مأزق المشروع الصهيوني- عبد الاله بلقزيز
ليس للكيان الصهيوني مستقبل في المنطقة، وهو آيل - لا محالة - إلى زوال . كم سيأخذ ذلك من الوقت حتى يتحقق واقعاً؟ لا أحد يعلم، لكنه قطعاً حاصل في فترة ما في المستقبل .
ليست هذه محض أمنية، أو نزعة قدرية في التفكير، كما قد يُظن، وإنما هي حقيقة مؤجلة يولدها المشروع الصهيوني نفسه كمشروع إحلالي - استيطاني لجماعة دينية صغيرة في المنطقة والعالم . “الإسرائيليون” أول من يعلم أن بقاء كيانهم مستحيل، ويتصرفون على أساس توفير شروط حياة أطول .
أما كيف سينتهي: بحرب موجعة للكيان، أم بهجرة معاكسة ليهود جاؤوا من أصقاع الدنيا بحثاً عن الأمن ففقدوه، أم بفقدان الرعاية الغربية (الأمريكية - الأوروبية) بعد فقدان الغرب السيطرة على العالم والمنطقة (في حقبة صينية - روسية قادمة مثلاً)، أم بالاختلال في التوازن الديمغرافي . .؟ فذلك مما لا يمكن القطع بأيّها أرجح احتمالاً، وإن كانت جميعها على الدرجة عينها من الإمكان .
ليس أمام “إسرائيل” وخوفها من الزوال، أو من الذوبان في المحيط، سوى الإمعان في عزلتها وانكفائها الطائفي، فذلك - وحده - يمدد بقاءها إلى حين، وهو عيْنُ ما رَسَت عليه سياساتها منذ سنوات عدة، وتحديداً منذ وضعت خاتمة لخيار التسوية فيها، الذين اعتقدوا منا - في ماضٍ قريب - أن التسوية تضعف للدولة الصهيونية بقاءً مشروعاً أو معترفاً به، وأن مصلحتها تقضي بأن تجنح لهذا الخيار كي تظفر بالشرعية من الضحية (الفلسطينيين ، العرب)، لم يكونوا يفكرون ل “إسرائيل” ونيابة عنها فقط، وإنما هم كانوا يخوضون في وهم أنهم يلتمسون لها حلاً لمأزق مشروعها، فيما هي لا ترى في ذلك الحل سوى التكريس المادي لذلك المأزق . وهذا هو، بالذات، ما يفسّر التحولات الثلاثة التي طرأت على المجتمع السياسي الصهيوني منذ سبعة عشر عاماً: مقتل إسحق رابين ونهاية “حزب العمل” - من حيث إنهما مَنْ فرض تسوية “أوسلو” على الكيان - وإنهاء العمل ب”اتفاق أوسلو”، والصعود المدوّي لليمين الديني المتطرف .
إن التسوية، التي مازال يتمسك بها أبو مازن وفريقه السياسي، وباتت “حماس” لا تعترض عليها باسم المقاومة، إلى درجة مباركتها خطوة محمود عباس لطلب عضوية فلسطين كدولة مراقب في الأمم المتحدة، هي ما تخشاه “إسرائيل” وتتفادى الوقوع فيه مجدداً، لأنها (أي التسوية) لا تَعْرض عليها سوى الذوبان في المحيط العربي لفلسطين، وهو يحكم على مشروعها بالزوال، ولا يَقلّ - عندها - خطراً عن زوال يحصل بالقوة العسكرية . من هذه العقيدة الراسخة في العقل الصهيوني تنهل نزعة معاداة “السلام” في المجتمع السياسي - والأهلي - “الإسرائيلي”، وهو ما لا يدركه المنادون ب”السلام” والتسوية والتفاوض من بني جلدتنا: فلسطينيين وعرباً .
والمشكلة أن الحركة الوطنية الفلسطينية ساعدت الكيان الصهيوني، من دون أن تدرك، في حل جزء من مأزقه البنيوي بانتقالها من تبنّي “البرنامج المرحلي”، في العام ،1974 إلى القبول بدولة فلسطينية على حدود الرابع من يونيو ،1967 لقد كان انتقالاً من فكرة تحرير الوطن إلى فكرة إقامة الدولة، والحال إن لإقامة الدولة ثمناً فادحاً هو التخلي عن معظم الأرض والوطن من أجل “الحصول” على بعض الأرض والوطن، ولقد يقال إن موازين القوى، المُختلة لفائدة العدو، أجبرت الثورة الفلسطينية على طلب القليل . ولكن، ماذا لو كان ثمن “الحصول” على هذا القليل هو التخلي عن حق تاريخي للشعب والأمة؟ وبأي حق تسمح نخبة لنفسها - ولو كانت وطنية ومنتخبة - بأن تتخلى عما هو في حكم الحقوق التاريخية من أجل “إنقاذ ما يمكن إنقاذه”؟
سيقال أيضاً، التماساً للعذر، إن الثورة لم تكن لتستطيع في الماضي، ولا هي تستطيع اليوم، تحرير وطنها بإمكاناتها الذاتية، نجيب بأن هذه حقيقة لا يترتب عنها، حكماً، التفريط في حق تاريخي لمجرد عدم القدرة على استعادته . دعونا نفكر في مشهد آخر: ماذا لو أن منظمة التحرير ناضلت من أجل تغيير الطبيعة الصهيونية للنظام مثلما تناضل من أجل ذلك، اليوم، الحركة الوطنية الفلسطينية في المناطق المحتلة العام ،1948 من أجل المساواة والمواطنة الكاملة؟ سيقال إن ثمن ذلك هو تحوّل الفلسطينيين جميعاً: في المثلث والجليل والنقب والضفة وغزة، إلى مواطنين في الدولة الصهيونية، وإسقاط مبدأ الاستقلال الوطني . هذا صحيح، ولكن الفلسطينيين جميعاً سيتمسكون بأرضهم فلسطين من النهر إلى البحر من دون تفريط في شبر واحد منها، وإذا حكمهم اليهود اليوم، فسيحكمون هُم أنفسهم غداً حينما يختل التوازن الديمغرافي لمصلحتهم، وخاصة حينما يشددون على أولوية حق العودة: الذي يعني حق الجميع في أرضه .
لا يعني الاستقلال الوطني وإقامة الدولة سوى أن شعب فلسطين يسلّم للصهيونية بالحق في اغتصاب القسم الأعظم من فلسطين . أما العودة، فلا تعني سوى تمسك الشعب بملكيته أرض فلسطين . وإذا لم يكن هذا الشعب يملك أن يحكم نفسه بنفسه، فإنه - على الأقل - يتمسك بوطنه جميعاً ولو تحت الاحتلال إلى حين تنشأ الظروف التي تسمح له بإنهاء النظام الصهيوني الطائفي . ماذا فعلت الحركة الوطنية في جنوب إفريقيا سوى هذا في مواجهة نظام الميز العنصري وصولاً إلى شطب الأبارتهايد من تاريخها قبل عقدين؟
إن تمسك قادة الكيان الصهيوني بالاعتراف ب”إسرائيل” دولة يهودية لا يترجم سوى الشعور بالخوف من أن يقود اختلاط اليهود بغيرهم إلى ذوبانهم في محيط ذلك الغير (الغوييم بلغتهم) الذي يتفوق عليهم ديمغرافياً . وإذا كان مثل ذلك النقاء الطائفي مطلوباً ليطمئن المشروع الصهيوني إلى بقائه في المستقبل، فإنه ينتزع له - في الوقت عينه - اعترافاً بملكيته للقسم الأعظم من فلسطين الذي تُقيم عليه طائفته .
حينها لن يكون في وسع فلسطينيي ال 48 - الذين لن يعودوا “مواطنين” في دولة “إسرائيل” - أن يطالبوا بوحدة أراضي “الدولتين” (48 و67)، إن صاروا أغلبية عددية في الكيان الصهيوني بعد جيلين أو ثلاثة أجيال .