الفلسطيني... في "المشروع السنّي"- ناهض حتر
بالمختصر، إن ما حدث في مخيم اليرموك الدمشقي، يدلّ على أن فصيلاً فلسطينياً واحداً فقط، ظلّ مخلصاً للنظام السوري حتى النهاية، أعني «الجبهة الشعبية- القيادة العامة»، لكن إلى حدٍّ ما. صحيح أن قيادات «العامة» وعناصرها بقوا على الولاء لدمشق، لكن أغلبية جمهورها ـــ ميليشياتها المسلحة، انضمت، ميدانياً وسياسياً، إلى «فتح» و«حماس» و«الجهاد» و«الشعبية» و«الديموقراطية»، مع الشبكات السلفية الجديدة والتنسيقيات... إلخ، إلى صفّ جماعات المعارضة المسلحة، ما أدى إلى شق الثُّغَر أمام الأخيرة، وتمكينها من احتلال المخيم. نعم، لقد انقلبت الفصائل الفلسطينية، اليمينية واليسارية والدينية والعلمانية، وبهذه الدرجة أو تلك، نحو "المشروع السني".
نايف حواتمة ـــ «الماركسي اللينيني» العتيد ـــ كان، هذا الأسبوع، يحرّض في عمّان على النظام السوري؛ لأنه «ارتكب مجزرة تل الزعتر عام 1976»، ما يبرر الانتقام الفلسطيني منه الآن! وهو يرى أن ما يحدث في سورية «ثورة شعبية» ينتظرُ هذا القائد «التقدمي» انتصارَها على أحرّ من الجمر.
سنأخذ في الاعتبار، بالطبع، ذاكرة أحقاد الحرب اللبنانية لدى الفصائل، والصراع البعثي السوري ـــ الفتحاوي على «القرار الفلسطيني المستقل»، بل وحتى الصراع العميق الجذور بين البعث والقوميين العرب الذين أصبحوا «الشعبية» و«الديموقراطية»... إلخ. لكن كل ذلك يظل هامشياً، ومرتبطاً بعُقد نفسية قديمة. إنما المهم أنّ المعطيات تشير إلى تجذّر نفوذ الحمساويين والسلفيين الجهاديين، بل وهيمنتهم الفكرية والسياسية، على الفصائل، كما على قسم أساسي من جمهور مخيم اليرموك!
ومخيم اليرموك ليس مخيماً على الطريقة اللبنانية، العنصرية والخشنة، بل هو حيٌّ مديني لائق بالحياة البشرية، مثل معظم المخيمات والأحياء الفلسطينية في عمّان، لكن بميزة أساسية. فالنظام السوري ـــ على عكس نظيره الأردني ـــ منح الفلسطينيين العيش الكريم من دون انتزاع هويتهم الوطنية، ومن دون أن يمنع عليهم الانخراط في صفوف المقاومة وفصائلها.
كان مخيم اليرموك، إذاً، متمتعاً بكل العناصر التي تمنحه القدرة على أن يكون فلسطينياً من دون اضطهاد اجتماعي يتعلق بكرامة العيش، ومن دون اضطهاد سياسي يتعلق بكرامة الهوية الوطنية. فما الذي حدث وأحلّ العصبية المذهبية الطائفية، محل الولاء الفلسطيني؟
الفلسطينيون المنكوبون المشردون خارج وطنهم، تحوّلوا، منذ مطلع الخمسينيات، إلى روافع ثقافية وسياسية للأفكار التقدمية الكبيرة: القومية العربية، الشيوعية، العلمانية، الديموقراطية الثورية، تقديس الوطن الصغير، وروح الإخاء على أساس الشراكة في الانتماء إلى وطنية مناضلة إلخ. وفي كل ذلك، كان للفلسطيني طموحان متداخلان: مداواة الاغتراب من خلال الاندماج في سياق الحركات الفكرية ـــ السياسية الكبرى، وتحفيز هذه، من داخلها، لكي تغدو فلسطينية، سواء بمعنى السيطرة عليها لتحقيق أغراض سياسية قصيرة المدى أو بالمعنى الكبير لتنشيط الحراك المعادي لإسرائيل، وتفجير روح المقاومة ضدها.
على مسار آخر، تمرّد الفلسطيني على واقعه بالانخراط في النشاطات الرأسمالية، ونجح. وتحول قسم من الفلسطينيين، فعلاً، إلى ديناميات رأسمالية على المستويين العربي والدولي، وأصبح جزءاً ـــ متزايد الحضور ـــ في الشبكات الرأسمالية الخليجية والمشرقية.
على مسار ثالث، خرج الفلسطيني من مأساته الخاصة، بالتفوق كتكنوقراطي. وجد نفسه وحقق حضوره في إدارات حكومية وشركات كبرى ومنظمات إقليمية ودولية.
إلا أن التداخل بين المسارات الفلسطينية، ظل قائماً، في سياق عصبية متينة السبك، تستبطن إمكانات استنهاضها، وتشغيلها، رغم التناقضات الفصائلية. وهو ما كان يسميه الراحل أبو عمار بـ«الديموقراطية الفلسطينية»؛ ذلك الإجماع القائم على العصبية، ويسمح بالتناقضات الداخلية، لكن في سياق سياسي مركزي. رحل أبو عمار، لكن الأبو عمارية باقية كأنها قَدَر الفلسطيني وطريقه ومآله. الآن، حلت الحمساوية محل الأبو عمارية. ويسعى خالد مشعل إلى أن يصبح أبو عمار الجديد.
ومن أولى نزعات الأبو عمارية ـــ الحمساوية، التناقض مع سوريا بوصفها دولة مركزية في بلاد الشام، حيث فلسطين، الوطن السليب والأيقونة المقدسة معاً. وفي الواقع، إن المركزية السورية ـــ التي استنهضها الرئيس الراحل حافظ الأسد ـــ شكلت ولا تزال نوعاً من التحدي الضاغط الثقيل على النزعات الوطنية المحلية في كل الأقطار المقتطعة من سورية الأم.
خلاصة القول، أن تجربة انزياح مخيّم اليرموك نحو «المشروع السنّي»، ليست سوى نموذج لانزياح مماثل تشهده، اليوم، كل المخيمات والتجمعات الفلسطينية. مرة أخرى، يريد الفلسطيني أن يندمج في المجرى العام للحركة الفكرية ـــ السياسية الصاعدة في المنطقة، ويريد، من خلالها، التخلص من تشرده وتحفيز حضور فلسطين في المشهد.
هكذا، نستطيع القول إن التيارات العلمانية، تحولت، اليوم، إلى فلكلور وبقايا معزولة بين الجمهور الفلسطيني الذي يتجه ـــ كخط عام ـــ نحو تكرار التجارب السابقة مع القوميين واليساريين والقُطريين. لكن هذه المرة تحت راية «الإخوان» والسلفية الجهادي