحامي كانت محدودة شحيحة، وليس للأسير الا ان يحلم ويستذكر الوجوه التي يحن اليها.
و«لا حياة في الزنزانة».. هكذا يقول هذا الاسير المسحوب منه حقه في النور والهواء والزيارة فضلا عن الطعام اللائق بالانسان، ومع ذلك فهو يؤكد «عجز الاحتلال عند انهاء دوري النضالي على الرغم من السجن والعزل.. فارادة الانسان اقوى من القيود الحديدية والاسوار العالية، وعتمة الزنزانة»، ومع انه لم يكن لديه الا عدد قليل من الكتب جمعها من بعض الاسرى، الا انه اقبل، حسب الممكن، على القراءة ومطالعة الاحداث، بل ان بعض الاسرى قد نجحوا في التواصل مع الدراسة بالمراسلة مع الجامعة المفتوحة في تل ابيب، وبعضهم انهى دراسته فقد «كانت الزنزانة على رداءة ظروفها وقسوتها فرصة لممارسة القراءة والمطالعة، ولكن المشكلة كانت تكمن في محدودية الكتب». ولقد اتاح له السجن فرصة التأمل عميقا في شؤون الحياة الاجتماعية وحق المرأة في التعلم والمبادرة ونجاحها في المشاركة الايجابية.. ففي هذا العزل الانفرادي، او على الرغم من العزل، كان يملك حرية العقل والتفكير وهي ما لا يستطيع الاحتلال مصادرتها او لجمها. وقد قرأ في السجن كتبا عبرية مثل «الحرب السابعة» لآفي سخاروف وعاموس هرئيل. و«الضربة المرتدة» لعوفر شيلح ورفيف روكر، ويعترف هذا الكتاب باخفاق القيادة الاسرائيلية في لجم الانتفاضة الثانية، كما قرأ بعض الكتب العربية. وكان يتصيد فرصة مشاهدة التلفزيون احيانا وبخاصة قناة ال.بي.سي اللبنانية، اضافة الى بعض الاذاعات المحلية، وقد كانت هذه الاطلالات شبه المسروقة على العالم الخارجي عزاء له في هذا القبر الانفرادي، اما الهاتف المحمول الذي انتشرت ظاهرته في تلك الفترة فقد كان الحصول عليه انجازا كبيرا يعوض، قدر الامكان، عن عدم رؤية الأهل والاصدقاء. وقد تمكن مروان بهذه الاداة المهربة من المشاركة حتى في الحوار الداخلي الفلسطيني الذي نجم عنه تشكيل حكومة ابي مازن.
قسام البرغوثي
سيتذكر مروان انه كان في سجن بئر السبع هذا. قبل ثمانية عشر عاما في غرفة مجاورة لقسم العزل. برفقة خمسة وثلاثين مناضلا اسيرا، وتحديدا في الشهر التاسع من عام 1985، عندما كانوا يخوضون اضرابا عن الطعام، وقد اتى المحامي لزيارته، فزف له نبأ سعيداً.. ذلك ان فدوى البرغوثي، قرينة مروان، قد انجبت صبيا، وان الأم والولد في حالة صحية جيدة. وهكذا رأى قسام البرغوثي نور الدنيا عندما كان ابوه اسيرا في احد سجون الاحتلال.
وها هو مروان يستعيد الذكرى، فيتم ابلاغه يوم 23/12/2003 انه تم اعتقال ابنه قسام، اي ان الفتى سار على طريق ابيه وتعرض للاعتقال وهو لا يزال في الثامنة عشرة من عمره. وتشاء المفارقة انه في ذلك اليوم كانت فدوى تتقدم الى امتحانات رسالتها لنيل الماجستير.
وقسام الذي اصبح شابا يشارك في التظاهرات، ويدخل السجون، سرعان ما اتضح نضج وعيه من طبيعة الرسائل التي كان يرسلها الى ابيه، حيث كان يشد من أزره ويعينه الا يقلق عليه وهما في سجنين من سجون الاحتلال، فمروان في بئر السبع وقسام في عوفر، والقضية واحدة.. ويبين مروان ان هذا الوضع لم يكن فريدا، فان زملاء له في الاعتقال قد علموا ايضا ان ابناءهم قد تعرضوا لهذه التجربة. ولم يكن هذا هو الألم الوحيد على مستوى الاسرة، فقد مرضت والدة مروان، وتوفيت عام 2007 وهو لا يزال في السجن، ولنا ان نتخيل ان زملاءه جميعا ممن يقضون احكاما طويلة في السجون قد حرموا من رؤية ذويهم كما جرى مع مروان وقسام البرغوثي.
وينشر مروان، في يومياته هذه، نص رسالته الجوابية الى ابنه وهما معتقلان، فيبادله المواساة وشد الأزر ويخبره بتفاصيل ظروفه، فقد استشهد زميله الاسير عبد القادر ابو الفحم وهو مضرب عن الطعام، وقد خاضوا اضرابات كثيرة سببت لهم عللا وامراضا، وامتنع الجلادون عن تقديم المساعدات للمرضى، بل ان بعض «الاطباء» كانوا يساومون المناضلين الاسرى حتى يفكوا اضرابهم.. ولكن عبثا.
ويستذكر مروان في رسالته الى ابنه، علاقته الجميلة بأمه اثناء الخطوبة والزواج والحمل، كما يتذكر عملية تبادل الاسرى والافراج عن 1150 اسيرا، فكان يوما سعيدا للمناضلين، اما على المستوى الشخصي، فقد فجع مروان بوفاة والده.. وكانت تلك مناسبة ليخبر مروان ولده بمآثر جده العفوية وصبره العنيد.. وقد كانت الرسائل مواتية ليخبر الاب ابنه باسباب اطلاق اسم القسام عليه، فقد كان الشيخ الشهيد القسام مثالا للتضحية والاخلاص، وكان من حقه ان نخلد ذكراه باطلاق اسمه على بعض ابنائنا.. والواقع ان رسالة مروان لابنه، وكلاهما معتقل من اجل الحرية، تعتبر وثيقة نادرة من ادب السجون، بما هي مادة حية تعرض عفويا لجوانب من النضال يمتزج فيها الشخصي بالعام.
الاضراب والصدمة
ليس اضراب الاسرى عن الطعام بالحدث المفاجئ، فقد كانوا كثيرا ما يعلنون اضرابا مفتوحا عن الطعام، اما احتجاجا على سلوك الجلادين، او استجابة لأحداث يسمعون بها، او مطالبة ببعض الاحتياجات الانسانية اللازمة كزيارات الأهل او تحسين المعاملة. وكان مروان من المعزولين عن زملائه في زنزانة منفردة، لكنه ما ان يسمع بالاضراب حتى يشارك في هذه الفعالية السلبية الناجعة، وكان الجلادون يردون بجملة من الاجراءات التعسفية والاستفزازية، فيخضعون الاسرى لتنقلات مفاجئة ويمنعون عنهم الاجهزة الكهربائية، بل انهم عمدوا - في بعض الاحيان - الى سلوك مضحك في غرابته، اذ قاموا باطلاق رائحة اللحم المشوي حتى يزكموا انوف الاسرى ويثيروا شهيتهم المقموعة. بل انهم نشروا بين الاسرى صورة لمروان وهو يتناول طعامه. ليقولوا انه يتمتع بهذا الامتياز فيما يعيش زملاؤه في الحرمان!! وقد «يصبح الطعام، او حتى رغيف الخبز حلما يفكر فيه المناضل المضرب، يتخيله ويتمناه» وخلال هذه المحنة لا يتوقف السجانون عن الشتم والاهانات والتنكيل.
اما الصدمة الفاجعة فكانت اذاعة نبأ استشهاد الاخ ابي عمار، الذي كان المناضلون يرون فيه الأب والقائد والأخ الكبير. «عندما سمعت خبر استشهاد ياسر عرفات من خلال احدى المحطات، شعرت بأنني اختنق وانفجرت عيناي بالدموع لأول مرة منذ اعتقالي»، وحضرت صورة القائد الوالد في مختلف مراحلة تجربة المناضلين معه، وفخره بفلسطينيته كفخر الانبياء برسالاتهم. «كانت فلسطين تسكن حياته وقلبه وعقله ووجدانه».. ويؤكد مروان ان الشك لم يساوره في ان ابا عمار مات شهيدا وان المخابرات الاسرائيلية قامت باغتياله. وسيتذكر مروان كلام الرئيس الامريكي بوش لشارون في موضوع تصفية ياسر عرفات يوم قال بوش لشارون: اترك الأمر للرب، فرد عليه شارون: ان الرب بحاجة الى من يساعده احيانا!! ويعلق مروان: لقد قرروا استراتيجية فرض الحل الاحتلالي على الفلسطينيين بدعم امريكي، ولتحقيق هذا الهدف كان لا بد من اغتيال ياسر عرفات.
حارسة الحلم
كما اعطى مروان البرغوثي حيزا مؤثرا في هذه اليوميات لابنه القسام ورسالته المطولة اليه، فانه خصص لرفيقة عمره ام القسام، فدوى البرغوثي فصلا مؤثرا عنوان «حارسة حلمي»، ولا شك في ان قارئ هذا النص، يتجاوز بوعيه متابعة حميمة كهذه من كونها مشاعر مناضل تجاه امرأة عمره الى كونها نشيدا انسانيا ينسحب على الاسرة الفلسطينية. بمختلف مكوناتها، واذا كانت فدوى هي حارسة حلم مروان فان المرأة الفلسطينية، كما كتب محمود درويش في بيان الاستقلال، هي حارسة نارنا الدائمة.. هكذا يخرج الخطاب من دائرة البوح المشروع الى أفق النضال الانساني الذي يشمل الحالات الشبيهة لحال الشعب الفلسطيني في ملحمة الصبر والصمود، حتى لنكاد نسمع صوته من خلال الورق والحبر وهو يؤكد: «ارفع قبضتي صارخا، ليس في هذا المكان صدى لصوتي.. فاسمع صوت زوجتي واولادي واسمع صوت شعبي مدويا عاليا عاليا»، ونكاد نرى المناضل الاسير، من خلال كلماته الحارة هذه، وهو يرفع يديه المقيدتين ليحيي شعبه وشعوب العالم المتضامنة معه، في صورة شهيرة اصبحت، للتاريخ، رمز الصمود والتحدي والوفاءل مشروع الحرية التي اصبحت من اسماء فلسطين الحسنى.
يقول: كل شيء يمكن التسامح معه مهما كان، الا شيئا واحدا وهو التورط في التعامل مع العدو.. ولأن العدو حقيقة ماثلة، وليس رمزا، فان مروان يحدده بأنه الاحتلال وجنوده، وجهاز الشاباك الذي ينفذ سياسة القمع والتحقيق، وينقسم الى قسم للحماية والأمن، وآخر يسمونه قسم مكافحة الارهاب، وثالث مختص بالمعلومات والدراسات، ورابع مؤلف من العملاء المندسين بين صفوف الاسرى.
التاريخ يشهد
بجملة واحدة جامعة مانعة، يقول مروان البرغوثي: لم يزدني السجن الا ايمانا بعدالة قضية شعبي. ولم تكن هذه الجملة عزاء للنفس، بل هي علامة استحقاق ومرافعة مسهبة امام التاريخ بعيدا عن الانشاء والخطاب العام. فقد زورت دولة الاحتلال وقائع التاريخ والجغرافيا، فيما ترسخت قناعة الفلسطينيين بأن دولة الاحتلال لا تريد سلاما معهم، وانها تصر على استمرار العدوان وحرب الابادة، و«ان الفلسطينيين لهم الحق الكامل في مقاومة الاحتلال وبطشه وجرائمه» وهو ما يعني ان مقاومة الاحتلال ممارسة للحرية وجزء من ممارسة الحس الانساني والمشاعر الانسانية.
ان مروان بهذا الخطاب الطالع من عمق الوعي ومغزى العناد الوطني، لا يقدم امثولة او درسا، بل يعرض بكل تلقائية انموذجا تاريخيا لاولئك البسطاء الذين يصنعون التاريخ. فقد كان من ابسط حقوقه الانسانية ان يعيش مع امرأته واولاده باطمئنان وأمان، والا يولد ابنه وهو بعيد عنه في السجن، والا يشاركه ابنه محنة الاعتقال.. هذا كله من حق مروان البرغوثي، لا لأن على رأسه ريشة، بل لأنه انسان من حقه العيش بكرامة وحرية. ولا شك ان الجلادين السجانين يعرفون هذه البدهيات ما داموا يعرفون القراءة والكتابة، لكنهم اختاروا معاكسة السير، وبذلك يكونون قد حكموا على انفسهم بمعاداة الحياة.. والحياة مستمرة وعنوانها ما ختم به مروان شهادته من «ان الانتفاضة هي حركة الشعب الفلسطيني الاستقلالية من اجل ان نكون اسيادا في بلادنا ووطننا، وان نمارس حريتنا في اطار دولتنا الفلسطينية كاملة السيادة».
نمر بهذه المحنة، ونصمد هذا الصمود على مرأى من سكان الارض.. والتاريخ يشهد.