الدين لله والوطن للجميع- جابر عصفور
دمعت عيناي وأنا أري عشرات الآلاف من المتظاهرين وأسمع الحناجر الهادرة حول مبني الاتحادية وهي تهتف: الدين لله والوطن للجميع. وقد أعادتني هذه الهتافات إلي رؤية الأزمة الكارثية التي تعانيها مصر اليوم في السياق الذي يبرز حقيقة أسبابها.
ليس الخلاف سببه انقسام ديني بين من يتمسح في الصفة الإسلامية ويدعي أنه حامي حمي الإسلام من أهل البدع من الملاحدة الليبراليين والديمقراطيين والاشتراكيين وغيرهم من أعداء الإسلام فيما تري طائفة من المسلمين, بلغ بها التطرف إلي الحد الذي أصبحت تري معه أنها الفئة الناجية التي تحتكر التدين ولا تسمح لغيرها من المسلمين أن يكون مسلما إلا إذا كان موافقا ومقرا لهذه الفئة علي ما تراه, وإلا بقي في ضلال مبين, وكفر لا خلاص منه إلا بإقصاء صاحبه واستئصاله ماديا أو معنويا. والمضحك والمبكي أن خصوم هؤلاء مسلمون مثلهم, قد يعرف الكثير منهم عن الإسلام أكثر مما يعرف قادة هؤلاء المتأسلمين وأتباعهم البسطاء الذين ضللهم هؤلاء القادة الذين يقودون الوطن إلي فتنة وحرب أهلية.
وللأسف فإن سبب الفتنة التي نعاني من آثارها, إلي الآن, أن طرفا ينكر الإسلام; والآخر يؤمن به ويدافع عنه, فالجميع مسلمون, والجميع ينتسبون إلي تراب هذا الوطن, وأغلبهم يري أنهم إخوة لكل من يعيش معه من مسلمين وأقباط علي أرض الوطن الذي لا يمايز بينهم في معني المواطنة. ولا أدل علي ذلك من أن المسلمين الذين ينكر عليهم المتأسلمون الحياة الآمنة في وطنهم الواحد يقيمون شعائر الإسلام في الميادين, ويصلون صلاة الجمعة عندما تحين أوقات الصلاة, وبعد الصلاة يعودون إلي هتافهم ضد الظلم والاستبداد والديكتاتورية, ولم يخطر ببال أحد من هؤلاء التراجع عن إسلامه, وإنما يعترض الجميع علي انفراد فصيل وطني بالتحكم في مصائر الجميع, وإقصاء المخالفين.
وعبثا أن يحاول هؤلاء المتأسلمون التشويش علي القضية الأساسية, فالأصل في هذه الأزمة الكبري القرارات الدستورية التي ظاهر بعضها الرحمة والقضاء علي الفساد القديم, لكن حقيقتها الاستبداد المطلق الذي يجعل من الحاكم ديكتاتورا مكروها من أحرار شعبه الذين ثاروا في الثورة التي أطاحت بمبارك. وكان فيها الرئيس مرسي الذي يبدو أنه ينسي عهد الثورة وشعاراتها, فأطاح بأهم شعار فيها وهو الحرية- ليبقي علي لجنة تأسيسية لدستور لن يمثل كل قوي الوطن وطوائفه وتياراته, وينحاز- وهو ما حدث بالفعل- إلي مصالح من ضيقوا علي أقرانهم, ودفعوهم إلي الانسحاب من اللجنة التأسيسية, ومن الغريب أن أحد القرارات الدستورية التي أصدرها الرئيس( ويفتي عدد غير قليل من الفقهاء الدستوريين أنها غير دستورية) ينص علي مد وقت عمل لجنة الدستور شهرين, والسبب الذي يفهمه العقلاء هو منح الأطراف المتباعدة فرصة للتقارب. ولكن من بقي في اللجنة التأسيسية استغلوا فرصة انسحاب إخوانهم, وفرغوا من الدستور في يومين, ووصلوا الليل بالنهار في اليوم الثاني الذي كانت عملية التصويت فيه أعجوبة من أعاجيب هذا الزمان الذي تسمت فيه الأشياء بغير مسمياتها, فأصبح الخلاف في الموقف السياسي كفرا, والخروج علي الظلم إلحادا. وأطرف ما في الموقف أن كل الذين رفضوا القرارات الدستورية للرئيس وافقوا, ولا يزالون موافقين علي ما ورد في المادة الثانية من مشروعه التي تنص علي أن الإسلام دين الدولة, واللغة العربية لغتها الرسمية, ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع. ولم يتظاهر أحد من القوي الوطنية: الإسلامية والمسيحية ضد هذه المادة التي يوافقون عليها, ما ظلوا يعيشون في دولة مدنية, وهذا ما أكده الرئيس مرارا وتكرارا, وإنما تظاهروا ضد قرارات الرئيس التي صنعت الأزمة, مجسدة نوعا من الاعتداء علي القضاء ضمنا وصراحة, ولما بدا من مواقف مخالفة لمبدأ الحرية, وموحية بما يريب النفوس, ويبعث فيها الحوف علي الديمقراطية الوليدة.
ووصل الأمر بعدد كبير من المتأسلمين إلي محاصرة المحكمة الدستورية العليا, ومنع القضاة من دخول المحكمة, وسكتت قوات الأمن, ولم تتحرك لمنع حصار المحكمة. ولم يكن من قبيل الصدفة أن يقوم النص الدستوري الخاص بالمحكمة بإنقاص عدد أعضائها, فيصبح العدد أقل من خمسة أفراد, وذلك لا معني له إلا التخلص من غير المرضي عنه من القضاة. أما قوانين عملها فمتروكة لمجلس الشوري القائم رغم الشكوك التي تحيط بدستوريته, فهل يكون هناك معني لاستكمال صفات الحرية والكرامة الإنسانية والعدل, وهي شعارات الثورة, مع مثل هذه الأوضاع.
هذا هو ما دفع شباب ثورة يناير إلي الخروج من جديد, والثورة علي حكم الإخوان الذين تعاهدوا معهم علي صون شعارات الثورة: عيش, حرية, عدالة اجتماعية, كرامة إنسانية, وذلك كله تحت غطاء دولة مدنية لم يتوقفوا عن الهتاف لها, خوفا عليها, وتأكيدا لضرورة حضورها الذي لا يتناقض والإسلام قط( وارجعوا إلي تجربة ماليزيا وتركيا). ولكن أعداء الدولة المدنية ارتدوا قناع الدفاع عن شرعية الرئيس التي لا ينكرها مواطن, وهذا مقبول منهم, ولا يخالفهم فيه المؤمنون بالديمقراطية أملا في المستقبل الواعد. ولكنهم قرنوا الشرعية السياسية بالدفاع عن الشريعة الإسلامية. السؤال: الدفاع ضد من؟! ضد إخوانكم المسلمين أو ضد إخوانكم المسيحيين الذين يعتبرون ميراثهم الثقافي جزءا من ميراث الحضارة الإسلامية. ويزيد الطين بلة ذلك الهاتف الذي يقف صارخا: موتانا في الجنة, وموتاهم في النار. يعني شهداء المظاهرات الأخيرة للانتفاضات الشعبية ضد ما كان إعلانا عن ديكتاتورية محتملة. ولم يفكر هذا الصارخ بالباطل أن الكل مسلمون من الشهيد إسلام الذي ينتسب إلي جماعة الإخوان إلي غيره من الشهداء الذين استشهدوا في أكثر من مكان, جنبا إلي جنب إخوانهم من المسيحيين الذين آمنوا أن الدين لله والوطن للجميع. وكلهم أدمي ويدمي قلب الوطن كله. وهل كانت صدفة أن تهتف عشرات الآلاف حول الاتحادية, مرددة شعار ثورة1919 الذي لا يزال باقيا في الذاكرة الجمعية للمصريين, وسوف تظل باقية كالتعويذة التي تقضي علي شعوذة أولئك الذين يمايزون بين أبناء الوطن بالدين, أو يخفون طمعهم في السلطة تحت عباءة دين, هو منهم براء, فالدين عند الله الإسلام, وهو دين المحبة الذي تعلمنا منه المعني الأول للدولة المدنية التي تمنح الحقوق المتساوية للمسلم والمسيحي واليهودي. ويا ليت هؤلاء الذين يخلطون بين الشرعية السياسية والشريعة الدينية يعرفون أن دينهم كتاريخهم يؤكد أن الدين لله والوطن للجميع.
*نقلاً عن صحيفة "الأهرام" المصرية