كراكيب النازح- عزت القمحاوي
كلنا نازحون
سقى الله تلك الأيام دمعــــا أقل، عندما كان النزوح جرحا واحدا، يعانيه الفلسطيني ويألم له العرب الآخرون، كل بقدر استطاعته على تصور أحوال النازح: كيف تكون، كيف يشعر تجاه من وما ترك وراءه؟ هل ينتظر عودة أم لا ينتظر؟ هل من حقه أن يحلم بلقاء أمه مرة أخرى، على أرضه أو على أية أرض أخرى؟
مثال النزوح الفلسطيني الأبرز والأكثر إبداعا كان محمود درويش، وقد رأى بعض أصوليي الوطنية أن يجردوه من حقه في رؤية أمه، هكذا لم يتركوه يهنأ بآخر أحضان الأم، وآخر تنسم لرائحة هواء الطفولة لأنه تجرأ وزار فلسطينه، التي صارت اإسرائيلب بقوة اعتراف عالم القوة وبقوة استغراب بعضنا للحق الطبيعي: حق النازح في العودة.
ويبدو أننا لم ننتبه، في غمرة التشوش بالنزوح الفلسطيني الواضح، إلى أن حركة النزوح قد بدأت من كل البلاد العربية التي تدعي أنظمتها العمل من أجل النازحين الفلسطينيين. نزوح هادئ مثل تسرب المياه من صنبور، اتخذ أسماء أقل إيلاما، كالسفر والهجرة. وبدا النازح سالكا، ليس هناك من يدافع عنه لأنه يبدو بلا قضية، بل قد يبدو طماعا يبحث عن أكثر مما هو متوفر في زنزانة الوطن.
كاد النازح أن يكون مدانا. واليوم، يتسع النزوح الجماعي؛ لم يعد خصيصة فلسطينية، ومـــــــن بين أقسى النزوح ذلك النوع السوري. وللمفارقة، كانت الســــلطة السورية من بين أبرز السلطات المتنطعة لادعاء تطبيـــب جـــرح النــــزوح الفلســــطيني، فإذا بجرح شعبها ينافس الجرح الفلسطيني، بل إنه طغى، ولم يعد الجرح الفلسطيني قادرا على المنافسة، لم يعد هناك من يهتم لفلسطيني تمكن من تقبيل أمه أم مات صامدا على النزوح.
ما يحمل النازح
الشتلات الأكثر رقة لابد أن تنقل بتربتها حتى لا تتعرض الجذور للتلف بسبب تعرضها للهواء المختلف. النازح يحتاج كذلك إلى الخروج بشيء من تربة أرضه لكي يستأنف حياته في المكان الجديد. يحمل الأخف من أشيائه الأعز. ينفرد الفلسطيني بين كل النازحين بمفتاح البيت الذي يتحول ميراثا تتداوله أجيال الغربة، ويحمل مثل الآخرين بعض صور، بعض كتب، بعض أدوات من مطبخه.
هل هذا كل خلاصة العمر؟ بالطبع لا، لكن الأثر المحمول لا يكون إلا بقدر ما يتيحه الظرف الحامل على الفرار: درجة الأمان لحظة المغادرة، قدرة وسيلة الارتحال على الحمل، درجة الأمان في الرحلة.
الهاربون في قوارب الموت بحثًا عن فرصة عمل في شمال المتوسط هم أقل النازحين حملاً، لا يحملون أكثر من قنينة ماء وكسرات خبز. آمالهم قليلة في الوصول إلى الشاطئ الآخر، ويضنون على البحر بأشيائهم العزيزة.
كراكيب هشة
عبادة الكراكيب هي الدين الوحيد الذي لا يؤذي سوى معتنقيه. بدافع من البخل أو بالخوف من الفناء أو بتوهم الخلود يحافظ الناس على كرسي لا سبيل إلى إصلاحه، وكنزة مهترئة لن يعودوا إلى استخدامها مطلقا، وإيصال لمعاملة عابرة لن يتذكروها بعد ذلك أبدا.
سماسرة العقارات يعرفون هذا النزوع الإنساني للاحتفاظ بالقمامة الخالدة، لذلك يغرون المشتري بالميزة التي قد تجعله يتغاضى عن اتساع غرف الشقة المرشحة لسكنه وقبول الإطلالة غير المميزة على الشارع مقابل الإغراء بغرفة خزين تخص الشقة تحت أو فوق البناية.
النازح ليس كالمواطن، لا يهتم بإغراء السمسار لأنه يكترث بوجود غرفة للكراكيب في أول نزوحه، لكنه سرعان ما يخترع غرفة كراكيبه بنفسه، سواء امتلك رفاهية تخصيص غرفة كاملة، تحقق لديانته ميزة العلنية، أو اضطر إلى اختلاق زوايا سرية في غرف البيت العادية.
كراكيب النازح تختلف عن كراكيب صاحب الأرض، لا يمتلك النازح الكثير من الأشياء التالفة، ولا يأمل العيش في مكان النزوح إلى أمد يضطره إلى افتراض العودة لاستخدام القديم المهمل. هو على العكس، يمتلك الجديد الذي يأمل ألا يهرم، وضمنا: ألا يهرم هو في غربته.
يأمل النازح في إقناع الأشياء الجديدة باتخاذ الوجهة المعاكسة: أن تعود معه إلى أرضه. يشتري ما يحبه كي يعينه على تحمل آلام النزوح، لكنه لا يختلي بأشيائه إلا ويوسوس لها، يعدها بأماكن مميزة في بيته الأصلي، يعدها برحلة آمنة لأنه يحتفظ بألواح الفايبر الواقية من الكسر، أوراق التغليف، وعلب الكرتون.
كراكيب النازح من ورق.