ماذا نفعل بمسوّدات الشعراء الراحلين؟- شوقي بزيع
ليست الطمأنينة هي الكنف الملائم لإبداع الشعراء، بل القلق والحيرة وعدم الركون، وهو أمر ينسحب بالطبع على “أبناء عمومتهم” من الكتاب والفنانين المنتمين إلى أكثر من هوية إبداعية . لا أتحدث هنا عن القلق الذي يسبق الكتابة ويهيئ مناخاتها وغيومها الملائمة بل عن القلق الموازي الذي يصاحب التأليف والاشتغال على النص وعن القلق الآخر الذي يعقب إنجازه . هكذا يصبح قول أبي الطيب المتنبي الشهير “على قلق كأن الريح تحتي” المعبّر الأمثل عن حال الشاعر المقيم فوق أرض مثخنة بالزلازل . كما يعكس توجسه الدائم مما يكتب حتى لو انقضت أعوام كاملة على الإنجاز .
المشكلة في الإبداع بأنواعه المختلفة تتلخص إذاً في انعدام اليقين، حيث الجمال مسألة نسبية تتصل بالذائفة وطريقة التلقي أكثر من اتصالها بالعمليات العقلية المجردة . ومن يطلع على مسودات الشعراء على سبيل المثال ، لا بد أن يلحظ التخطيطات والمقاربات الكثيرة التي يضعها الشاعر للفكرة والمعنى قبل أن يرسو على بر أسلوبي . صحيح أن هناك من يأخذ بنظرية الوحي أو الإلهام ويرى بأن النص يولد دفعة واحدة لا تحتاج إلا إلى قليل من الإضافة أو التعديل، ولكن السواد الأعظم من الشعراء لا ينظرون إلى النص “الموحى به” إلا بوصفه المادة الخام التي يجب الاشتغال عليها اشتغالاً مضنياً قبل أن تأخذ صورتها النهائية . وهو أمر يشبه إلى حد ما ما يفعله النحات مع الصخرة حيث لا يتم العثور على النواة الجوهرية لها إلا بعد التخلص التام من نتوءاتها وزوائدها الفائضة . ثمة شعراء أعرفهم يسودون عشرات الصفحات ويقاربون القصيدة من زوايا كثيرة قبل أن ينتهي الأمر بهم إلى قصيدة قصيرة لا يتجاوز حجمها الصفحة الواحدة . والكثيرون منهم يرفضون أن يطلع أحد من القراء على مسودات القصائد التي يكتبونها باعتبارها تكشف “عوراتهم” اللغوية والأسلوبية قبل أن يتم سترها بالثياب المناسبة .
ليس الجميع بالطبع سواسية في هذه الطقوس . فالذين يكتبون بسهولة نسبية، كسعدي يوسف على سبيل المثال لا الحصر، لا يعنيهم التستر على “مطبخ” الكتابة الخلفي حيث الفوارق ضيقة بين الاستيحاء والهندسة وبين النص الأولي والنص المعدل . وهم لا يجدون حرجاً في نشر مسوداتهم بخط اليد، إذا اقتضى الأمر . مثل هذا الأمر لن نجده بالمقابل عند شعراء جماليين مثل أدونيس ومحمود درويش، حيث تجتاز القصيدة في طريقها إلى التحقق الكثير من الطرق الوعرة والمكابدات التأليفية المختلفة . وقد سمعت غير مرة من صاحب “الجدارية” أنه يعمد إلى تمزيق مسوداته برمتها بعد أن يفرغ من الكتابة وتأخذ القصيدة شكلها النهائي . فهو لا يريد أن يطلع أحد على “حماقاته” التعبيرية الخام، وفق تعبيره الحرفي . ولا شأن للقارئ بهذه الحماقات في رأيه . وربما لهذا السبب بالذات أثار نشر بعض مسوداته في مجموعة “لا أريد لهذه القصيدة أن تنتهي” التي صدرت بعد رحيله الكثير من الجدل الساخن والآراء المتباينة .
إن موضوعاً كهذا سيظل بالطبع عرضة للأخذ والرد بين ورثة الشعراء والكتاب الراحلين أو بين قرائهم ومتابعيهم . فثمة شعراء كثيرون يحتفظون بمخطوطات قصائد غير منشورة، كما بمسودات ومشاريع لم تأخذ طريقها إلى الاكتمال . وسيكون المعنيون أمام خيارين اثنين أحلاهما مر، على حد أبي فراس . خيار نشر المسودات والمخطوطات على علاتها ونواقصها وثغراتها الجمالية والأسلوبية، بداعي الأمانة التاريخية وإطلاع القراء على الإرث الكامل لشعرائهم ومبدعيهم، وخيار الامتناع عن نشر هذه المسودات حفظاً للصورة الزاهية و”الكاملة” التي يحرص الشعراء على إظهار أنفسهم بها . إضافة إلى أن المعنيين بالنشر يجب أن يحترموا رغبة الشعراء الراحلين في عدم نشر تلك النصوص التي لم يرضوا عنها، أو لم تأخذ طريقها إلى الاكتمال .
إنني أميل في هذا السجال إلى الرأي الثاني، ليس فقط احتراماً لحق الشعراء في إشاحة النظر عن نشر مسوداتهم ونصوصهم المتهافتة وغير المكتملة، بل لأن هذه المخطوطات الأولية لا قيمة إبداعية لها ولا تضيف شيئاً يذكر إلى تجربة الشاعر . والنصوص التي نشرت لنزار قباني ودرويش بعد رحيلهما لم تكن بمستوى نصوصهما المنشورة سابقاً، وقد تقتصر قيمتها على الجانب الوثائقي أو الاستذكاري وحده . ثم كيف يمكن لشاعر من وزن درويش أن يرضى عن نشر مثل هذه النصوص غير المكتملة إذا كان قد عمد بنفسه إلى حذف باكورته الشعرية “عصافير بلا أجنحة” لأنه رأى فيها مقاربة للشعر ساذجة وإنشائية . والأمر نفسه حدث مع أدونيس، أطال الله في عمره، حيث أسقط مجموعته الأولى “قالت الأرض” من حساباته الشعرية الجدية . ومع ذلك فإن هذا الموضوع شائك وحمّال أوجه وسيظل عرضة للجدل والمساجلة إلى أجل غير مسمى .