عائد الى لوبية- احمد دحبور
كالصاعقة نزل علينا نبأ استشهاد المناضل الوطني الشعبي البارز غسان الشهابي، ومنذ تلك الساعة السوداء من يوم السبت، وأنا استجمع ذلك الوجه البشوش المحب، والمبادرات المتلاحقة التي كان يبديها وينفذها ابو جعفر لتحسين الوضع الفلسطيني في مخيم اليرموك، بل في مجمل المواقع الفلسطينية.
حين افتتح غسان دار الشجرة، كانت الفكرة تتخلق في ذهنه مشروعا وطنيا جامعا، وسرعان ما أصبح ذلك المكتب الصغير في مخيم اليرموك ملتقى للمثقفين الفلسطينيين هناك، حيث لا شرط للانتماء الا الرغبة في العمل والتعارف والعطاء، وكان لي شرف احياء اول امسية شعرية فيه اثر قدومي من فلسطين، ومن يومها اصبحت دار الشجرة عنوانا لي في دمشق. ولقد سألته عن سر اختيار الشجرة اسما لمشروعه ولماذا لا يكون الاسم هو لوبية بلده في فلسطين، وكان رحمه الله يضحك مداعبا: نحن في لوبية شق توأم مع الشجرة، فنحن على غرب الناصرة، والشجرة على الغرب منها، ثم ان الشجرة تشمل الخضرة بكل انواعها، وكان يستطرد بحماسة فلسطينية معددا الاسماء: الصفصاف، لوبية، الدالية، مرج الكروم، عين الزيتون، رمانة، دير الغصون، دير البلح.. هذه كلها ديار فلسطينية، وكلها شجر فكيف لا يكون العنوان الجامع هو الشجرة؟
لقد ضاق الظلام ذرعا بهذا الفلسطيني المثابر الذي لا يريد شيئا لذاته، فحيويته الكبيرة وانتشاره بين العاملين من اجل فلسطين، وبابه المفتوح لكل عمل ثقافي، من الأمور التي تبعث الريبة لدى مؤسسة تشكك في كل شيء وتخاف من كل ظاهرة.. وهكذا تم الايعاز لجماعة المتعاونين ان يصادروا مكان عمله ونشاطه في اليرموك، فانتقل بلا تردد الى مخيم خان الشيح.. وعبثا حاول الأعوان والمخبرون ان يتصيدوا شيئا في هذا النشاط الوطني الثقافي، فلم يحصلوا الا على ما يزيد من غيظهم: ان هذا مشروع وطني مفتوح لكل من يريد ان يقدم شيئا لفلسطين.. اما على المستوى الاجتماعي، فقد واصل ابو جعفر دوره كمحضر خير يجمع بين الاخوة، ولا يتعصب، اذ لا يوجد ما يتعصب له إلا فلسطين..
وبعد جائحة الجنون التي ضربت دمشق العزيزة، وأوصل المرتزقة نارها الى المخيم، كان طبيعيا ان يكون غسان هدفا لقوى الظلام، لا لمخطط لديه او عمل خارج على القانون، بل لتأكيد التمسك بالمسافة الواحدة التي تفصلنا عن اطراف الصراع، لكن هذا الموقف الوطني التلقائي يعني البقاء في المخيم الى ان يحين تحقيق الحلم الأكبر في العودة. وانه لذنب عظيم بالنسبة الى اولئك الذين يعز عليهم ان يبقى الفلسطينيون في المخيم على الحياد، بل دعاة ائتلاف ومحبة، وأذكر تعليقا ساخرا كنا نسمعه في وقت مبكر من عملنا الوطني، عندما كنا ندعو الى عدم التدخل في الشؤون الخاصة لأي قطر عربي، وعدم السماح للقوى الطارئة ان تتدخل في شؤوننا، وكان تعليق اولئك الأعوان والمخبرين على موقفنا، اننا جماعة «يصطفلوا..»، بمعنى اننا سلبيون في الحراك السياسي العربي نترك للعرب ان يصطفلوا بالعمل كما يريدون حتى لو كان العمل يتعلق بفلسطين!؟..
ولأنه لا يصح الا الصحيح، فقد انتصر الخط الوطني الذي ثبت انه لا يفرط ولا يتنازل ولا يتجاهل ما يدور حولنا من احداث.. ولولا انتصار هذا الخط لما اصبحت فتح ضمير الشعب الفلسطيني ومنظمة التحرير الفلسطينية ممثله الشرعي الوحيد..
والحق اني لا اعرف تنظيما سياسيا خاصا بالشهيد ابي جعفر غسان الشهابي، فصداقاته واسعة مع القوى الوطنية الفلسطينية كلها. وقد رأى انه في اختياره الثقافي هذا يشكل ملتقى للجميع، ولقد نجح في ذلك ايما نجاح..
ليس معنى هذا الموقف انه لم يكن ذا رأي مسموع تجاه الأحداث والتطورات، فهو طرف ايجابي، بل هو علامة وطنية، لهذا كانت تصفيته اجراء نذلا ضمن خطة توريط المخيم وربما العمل على اخلائه.
كانت كلماته الأخيرة رحمه الله هي ان العودة بوصلتنا وموصلتنا الى بر السلامة، ولا شيء في الدنيا يعوضني عن لوبية.. وكان يصرخ بالذين يغادرون بل يهاجرون من المخيم اثر فتنة لا معنى لها: ليس من العدل ان نستبدل شعار العودة الى فلسطين بشعار العودة الى المخيم.. فيجب ألا نهاجر منه الا باتجاه العودة الى الوطن..
حين اغتيل شهيدنها غسان كنفاني كتب محبوه انه عائد الى عكا، مدينته الحبيبة على غرار عنوان روايته عائد الى حيفا، وأمام استشهاد غسان الشهابي نقول: انه عائد الى لوبية، وباق في قلوب الفلسطينيين والشرفاء.