رحلة الشاعر غسان زقطان.. «كطير من القش يتبعني»!- احمد دحبور
كطائر من القش، يلتقط غسان زقطان صوره الشعرية من بيدر الحياة، تاركا أثرا حيث كان، وغسان.. ابن شاعرنا المرحوم خليل ز قطان، هو من أسرة شعراء وكتاب قصة، وبيئة مترعة بالدأب الثقافي. هو من قرية زكريا، قضاء الخليل، لكنه ولد في بيت جالا عام 1954، وترعرع في مخيم الكرامة للاجئين الفلسطينيين شرقي الأردن، وما لبثت اسرته ان انتقلت به الى عمان، حيث لم يلبث ان انتقل الى العمل في المعترك الوطني الفلسطيني وما ترتب على ذلك من اقامة في دمشق سنوات، الى ان عاد مع العائدين الى الجزء المتاح لنا من الوطن واستقر في رام الله.. وغسان الذي فاز بجائزة رابطة الكتاب الاردنيين للشعر عام 1977، كتب الشعر مبكرا ودشن انتاجه باصدار مجموعة شعرية بالاشتراك مع محمد الظاهر - العباسي عام 1977 بعنوان «عرض حال للوطن» ثم تتالت اعماله بين شعر ونثر، فأصدر في الشعر «صباح مبكر» و«ترتيب الوصف» و«استدراج الجبل»، وله مسرحيتان،وهما «ع الحاجز» و«السماء الساطعة» ورواية بعنوان وصف الماضي وكتب «سيرة بالفحم»..
وكان آخر اصداراته حتى الآن، هذه المجموعة الشعرية التي أمامي، وهي «كطير من القش.. يتبعني».. ونتاج غسان ونشاطه الابداعي يتجاوزان هذه الاصدارات فقد كان، لفترة غير قليلة، مشرفا على الملف الثقافي لمجلة الحرية، كما عملنا معا في دائرة الثقافة لمنظمة التحرير الفلسطينية عندما كنت رئيس تحرير مجلة «بيادر» التي اصدرتها الدائرة، وكان غسان مدير التحرير.. اضافة الى نشاطه ومشاركاته في الندوات والأماسي الشعرية بين الاردن وسورية ولبنان وبعض الاقطار العربية والعواصم الاوروبية وامريكا..
العابر خفيفاً
منذ اشعاره الاولى، ينأى غسان عن الثرثرة ومتطلبات التفاصيل، فهو يومئ مكتفيا بالاشارة الخفية، او بتقديم علامة على ما يبدو له واضحا، ولا خوف من عدم ايصال الرسالة، فالمرسل هو العمر والتذكرات والمكاتيب هي اغاني البوح والمكاشفة واالشجن.. هكذا نجد عناوين لقصائده من نوع: تذكر التائبات، تذكر الوحيدات، تذكر الجدة، او اغنية حارس الكرم وابنه، اغنية الكرم، اغنية الغائبة.. والتذكرات من شأنها ان تستدعي الماضي، فيما تهدهد الأغاني طفولة الحاضر وشغف الأيام الآتية، وهو سواء أكان يمكث في الماضي ام يتوغل في اليوم والمستقبل، راض بما هو، حادب على ما سيكون.. فهو بهذا الوضع يكاد لا يقول شيئا ولكن هل هو عازف عن القول حقاً؟ فلنتابع وسنرى..
هنا جالس حيث تعرفني الطير،
دلت علي الهداهد،
واشتد نقر الدفوف
واذا كانت الطير علامة على التوحد والوحشة، فان الهدهد - رسول سليمان الشهير - يدل على ما يؤكد انه موجود، بل ان الدفوف هي إيذان بالزفة وقوة الحضور، وسيتبع الدفوف مباشرة اشارة الى حضور الحياة «وقد ثقل الفجر، والسائلون».. وهكذا يفضح الشعر خبيئة هذا المتوحد المتعفف، فهو ممتليء بالآخرين حتى وهو في حالة من الاقتصاد اللغوي، فبين مفرداته القليلة يرابط خطاب عميق، ولن يعدم الطريق الى الآخرين..
نحن لم نبصر البحر،
لكننا نستطيع التأكد، بعد التسابيح،
من انه خلف خط التلال
فعدم رؤية البحر ليس اعداما للرحيل، وما عليك الا ان تحيل النظر في الوجود حتى تتأكد من ان البحر هناك، خلف التلال، وخلف الهمة في الصعود والسفر.. ولنلاحظ انه ينطق بضمير الجماعة، بمعنى «اننا» سنواصل التجربة.. هكذا يعبر خفيفا رشيقا الى فكرته التالية، مخترقا جدار الوحدة الموحشة، حتى لو بدا العالم، في نظر هذا الشاب المكتهل، موحشا او بعيدا.. ولهذا فهو لا يفاجئنا بقصيدته التالية حين يهتك سر الوحيدات اللواتي ينأين عن وحدتهن الموحشة، ويبعثن بالرسائل التي تستدعي الآخرين:
.. اشعلن نارا على التل،
اذ يكثر التائهون،
ويشتد صمت الهواء
فهي دعوة الى اختراق صمت الهواء عسى ان يهتدي التائهون فيكون اللقاء..
يلتبس الأمر
ولا مكان لحقائق ثابتة في هذا الشعر، بل ان الدهشة الشعرية قائمة على الالتباس، حيث يمضي الانسان الى وقائع الحياة فتتجلى له بأشكال متباينة:
هنا كان الأمر يلتبس عليه تماما،
ويبدأ الشعب بالتطاول
حتى يغطي ضحك النساء على الأجمة..
فقد رأى نفسه على الضفة الثانية للبحرية، او هكذا قالت قصيدته، وهذا يعني انه في غير مكان، ولكنه مع ذلك موجود، وله ان يتساءل عن الوقائع متى حدثت، وأين، وهل وقعت اصلا:
اين، بالضبط، كانت تقف
حين ابصرها فجأة
في الممر الطويل لمطبخهم في «الرصيفة»؟
انها أمه، او اي أم، او اي امرأة.. ولكن الواقعة قد حدثت فعلا، وما عليه الا ان يرمم الذاكرة بالوقائع التي حدثت فيها، ان يؤكد عضويته للحياة كما هي عضويته في الأسرة. والشاعر المثقل بشظايا الذاكرة يدرك تماما، وبصورة واعية، ان شيئا ما قد حدث، لكن ما هو والى اي حد يعنيه ذلك الشيء؟ هذا هو الالتباس.
ربما كان هذا مسوغ عنوان الكتاب: كطير من القش.. يتبعني، فاذا كان لكل منا طائر انزلته القدرة العلية في عنقه، فان رحلة الشعر هي برنامج البحث عن ذلك الطائر.. ان طيورنا تتبعنا. قد تكون آثامنا او مسراتنا او ما لم نستطع الوصول اليه، فحبيبته مثلا..
مشت في ا لمنام
والقت زهورا علي الطائفين
ولم تنتبه للسماء التي انفتحت فوقها
وستكون مهمته الشيقة الشاقة ان يستوضح ما جاء في المنام وان يفك اسرار السماء التي انفتحت فوقها، فلا شيء يحدث جزافا. لقد وصل الى حيث هو، وهذه واقعة وجودية تقتضيه ان ينفق العمر بحثا واسئلة عسى ان يظفر بجواب يجلو هذا الالتباس الكبير.
مبتدأ لا خبر له
ليس علينا ان ندهش او نستنكر انساقا من التعبير في هذا الشعر، حيث يطالعك المبتدأ، فيسنده مبتدأ آخر، فثالث.. ثم لا ضرورة للخبر. بالطبع ليس هذا جهلا باللغة، وليس الشاعر عييا يعجز عن اتمام الجملة، لكنه وهو الشغوف بترتيب الكلام، يستعرض قوافل الموجودات، فيعنيه منها انها هناك، وانه يراها، تاركا لك او لسواك او حتى لنفسه في وقت آخر مهمة الابلاغ عن مصير هذه الموجودات، خذ مثلا:
الصعود من البئر مشيا على خفة الليل - صوت الجبال - انتظار الكروم - اختيار العدو - وتأليف منعطف في الحكاية.. الخ.
ولنلاحظ ان هذه المبتدآت المتتالية، ليست اشياء حسية بقدر ما هي افعال ومشاعر فكيف سبق لي ان وصفتها بالموجودات؟ انها حالات او اشياء موجودة في الوعي قبل ان يضمها وعاء فيزيائي، وما دامت مشمولة بالوعي الذي هو متحرك بالضرورة، فان هذا الشعر يعطيها فرصة استمرار الوجود لتتعانق او تتقاطع مع حالات واشياء لاحقة في شريط من الذاكرة او التوقع، بمعنى ان الحياة تكمل دورتها فينا بما يتجاوز القوانين المادية الميكانيكية حتى لكأن الانسان عبارة عن بلاد شاسعة تتسع لما يخطر وما لا يخطر على البال.
على ان الشاعر الماكر لا يكتفي بهذا الشريط البصري جزافا، اذ انه يراكم المرئيات او يتركها في دخيلته المتصلة بالعالم، فيصبح لكل ما يرى معنى حتى لو كان مبرأ من القصد، فنحن لسنا ملزمين باعطاء معنى لكل ما نرى ونسمع او نتوقع، ثم تدخل الحاسة الشعرية على المشهد فتمعن في التأويل والاستنباط واستدراج المشاعر للوصول الى نتائج فنية او عملية حسب كل حالة.
وهو يطلق احيانا على هذه «المبتدآت» صفة دالة، اذ هي عنده ممرات، وهذا في منطق الشعر - على افتراض ان للشعر منطقه الخاص - مفهوم مستساغ، انطلاقا من ان هذه الاشياء التي يقع وعيه او بصره عليها، مناسبات للذهاب الى فكرة او رؤيا، بل ان له تسمية اكثر وضوحا في هذا الشأن، اذ يسميها احيانا تعلات، والواقع ان الشعراء كثيرا ما يلتقطون المناسبة او المصادفة او الواقعة ليتخذوها نقلة بهدف الوصول الى فكرة ابعد، الم يكن الوقوف على الاطلال، بالنسبة الى الشاعر الجاهلي، ذريعة للافصاح عن مشاعر الشعراء بهدف التمهيد للوصول الى الفكرة الاشمل؟ ولكن الشاعر الحديث - وهو في هذا السياق غسان زقطان - لا يقف على الاطلال بقدر ما يستبدل الأمكنة والموضوعات و.. حتى النساء!!
نساء هذا الشعر
لأول وهلة، تبدو المرأة في هذا الشعر نساء يؤخذن بالجملة، فهن الوحيدات حينا، والغريبات حينا آخر، والتائبات في وقت لاحق، يقابلهن رجال غير اوفياء، او ليسوا عشاقا:
الوحيدات، من لا نحب، ومن لا نواعد،
ارسلن من يشرح الأمر للعابرين
واسهبن..
وعندما تحمل امرأة هذا الشعر اسما، فاطمة مثلا، تكون انموذجا او فكرة عن امرأة، كأنها من سلالة فاطم نجية امرئ القيس، لانها في حسابات الايقاع السريع صورة في شريط لا يتوقف، ولا تلبث ان تخلفها فاطمة او سعاد او ليلى
ولكن فاطمة لم تكن غير اغنية
اطلقتها القوارب،
والنسوة الميتات على الجسر،
في امسيات الرباط
هي حالة من الترحال والتنقل والتبديل، قد تكون مناما او من لحم ودم.. ولكنها في مكان ما، في لحظة ما، هي تلك التي «لن يدل عليها سوى حلمها»، وهي الحاضرة في اغنيته للغائبة، وهي ايضا وايضا تلك التي
لها ما أحبت
ولي ما رأيت
وللناس ما اختلسوا من رؤى اسعدتها
وللعابرين نوايا المكان
وما لنا نبتعد، اليس الطائر الذي يتبعه، صورة عنها؟ قد يلبس الطائر، وهو من قش كما يقول العنوان، جسم فكرة او حلم، ولكن المرأة، في موشور الحلم الضوئي، قد تكون كذلك جسما او فكرة او حلما.. فهو مليء بالنساء على طريقته، حيث يضعهن في منطقة التجريد، او يناجي فيهن حبيبة او اكثر..
على ان المرأة قد تكون حميمة حتى ملامسة الروح، فهي الجدة التي يتذكرها في اولى قصائد المجموعة، وهي الأم التي لم يطرق بابها منذ عامين في بيت جالا والتي ظل منذ ان فقدها وهو يمشي دون سبب، وهي الحب البريء المبكر حين كان يبدو.. كما لو انه هي.. عندما «كانت تحدثه عن برودة غرفتها حين ماتت»..
في تلك اللحظة المستدامة، لم تكن الجدة مجرد امرأة، ولا الأم كذلك.. فقد كانت هناك الطفولة التي سترافقه الى نهايات العقد السادس حيث سيبلو النساء، يعشق، ويخون، ينسى، ولن تحل واحدة محل الصورة الاولى فهي ليست مجرد امرأة بل امرأة العمر.
حين ابصرها فجأة
في الممر الطويل لمطبخهم في الرصيفة
او، ربما جبل التاج في شرق عمان
إذ ذاك، تخرج الأمكنة، من جغرافيتها وتحل في الطفولة التي تتداخل في ثنايا العمر وتتدخل في التكوين.
ايقونة الغريب
ان النص الغائب في هذا الشعر يكمن في معلومات من يتلقى هذا البوح الغنائي وهو يدرك ان قائله فلسطيني، مع ان محمولات فلسطين السياسية ليست في هذا الكلام ولكن التركة حاضرة، فالشاعر يخطو في الغربة «كعادة المنفيين» حيث:
النوايا في المرافىء
مشوشة كما تركاه اصحابها
وناقصة كما تركها القتلى
هنا، لا تتلبس الغربة شكل الحنين، ولا نطرح سؤال العدالة، فقد قيل هذا كثيرا في اشعار سابقة ولكنها الغربة الوجودية حيث يلازمه شبح الماضي كطير من القش فيواجه نفسه «وحدي وامامي النهر» تعبره الموسيقى صبا وحجازا ليكمل ما بدأ باستمرار في «حفر على الخشب» مستسلما في النهاية للوجه الذي يراه في المرآة فيحضر الأب والأم والجدة وما وعته الذاكرة.. انه الأهل جميعا من يذكرهم وحتى من يدرك النسيان بعضهم، وقد
فكر ايضا
انه حمل رواية ميت
او شخص لم يأت اصلا
ولقد «فكر طويلا في العودة الى هناك»، حيث روميات الشاعر الفارس الاسير ابي فراس يتأمل طبيعة صامتة، متوحدا في ايقونته، معترفا لصورته الشاحبة «انا الذي بالغت كثيرا في كل شيء - أذهب وحيدا كما ولدتني امي - لأجلس في ايقونتي» ولعل العزاء الوحيد في هذا الاغتراب انه يقول الشعر وان صدى العالم يظل «كطير من القش.. يتبعني».
وفي هذا السياق تماما نفهم تجواله في أشكال التعبير المختلفة، من غنائية الوزن، الى خفة نثر الحياة في الشعر الحر الذي يتخلل المجموعة، الى نوستالجيا تشمل طفرة خاطفة نحو نظام البيت الشعر:
واجمع خلفك ظل الحضور
سلام الذهاب على الذاهب
ولي في اللذاذة ما لا يرد
وفي النوم ما لا يرى صاحبي
كأني شعاعك فيما تبين
كأنك سكري وقد دار بي
الا ان الآخر المخاطب لغة في هذا النشيد هو الطائر الذي يتبعه، وله انه ظل حديثا وهو في اوج مراعاة البيت الموروث، فهذا هو الشعر..