سوريا: كيف فكر النظام؟- ميشيل كيلو
قدم الأسد الابن، مباشرة بعد بداية الحدث السوري، رؤية النظام لما يجري، فإذا هو «حراك شعبي يتبنى مطالب حركات الربيع العربي المشروعة ليغطي مؤامرة تنفذها (عصابات إسلامية مسلحة) موجهة ضد آخر حصن للممانعة العربية، الذي لا يوجد أي سبب سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي يبرر القيام بثورة عليه أو ضده».
بقول آخر: إنه شعب سوريا، الذي يقدم مطالب تبدو ظاهريا محقة، لكن هدفه المضمر والحقيقي هو التغطية على مؤامرة تنفذها عصابات إسلامية، لصالح القوى التي تريد إنهاء دور النظام المقاوم، وهي بالتأكيد قوى إمبريالية وصهيونية.
لو أنك سألت أي مسؤول أمني سوري يوم 14 مارس (آذار) 2011 عن الإسلاميين في سوريا، لرد عليك دون أدنى شك بجواب من اثنين: إما أنهم ليسوا موجودين في بلادنا، أو أنهم مزق صغيرة ومتناثرة وخفية، لكنها تحت عين الأجهزة التي تخترقها، أو التي صنعتها وأطلقتها في المجتمع لصيد المتطرفين بواسطتها. ولختم كلامه بقول مطمئن: لا تقلق، كل شيء تحت السيطرة. ولو أنك سألت المسؤول ذاته بعد خطاب الأسد بيوم، لأجابك: العصابات الإسلامية في كل مكان، والشعب الغافل يغطي المؤامرة بشعارات براقة تتحدث عن الحرية والديمقراطية والعدالة والمساواة.
رغم الدلالات الهائلة الأهمية لهذا التناقض الفاضح، فإن أحدا من أهل السلطة لم يترك منصبه طائعا أو مرغما، بل استمر من كانوا ينكرون وجود أي مجموعة إسلامية مسلحة أو غير مسلحة في «سوريا الأسد، سوريا الأمن والأمان»، كما كانوا يسمونها، على رأس عملهم، واكتفوا بتحويل رؤوس حرابهم القاتلة نحو الشعب، الذي انقلب بقدرة قادر من شعب موالٍ ومحب ومخلص وأسدي إلى شعب متآمر أو مغرر به، وفي الحالتين إما أن يبقى خاضعا لسادته أو أنه يستحق القتل.
هذه الرؤية وقفت وراء المأساة القاتلة التي تعيشها سوريا منذ قرابة عامين، وراح ضحيتها ما يقرب من مليون سوري قتلوا أو جرحوا أو فقدوا أو اعتقلوا ولوحقوا وعذبوا... إلخ.. فضلا عن ملايين المهجرين والمشردين، الذين امتلأت بهم أرض سوريا والبلدان المجاورة، وتحولوا من سادة مضيافين في وطنهم إلى لاجئين تقول إحصاءات دولية إن مليونا منهم سيتعرضون للجوع خلال هذا الشتاء. في هذه الرؤية هناك مؤامرة من طابقين تنفذها جهتان متداخلتان: طابق يتحرك فيه شعب يقدم مطالب سلمية تبدو عادلة ومشروعة، وطابق تحتله عصابات إسلامية خفية تقوم بالعمل المسلح، ليتكامل نشاطهما ويؤدي في النهاية إلى تحقيق المطلوب: إسقاط النظام، الذي ليست لديه مشكلة مع شعبه، وليست لديه أزمة، لكن شعبه ثار عليه لأنه متورط مع الأعداء والأجانب، من دون أن يكون هناك مبرر داخلي أو وطني مشروع يسوّغ مواقفه.
بهذه النظرة، التي لا يوجد فيها ما هو صحيح، تم رسم استراتيجية مواجهة تتجاهل مشكلات سوريا الحقيقية وتعقد حلولها وتجعلها خارجية وعنيفة، إقليمية ودولية ومسلحة، وتدفع إلى العنف والسلاح بين الطوائف والكتل البشرية المتعايشة، وتصر على إعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل ثورة 15 مارس من العام الماضي، ولو كان الثمن تدمير البلاد وإبادة العباد.
هل كانت هذه الاستراتيجية من صنع قلة أرغمت أهل النظام على تنفيذها، رغم ما حملته من وحشية تجافي أي وعي أو شعور وطني ويصعب تصديق مفرداتها؟ هناك من يعتقد ذلك. وهناك من يرفضه ويتساءل باستهجان: كيف يقبل قادة الأجهزة الأمنية والجيش، الذين يفوق عدد سنوات خدمتهم وعملهم في الحقل العام عمر الأسد الابن، استراتيجية النظام وينفذونها، مع أن «الرئيس» لا يمتلك قدرات متميزة وخبرات واسعة، ودأب على معاملة من حوله من أهل السلطة، خاصة من ورثهم عن أبيه، بتعال واحتقار، ولم يخفِ يوما ازدراءه لهم واستخفافه بمؤهلاتهم وأدوارهم، واعتبرهم مجرد خدم لا أهمية لآرائهم ومواقفهم؟ وإذا كان هؤلاء قد قبلوا ما اختاره في بداية الأزمة بداعي وحدة السلطة، فما الذي يجبرهم على قبوله حتى اليوم، بعد أن تبين فشله وكانت نتيجته الوحيدة تهديد وجوده، وانحساره عن مناطق واسعة من سوريا، وإخفاق حله الأمني الذي صار عسكريا فحربيا فإباديا، من دون حدوث أي تغيير على أرض الواقع يرد الشعب إلى بيت الطاعة ويكسر شوكة مقاومته؟
مهما كانت الإجابة عن هذين الموضوعين المهمين، فإنه يبقى هناك سؤال ثالث محير هو: إذا كانت نخبة متمرسة في الحكم قد قبلت بشار الأسد باعتباره رجلا لا خبرة عنده، لا يمس وجوده في كرسي الرئاسة بتوازناتها، وتفتقر إلى بديل عنه يضمن استمرار النظام، فما الذي جعلها تواصل السير وراءه في أزمة فائقة الخطورة أدارها كهاوٍ لا يفقه شيئا في الشأن العام، لم يكن مؤهلا أصلا لتولي السلطة أو لفهم الملفات المعقدة التي تركها له أب أوصل السياسة السورية إلى ذروة لم تبلغها قبله، مما جعل مصير السلطة فاجعا بصورة خاصة، بالنظر إلى المكان الشاهق الذي أسقطها ابنه منه وهو يجرها معه إلى هاوية الفشل والسقوط الأكيد؟
قديما، قال أحد المفكرين السياسيين: عندما تنتهي أيام سلطة أو طبقة ما، فإنها تعجز عن فهم الواقع. بدا عجز النظام عن فهم الواقع جليا في كل ما قاله وفعله، وبان بصورة خاصة في رؤيته للحدث السوري، التي كانت خاطئة من ألفها إلى يائها، بنيت عليها استراتيجية خاطئة تبين خطؤها من ألفها إلى يائها، أدت إلى تدمير سوريا دولة ومجتمعا، وها هي تدمر السلطة نفسها، مع كل قنبلة مدفع تلقيها على مواطنات ومواطني بلاد لم تكن يوما أهلا لحكمها!