أنشودة السياب التي لا تذبل- شوقي بزيع *
بحلول الشهر الأخير من هذا العام يكون قد مر ثمانية وأربعون عاماً على رحيل الشاعر العراقي بدر شاكر السياب، والحقيقة أنها ليست المرة الأولى التي أكتب فيها عن رائد الحداثة العربية الأشهر، ولكنني أجد صعوبة بالغة في اجتياز هذه الذكرى من دون التوقف قليلاً عند صاحب “أنشودة المطر” الذي لا تزال تجربته حاضرة بقوة في وجدان العرب جميعاً . فما الذي جعل السياب يحتل هذه المنزلة الخاصة متقدماً، وفق معظم النقاد والدارسين، على رفيقيه في الريادة نازك الملائكة وعبدالوهاب البياتي، رغم أن الأولى أحدثت في زمنها دوياً غير قليل بوصفها الشاعرة الاستثنائية التي أسهمت في “تأنيت” الحداثة العربية، فضلاً عن كتابها النقدي الذي اعتبر إنجازاً متقدماً في مجال التعريف بالقصيدة الجديدة وهويتها وخصائصها، أما الثاني فقد أحاطته الأحزاب الشيوعية العربية والعالمية برعاية نادرة وتسويق إعلامي استثنائي، وبخاصة في الفترة التي أعقبت خروج السياب من الحزب الشيوعي العراقي، إثر مجازر الموصل الشهيرة في حقبة عبدالكريم قاسم، وتأرجحه اللاحق بين التيار القومي المتمثل بمجلة “الآداب” وبين المغامرة التجريبية الممثلة بمجلة “شعر” .
أعتقد أن الموهبة العالية والتفرغ الكامل للشعر هما في طليعة العوامل التي ميزت السياب عن غيره من رواد الحداثة . فهذا الرجل الذي لم يعش أكثر من ثمانية وثلاثين عاماً كان ممسوساً بالشعر بشكل لا يوصف، إلى حد أنه لم يفعل في حياته القصيرة شيئاً آخر يستحق الذكر . الحياة عند السياب تعاش شعرياً فقط، وكل ما عدا ذلك من سقط المتاع .
لذلك لم يأبه على سبيل المثال للتنظير والتأليف النقدي الذي اجتذب إليه صاحبة “قرارة الموجة”، معتبراً أن العمليات العقلية التي تشغل بال البعض لا بد أن تحقن القصيدة، ولو من دون قصد ببعض البرودة الذهنية التي تخفف من اندفاعها الحار والتلقائي .
واللافت هنا أن السياب خلافاً للكثير من الشعراء الكبار لم يترك وراءه أي عمل نثري يذكر باستثناء بعض الرسائل الشخصية والنصوص السياسية المتصلة بعلاقته بالحزب الشيوعي، وإذا كان البعض يعتقدون عن حق بأن النثر هو المحك الحقيقي للشعراء فإن السياب شكَّل استثناء القاعدة لأن الشعر عنده لم يترك للنثر ما يفعله، ولأنه لم يكن قادراً على النظر إلى العالم والأشياء إلا من جهة الشعر .
كان السياب من جهة ثالثة خارجاً من التربة التاريخية الأم للشعرية العربية، ومتصلاً بجذور الأسلاف وتجاربهم العظيمة بدءاً من أمرئ القيس ووصولاً إلى أحمد شوقي والشابي وجبران . ورغم أنه أفاد من التجارب الغربية الوافدة إلىه من الشعر الإنجليزي بشكل خاص عبر ت . س . إليوت وعزرا باوند وإديت ستويل وغيرهم فقد كانت أصالته التعبيرية قادرة على صهر العناصر الوافدة في نسيج عربي خالص وبعيد عن شبهة الترجمة والاقتباس والنقل المتعسف، ليس ثمة في تجربته أي نوع من القطع مع الماضي الشعري العربي، بل تحرير للقصيدة من قيودها المرهقة ووزنها المتعسف لكي تصبح أكثر طواعية واستجابة لروح العصر وأسئلة الشعر المستجدة . وفي حين أن إيقاعات البياتي وأدواته التعبيرية بدت في معظم دواوينه أقرب إلى الفقر والتنميط والتسجيع فقد أظهر السياب طواعية مدهشة في اجتراح عباراته وأوزانه وقوافيه، إضافة إلى قوة روحية ووجدانية لا يملك القارئ سوى الإصابة بعدواها منذ اللحظة الأولى .
يبدو شعر السياب من جهة رابعة شعر مكابدة وشغف وتمزق داخلي لا شعر مثاقفة ووعي نظري وكد ذهني . وقد عمل مرض الشاعر الداهم على تعميق هذا النزق ودفعه إلى مستويات تراجيدية نادرة تتراوح بين الضراعة والابتهال والشكوى والحرقة العاتية والتبرم بالعالم . ورغم استعانة الشاعر بالكثير من الأساطير والرموز التاريخية، إلى حد الإفراط في بعض الأحيان، إلا أن ذلك لم يقلل من تلقائية شعره ولا من تفاعله الصادق مع الحياة إلى حد التطابق . ولن ننسى من جهة خامسة صلة هذا الشعر بالمكان وانغراسه فيه حتى ليبدو شعر روائح وألوان وأصوات خارجة من الرحم الأعمق لتربة جنوب العراق .
لقد استطاع السياب أن “يؤسطر” كل ما لمسته أنامله من قرى وأنهار ونساء وغابات نخيل، مؤلفاً بذلك إحدى الأناشيد الأكثر بهاء في تاريخ الشعرية العربية.
*شاعر لبناني