"القطاع" من زاوية أخرى- نهلة الشهال
المعنى العميق للعدوان الجاري على غزة الآن هو أن العدوان الفائت كان فاشلاَ. ولأن إسرائيل تعطي «أسماء» لعملياتها كجزء من الحرب الاعلامية والمعنوية، فمن المفروض اسقاط استخدام التسميات المقررَّة من العدو. مقاطعتها. هل يعقل أن نردد تسمية «عناقيد الغضب» على سبيل المثال؟ وعلى أية حال، فإبداع إسرائيل الادبي واللغوي يتراجع: أين «الرصاص المسكوب» من جون ستاينبك الذي استعارت إسرائيل عنوان روايته الشهيرة لتعليب عدوانها ذاك على لبنان؟ واما «عمود السحاب»، فتسمية بليدة تخلو من اي إيحاء.
استخدمت إسرائيل في عدوان 2008/2009 القصف على نطاق واسع، والفوسفور الأبيض الحارق، وأسلحة أخرى «محرمة دولياً» (من المضحك استعادة مثل هذه التصنيفات، فهل القنابل الملقاة فوق رؤوس الناس في المدن والقرى «محللة» دولياً؟ هذا عدا أصلاً تنظيم الحرب نفسها على هذه الشاكلة القانونية، حتى بين الجيوش وعلى الجبهات، عدا شرعية أي حرب أصلاً، بينما حروب التحرير مفروضة على الشعوب). وهذه الاسلحة والغارات المخيفة، ووقوع أكثر من 1450 ضحية مدنية، ثلثهم من الاطفال، كان يفترض بها جميعها أن تكون مُرهِبة كفاية بحيث تدفع من ذاقوا طعمها الى طلب الخلاص من تكرارها بأي ثمن. ولكشف هذا المنطق، قال منذ يومين موشي يعلون، نائب رئيس الوزراء الاسرائيلي، والذي غالباً ما يعرَّف كواحد من ألمع الاستراتيجيين في إسرائيل، بأن «الحرب على غزة ستستمر حتى تطلب حماس المغفرة». والقول يعكس حلماً إسرائيلياً تجاه كل المقاومات لها، لم يتحقق في الماضي، فلما افتراض تحققه اليوم؟ ولكن البشر في نهاية المطاف يستخدمون ما تطاله أيديهم. فإن كان إرهاب الدولة الذي تمارسه إسرائيل لا يفلح في كسر شوكة مقاوميها، فليس بإمكانها سوى تكرار عملياتها الارهابية الى ما شاء الله، وإن تكن بلا طائل. وفي الوقت نفسه تغذي الامل، بما قاله يوما رابين: بأن يستفيق ويجد البحر قد ابتلع غزة. الجملة تجسد قمة اليأس. فالبحر لم يبتلع غزة، وما كان ليفعل.
على العكس من ذلك، يُقر أشد اعداء الفلسطينيين بأن السنوات الاربع المنقضية منذ الحرب السالفة قد شهدت تطوراً نوعياً في قدراتهم وفي تنظيمهم العسكري والمدني على السواء. وأنهم كانوا يستغلون الوقت لتعزيز وسائل مواجهتهم لعدوهم. صحيح أن إسرائيل قتلت القائد احمد الجعبري، ولكن الصحيح أنها قتلت قبله قافلة من القادة اللامعين. من نسي يحي عياش، «المهندس» الذي قال عنه رابين أنه، لفرط دهائه، «يخشى أن يكون جالساً بيننا في الكنيست»، وأنه «خطر حيوي على إسرائيل». عياش كان قائد كتائب عز الدين القسام، تماما مثل الجعبري، واغتيل في قطاع غزة العام 1996، واغتياله لم يحل دون وصول الجعبري. واغتيال الجعبري ـ دون التقليل من الخسارات الفادحة في كل مرة ـ لن يحول دون وصول سواه الى منزلته بل والى ما يفوقها.
اسرائيل اغتالت قادة «فتح» والجبهة الشعبية قبل قادة «حماس». اسرائيل لم تطق قلم غسان كنفاني، ولا قلم ماجد أبو شرار، فكيف تطيق صاروخ الجعبري؟ وهي لم تطق ابو أياد وابو جهاد، ولم ترض بوجود أبو عمار رغم اتفاقية أوسلو. فقتلتهم جميعاً: اسرائيل كيان مجنون. وهذه ليست شتيمة، بل توصيف للمرض. فهي تريد اعادة صوغ الكون على هواها، وهذا كما يعرف من تجاوز الرابعة من العمر، أمر مستحيل. التأقلم مع الآخرين يبدأ في مثل تلك السن، حين يكتشف الطفل أن هناك عالماً خارجياً يتعدى رغباته. ومن لا يتأقلم مع هذا المعطى، الاوَّلي والتأسيسي، يخرج من دائرة الحياة. ولكن لو تأقلمت اسرائيل فستتغير تماما ولا تعود هي. تصبح دولة لكل مواطنيها، دولة كسائر الدول في العالم فيها الصالح والطالح، ويعيش فيها اليهود من دون امتياز، ومن دون اضطهاد أيضاً. بينما اسرائيل ليست كذلك، ولا هي مستندة الى «مجتمع»، رغم وجود الاطفال والكبار والمرضى والاصحاء والاطباء والمدرسين والكتاب والسينمائيين والعمال... أي الناس العاديين فيها، ومن أبنائها. بل هؤلاء جميعاً، عرفوا ذلك ورضوا به، أم لم يعرفوه ورفضوا، يعيشون في معسكر حربي مغلق، قلعة تنظر الى محيطها بمزيج من الهلع والكره. بعدم أمان تام رغم تفوقها العسكري الكبير. اسرائيل تواجه الحقيقة المُرّة لوجود الفلسطينيين. وهي ارتكبت في هؤلاء كل ما يمكنها، في ظل تواطؤ عام نادر معها، أو اختلال لمصلحتها لألف سبب وسبب. فكان الفلسطينيون، ضحاياها، يصرخون ويتحسرون ويبكون، وربما استكانوا أحياناً ولبعض الوقت، ولكنهم لم يختفوا من الوجود. وحيناً بعد حين كانوا يقاومون. وكانوا يجدون من يقف معهم، دولاً أحياناً وافراداً وحركات خصوصاً. ولأنها تكاد تكون مخططاً هيكلياً للظلم الصافي، فلا يوجد في العالم قضية تحظى بالاعتراف وبالتعاطف كالقضية الفلسطينية. بغض النظر عن التفاصيل. لا يوجد قضية أخرى ناضل في صفوفها واستشهد تحت ظل راياتها عشرات الآلاف من غير «أبنائها»، من كل اتجاه فكري، عرباً وكرداً وبربراً وغربيين، وصولاً الى اليابانيين... فاقت في ذلك من بعيد الكتائب الاممية في الحرب الاهلية الاسبانية التي ما زالت تلهم الخيال.
عودة عملية اليوم تعني ان سالفتها فشلت. وهذه الحالية ستنتهي بوقف للنار كسالفتها. وبعدها ستقع عدوانات أخرى. وهذا اسمه الصراع. يقول مسؤول إسرائيلي أن هناك 44 مليون هجوم «سيبري» (انترنت) وقع على إسرائيل في الايام الخمسة الاولى من عدوانها. وأنها هجمات جاءت من كل أنحاء العالم. تظهر التغطيات الصحفية أن معنويات أهل غزة ارتفعت لسقوط صواريخ المقاومة على تل أبيب. مع أن أهل غزة هؤلاء، بسبب خبرتهم المديدة بإسرائيل كانوا يعرفون حق المعرفة انها ستجيب بقسوة. وأنهم هم من سيتلقى قصفها. ولكنهم هللوا وكبروا بل واطلقوا المفرقعات! وكذلك فعل أهل القدس حين سمعوا دوي الصاروخ الذي كان يمكن أن يقع فوق رؤوسهم هم. هذا الفرح عقلاني تماماً، وهو لا يجهل أن «توازن القوى» ليس أبداً لصالح الفلسطينيين، ولكن هذا أيضاً اسمه الصراع.
تقف إسرائيل اليوم، ومجدداً، أمام معادلة استمرار الصراع! لا قصفاً نفع ولا اغتيالا، ولا قمعاً، ولا ترهيباً وتيئيساً ورشوة وإفساداً وإفقاراً وتجويعاً. قد يُهزَم المقاومون مرة، مرات، قد ينكسر البعض ويستقيل، بل ويقلب سترته وينظِّر للواقعية، للاجدوى، للتعقل، للتحضر. والثمن حقاً باهظ. وهذا الصراع عطل تطور مجتمعاتنا ونماءها. والقلب يحترق على كل ضحية. ولكن الامر هكذا، والبحر لن يبتلع غزة، ولا فلسطين. فما إسرائيل فاعلة؟
عن جريدة "السفير" اللبانية