أمجد ناصر في «بيروت صغيرة بحجم راحة اليد»..- احمد دحبور
أتاها في مقتبل الشباب، كان فتى من الاردن لم يتجاوز السابعة والعشرين من العمر، فلم تبهره لؤلؤة المشرق العربي بيروت، بأضوائها ونسائها وايقاعها الخاطف، لا لانه زاهد - ومتى كان البدوي زاهدا فيما يرى؟ - ولكنه كان مأخوذا بجاذبية اقوى سطوة، تلك هي فكرة الثورة التي ما إن دعته حتى استجاب كعنصر في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وسرعان ما لمع شاعرا وصحفيا لم يلبث ان اصبح محررا ثقافيا في مجلة «الهدف» لتأخذه التجربة الفلسطينية مع جيل طبعته الثورة بطابعها..
ولد يحيى النعيمي، فهذا اسمه الاول، في مدينة المفرق عام 1955، وبعد زهاء ربع قرن من تلك الواقعة، وجد نفسه ذا تجربة صحفية نضالية نوعية، فمن بيروت والهدف الى اذاعة الثورة الفلسطينية حيث ادار برامجها الثقافية، واكتوى كأبناء جيله بنار الحصار عام 1982، ليرى نفسه مع فريق من المناضلين الشبان في قبرص، ومن نيقوسيا الى عاصمة الضباب، حيث كان من اوائل العاملين في جريدة «القدس» التي نجح عبد الباري عطوان في جعلها واحدة من اهم الصحف العربية، لا في المهجر وحسب، بل حيث تكون الصحافة الوطنية الجادة.
ونال امجد ناصر، فهذا هو الاسم الذي سيعرف به، جوائز واعترافات عدّة، كجائزة يولسيس الدولية للصحافة، وجائزة بوكر للرواية العربية، وحظيت اشعاره بالوصول بعد الترجمة الى قراء من انكلترا واسبانيا وفرنسا والمانيا وايطاليا، وهو يتوقع صدور روايته المترجمة الى الانكليزية عن دار بلوزمري ان لم تكن قد صدرت فعلا..
على ان هذا الانتشار الادبي، ما كان ليتحقق لولا بروز اسم امجد ناصر شاعرا عربيا حداثيا في المقام الاول.. فقد تابع القارئ العربي المعني مجموعاته الشعرية التي لم تزل تتلاحق، مثل «مديح لمقهى آخر - رعاة العزلة - أثر العابر - سُرَّ من رآك - منذ جلعاد كان يصعد الجبل - مرتقى الانفاس - حياة كسرد متقطع - تحت اكثر من سماء - حيث لا تسقط الامطار» وقد طبعت اعماله الشعرية الناجزة مرتين، الا اننا الآن، وهنا، لسنا امام شعره بل نتابع كتابه - الشهادة «بيروت صغيرة بحجم راحة اليد» الذي اعاد فيه على الورق انتاج تلك الايام الفريدة المجيدة خلال حصار بيروت عام 1982.. فمن اين نبدأ؟.
انفجار الهستيريا
«لا اتحدث عن تاريخ، لا اتحدث عن عبرة، ولا عن رواية كاملة، اتحدث عن تدوينات شخصية، عن انفعالات وتفاصيل وشظايا حكايات يومية لا يعوّل عليها كثيرا، ولا تطمح بالتأكيد ان تكون كذلك»، بهذا الوضوح المباشر يشرح امجد خطة كتابه، فهو ينشر يوميات الحرب كما دوّنها ميدانيا يوما بعد يوم. فقد بدأ بذلك اليوم الحزيراني البيروتي، عندما تعرض السفير الاسرائيلي في بريطانيا شلومو ارغوف الى محاولة اغتيال، فكان رد اسرائيل الفوري هو اجتياح لبنان. لم يكن الفعل بحجم رد الفعل حسب اي مقياس. وان كان يذكرنا بواقعة داي الجزائر الذي لطم السفير الفرنسي بالمنشة، فاحتلت فرنسا بلاد الجزائر؟؟
وعلى ما في الرد الاسرائيلي من سرعة سريالية، لم يكن احد يتوقع ان يحتل الجنرال شارون مكتب الرئيس اللبناني سركيس ويبدأ بادارة المعركة من بيروت الشرقية.. لقد كان كل شيء معدا من قبل، وما حادثة ارغوف الا ذريعة. وكان ان فاجأت بيروت نفسها بالاستعداد والتحصين والرد والتفاف المقاتلين والمثقفين وكل من كان هناك، حول القيادة الفلسطينية وقيادة الحركة الوطنية اللبنانية.
على ان ما يعنينا من هذا الكتاب اساسا، هو انه تدوين عفوي ليوميات العدوان والمقاومة، كما عاشها امجد ورفقاؤه، ووصفها بحق: «انها الايقاع الذاتي المباشر الذي لم يفكر في الجانب الادبي، او الزخرف البلاغي عندما كان كل شيء يتراقص على الخيط الدقيق بين الحياة والموت..»، واذا كانت هذه الديباجة العفوية بمثابة اعتذار ماكر عن غياب المتطلبات الادبية التي يرغب فيها المتحذلقون، فهي ايذان بأننا امام نص مفتوح يؤرخ لمواجهة الموت والرغبة في الحياة، مع انني لن اركز كثيرا على «الرغبة في الحياة» بما هي مشاعر حميمة تخص صاحبها، وسأنصرف بكليتي الى النص كشهادة على ايام حاسمة لا تنسى.. تبدأ يوميات الحرب، كما وضعها امجد في هذا الكتاب، باليوم الثامن من شهر حزيران يونيو للعام 1982، وتتوقف عند الرابع والعشرين من آب اغسطس للعام نفسه، لكن الكتاب لا يتوقف مع ذلك فثمة توثيق لقصائد ونصوص كتبها مؤلفوها في ظل ذلك الحصار، ويلي ذلك نوع من متابعة الحدث - المصير على المستوى الشخصي، حيث يقص علينا كيف تصرف كمن بقي على قيد الحياة!!
فمن راديو السيارة التي تقله الى بيروت، علم ببدء العدوان الصهيوني، وكان عليه ان يواصل او ينكث، الا انه وجد نفسه في العاصمة التي ستصبح رمزا للصمود، وستبدأ المعاناة مع انقطاع التيار الكهربائي عن بيروت وعدم انقطاع القصف، والمعلومات الاكيدة تتحدث عن تقدم جيش الاحتلال من الجنوب، ما يعني انه سيصبح في العاصمة قريبا، واستقر امجد في مقر اذاعة الثورة الفلسطينية الذي كان سريا، ولكن هل يمكن اخفاء شيء في جو القصف والاجتياح؟ وبعد ايام من هذه الجحيم تأكد شعور عام بأن الحصار والقصف سيستمران، وحين ينفجر الناس ببعضهم غضبا وتوترا، كان العقلاء او المتعقلون ينصحون بضبط الاعصاب: «محشورين بملجأ والطيارات فوقنا وبتتجادلوا بالسياسة؟».
ويعترف امجد بلحظة حيرة ورعب، فالطائرات فوقه ويجب الا يبتعد عن الآخرين.. ويسعده ان يلتقي صديقه ميشيل النمري - الشهيد فيما بعد - يجولان قدر الامكان في الشوارع، وقد يجد نفسه في بيت صديقه الشاعر زكريا محمد. ويبدو ان ذلك الوقت الجو الحرج اوجد متسعا لبعض النميمة، مثل التساؤل عن غياب محمود درويش، وكأن عدم ظهوره في مكان محدد يعني عدم وجوده في بيروت؟؟
وسيظهر في هذا الحصار اصدقاء آخرون كالشاعرين سعدي يوسف ومخلص خليل ثم الشاعر هاشم شفيق، وهؤلاء جميعا عراقيون، قد جمعت بيروت تشكيلات من المثقفين العرب كانوا شهودا على جحيم الحصار. وقد فرح امجد، وهو الاردني، بوجود مثقفين اردنيين مثل ميشيل النمري وصالح قلاب وسلوى العمد وطاهر العدوان ونزيه ابو نضال، وكل منهم اخذ موقعا على طريقته، بما في ذلك التمعن في التجارب الشعرية لمبدعين اشكاليين ومتابعة التفاصيل، او الانصراف الى هموم عامة او ذاتية.. حسب الحالة..
ولا بد لرصد هذا الجو المتوتر الذي اوجده الحصار، من الانتباه الى عبارة «كل يغني على ليلاه» اذ ان الحرب غير العادلة هذه، قد كشفت عن معادن البشر حيث يمكن ان نتفهم كل سلوك، او تستنكر اي تصرف من اي احد، فليس الظرف موضوعيا بحيث تتم قراءة الواقع او تفسيره بموضوعية، واذا كان الغزاة الطغاة في التاريخ يوقولن: كل شيء مباح.. فان الشهود على هذا الوضع الاستثنائي من حقهم القول: كل شيء ممكن..!
معجزات صغيرة
حقق المحاصرون في بيروت معجزة البقاء على قيد الحياة، وكان عليهم تدبير معجزات لا تقل اهمية كالعثور على الماء، فيما يواصل جيش العدو ارسال جحيمه قنابل ونارا وقصفا بلا هوادة، وكانت المعجزة الاكبر هي القدرة الفلسطينية اللبنانية على الرد.. وفي هذا الجو الهستيري تمكن امجد من كتابة قصيدة، وتمكن رشاد ابو شاور من قبولها مع انها نثرية وهو لا يحب قصيدة النثر، وتحول التساؤل عن وجود محمود درويش الى استياء من عدم ظهوره، والحياة تستمر حتى والكتائب الانعزالية تزداد حرجا بسبب طول الحرب، لكن الصمود المفاجئ لبيروت ظل سيد المشهد وليست رغبات الكتائب..
من المعجزات الطريفة ان تنشأ صداقات في هذا الحصار، اذ ان التصاق المحاصرين بعضهم ببعض، اتاح لكل منهم ان يعرف الآخر اكثر ويدخل الى عالمه اعمق، وفي هذه البيئة اكتشف امجد مثلا مزايا في شخصية فيصل حوراني الذي تتحول النميمة البريئة عنده الى فن، فضلا عن صلابته وسيطرته على ردود افعاله رغم وجود بناته الثلاث تحت الحصار.. وكان على الشباب ان يتناوبوا الحراسة، وسط شائعات عن ان الجنود الاسرائيليين يمكن ان يحزوا عنق من يعثرون عليه، ومع ذلك لا بد لايدي المثقفين غير المدربة من الامساك بالبندقية والضغط على الزناد اذا احتاج الامر.. أليست هذه معجزات؟
بدأ الناس يألفون الوضع فهم «اقل تهيبا من السابق، والطيران الذي كان يدب الرعب في الجميع لم يعد له التأثير السابق نفسه» الا ان اسرائيل عادت وقطعت الماء والتيار الكهربائي عن بيروت الغربية. ويأتي العيد فلا يشعر المحاصرون به، ولكن يظهر ابو اياد وبعض القادة لشدّ ازر المحاصرين، فيما ينفرد ابو عمار بقدرة نادرة على القيادة ورباطة الجأش ونشر الطمأنينة فيمن حوله، كان يخيط بنطاله الممزق فيما كان جبروت الطيران يبحث عنه ليقتله!..
يلتف المحاصرون حول المغني المصري عدلي فخري الذي شكل ذات يوم ثنائيا مع الشاعر سمير عبد الباقي على غرار الثنائي الشيخ امام واحمد فؤاد نجم.. غنى عدلي ورددوا وراءه، والحياة تستمر.. والقصف يستمر والشهداء بالعشرات ولكن ما من راية بيضاء واحدة، فليست المعجزة المنشودة هي ان تبقى على قيد الحياة وحسب، بل على قيد الصمود.. وقد تحقق ذلك بجدارة.
يوم الدينونة
يجري نقاش بين المحاصرين حول الشارع العربي ولماذا لم يتحرك بينما يسود شعور بأن هذه الحرب هي يوم الدينونة التي تشرف على انتهاء العالم. يكتب محمود درويش مقالة بعد صمت يقول فيها ان هذا الحصار يحاصر الابداع حتى لا يكاد يعرف ما يكتب، وينتقد النمامين الذين يتصيدون غيابه عن اوساطهم وكأنهم في معركة وهو هارب منها.. لقد دمرت القذائف والصواريخ منطقة الكولا والقلق باد على الوجوه، وما جرى في الكولا سيكون قد جرى في مناطق غيرها من هذه المدينة الباسلة المتروكة. يظهر في الشارع شوقي عبد الحكيم، ذلك الكاتب المصري الخبير بالفلكلور ويبدو ساهما كأن الدمار لا يقترب منه، انه من المثقفين المصريين الذين رفضوا كامب ديفيد وناهضوا السادات ووجدوا في المقاومة الفلسطينية ملجأ لهم. هناك العديد من المثقفين المصريين.
زارهم ابو عمار فجأة وتفقد المكان، تعرض المكان لقصف مروع ذهب ضحيته العشرات. هل كان هناك جاسوس اخبر عن وجود القائد العام؟ المهم انه نجا، وتعرض موقع لبعض المقاتلين الى قصف كان خروجهم بعده احياء اشبه بالمعجزة. وفي ذلك اليوم تذكر امجد ناصر ان ذلك عيد ميلاده، فهل سيحظى بعيد ميلاد آخر ام هي النهاية؟ لكنه وجد وقتا ليحلق شعره فيا للرفاهية؟؟
اصيب الشاعر علي فودة وظنه الاصدقاء استشهد فرثوه، ولم يلبث ان مات فاحتفظوا بما كتبوه في رثائه قبل استشهاده.. بدأ الهمس حول امكانية الرحيل من بيروت، وكتب حنا مقبل، ابو ثائر مقالة مؤثرة مخاطبا ابا عمار طالبا اعادة انتسابه الى فتح، فقال له ابو عمار: اهلا بك في قواعدك الفتحوية..
وفي ذلك المناخ المحموم اعلن المجلس النيابي اللبناني بشير الجميل رئيسا منتخبا، رجل الاسرائيليين يفوز ورجل الفلسطينيين على الابواب. استشهدت المذيعة اللبنانية نعم فارس، تلك الفتاة الباسلة التي انصهرت في جو المقاومة.. والسؤال: الى اين بعد بيروت؟
ولا بد مما ليس منه، توقفت الحرب، لا بوساطة المبعوث الامريكي فيليب حبيب بل بفضل صمود بيروت. وتفجرت بيروت ملحاً وأرزاً وزهوراً منثورة على المقاتلين الذين سيغادرون بيروت الى مجهول جديد.
نصوص في الحصار
أفرد امجد زهاء ثلاثين صفحة من كتابه هذا، لنصوص وقصائد كتبها الادباء المحاصرون، بما فيها قصيدة مشتركة للراحلين محمود درويش ومعين بسيسو، وقصيدة لسعدي يوسف، اضافة الى ما كتبه امجد شخصيا، بالنسبة الى قصيدة محمود ومعين التي اثارت اهتماما لانها موجهة الى جندي اسرائيلي تنعى عليه الا مستقبل ولا تفسير لقضيته الخاسرة، وهي القصيدة التي استفزت شاعرا قوميا متشددا كالراحل المرحوم يوسف الخطيب الذي اعتبر مجرد مخاطبة العدو نوعا من التطبيع؟؟ وفي هذه القصيدة يسهل فرز ما كتبه محمود عما كتبه معين، فلكل منهما لغته التي لا تخطئها العين الحاذقة. اما قصيدة سعدي يوسف فهي «مريم تأتي» التي اكتسبت شهرة تستحقها فيما بعد، بينما تداخلت نصوص امجد في نصه النثري العام الذي يشكل جسم الكتاب، فالكتاب كله شهادة نوعية ميدانية، وما الشعر الا من تجليات هذه الشهادة.
شبكة الصور والذكريات
في الفصول الاخيرة من الكتاب، يكون امجد مطلا على الاربعين، عمر الحكمة والذكريات ومراجعة الحساب، فيجد نفسه غير نادم على ما فعل في حياته. لقد عاش حياة يستحقها بعد ان شهد حصار بيروت وجحيم القصف ومعجزة النجاة. ولقد زار امجد بيروت بعد فترة، وكان طبيعيا ومتوقعا ان يمر بالمواقع التي كان فيها لتعيد ذاكرته الطازجة انتاج ما رأى..
لقد اخذتني احداث الكتاب التي لم يكن لي حظ المشاركة فيها، فقد كنت ايامها في دمشق، وكنا الشاعر خالد ابو خالد وانا ندير جريدة «صدى المعركة» محاكاة لجريدة المعركة التي حررها المثقفون في بيروت، ولقد كانت صدى المعركة سجلا حافلا لا لما اقتبسناه من جريدة المعركة وحسب، بل لما كتبناه وما استكتبنا من مثقفين عرب ليشهدوا على تلك التجربة..
ولقد كتب رشاد ابو شاور خلاصة تجربته خلال حصار بيروت في كتاب عنوانه «آه يا بيروت» وكان ذلك اول ما صدر عن تجربة الحصار على ما اعلم، وتأتي تجربة امجد ناصر هذه في «بيروت صغيرة بحجم راحة اليد» فتكمل الصورة وتثريها بالتفاصيل.
ما يفرح لدى قراءة الشهادتين، هو ذلك الصدق والشفافية بحيث لم يناقض احدهما الآخر اذ لا مكان للمزايدة والتضخم الذاتي، بل هي شهادة حميمة تمليها امانة موضوعية كأن دم نعم فارس ورفاقها تزكيها، وانى للحبر ان يتجرأ على طهارة الدم.
لقد ارسل امجد ناصر كتابه من القلب المدمى الى قلوب القراء. فكان وثيقة ادبية بقدر ما هي فصول تاريخية مجيدة يحق له ان يباهي بها مرتين، مرة لأنه عاشها، ومرة لانه اعاد انتاجها على الورق بنزاهة وأمانة ولغة عالية.